سعيد رفيع - خليك دوغري

كنت على علاقة وصداقة وطيدة بالمرحوم طلعت مهران , الذي كان يشغل منصب رئيس اقليم جنوب الصعيد الثقافي , وكان رحمه الله يزورني كثيرا , حيث كان من عشاق مدينة الغردقة , وذات يوم اتصل بي هاتفيا , واخبرني انه في الأقصر لحضور اجتماع هام مع بعض الأدباء , وطلب مني أن احضر الاجتماع معهم صباح اليوم التالي , بمنطقة العوامية في الأقصر , حيث يعقد الاجتماع , في تمام الساعة الحادية عشرة صباحا , وأكد المرحوم طلعت مهران على ضرورة الالتزام بالموعد المحدد للاجتماع دون أي تأخير .
وبالفعل غادرت رأس غارب صباح اليوم التالي , في السادسة صباحا ، مطمئنا الى أنني سأصل الى الأقصر في الموعد المحدد للأجتماع . وبمجرد وصولي للأقصر فكرت في الاستعانة بأحد المارة ليرشدني للطريق الى منطقة العوامية ، ورغم أنه قد سبق لي ان ذهبت مرة للعوامية بالاستعانة بالمارة ، فقد وجدتني في المرة الثانية ايضا في حاجة للمساعدة .
الرجل الذي توقفت امامه لأستفسر منه عن الطريق كان نحيفا أشيب الشعر ، يرتدي جلبابا أبيض اللون ، توقفت أمامه .. ثم ضغطت على آلة التنبيه ، فالتفت نحوي ، أشرت اليه بكفي ، فجاءني مهرولا ، وأدخل رأسه ورقبته الطويلة من نافذة السيارة .. ثم قال :
ـــ أي خدمة يا باشا ؟.
ـــ فين طريق العوامية لو سمحت ؟.
اخرج رأسه من السيارة .. وشرع يتلفت يمنة ويسرة .. ثم عاد وأدخل رأسه من جديد .. وقال :
ــــ انا أوصلك يا باشا .
أشفقت على الرجل ، وقلت له بلطف انه يكفي أن يرشدني الى الطريق دون أن يتحمل عناء توصيلي بنفسه . وما كدت انتهي من كلامي حتى بادر الرجل بفتح باب السيارة ، ورمي بجسده على المقعد المجاور ، ثم القى برأسه الى الخلف .
وبالطبع لم استغرب ما فعله الرجل ، لأنني ادرك جيدا ما يتفرد به أهل الأقصر من كرم ، ومن عدم تردد في تقديم العون والمساعدة للغرباء .
انطلقت بسيارتي .. وسألت الرجل :
ـــ نمشي يمين ولا شمال ؟
ـــ لا يمين ولا شمال .. خليك دوغري .
ومشيت دوغري مثلما نصح الرجل ، حتى لاح أمامي مفترق للطرق .. فعدت اسأل الرجل : يمين ولا شمال ، وعاد الرجل يقول : خليك دوغري .. خليك دوغري .
قلت في بالي : دوغري .. دوغري .. أهل مكة أدرى بشعابها .
واستمر سيرنا دوغري ، دونما اعتراض من الرجل ، حتى فوجئت بحواجز أمنية ، وشرطي يشير الينا بالعودة من حيث أتينا .
أخبرت الرجل أنني في المرة السابقة التي ذهبت فيها للعوامية نصحني المارة بسلوك طريق الكورنيش ، وقد فعلت ذلك ، ووصلت للعوامية في وقت قصير ، فنظر لي نظرة استشعرت فيها عتابا على اتهامي المستتر له بالجهل .. ثم قال منفعلا :
ــــ " خليك دوغري يا أستاذ .. هوديك في طريق مختصر أحسن من طريق الكورنيش".
عدت بسيارتي الى الخلف مسافة طويلة حتى قابلنا مفترقا أخر للطرق ، فأشار لي الرجل بأن اسلك الطريق الأيمن ، فشعرت بالراحة ، وظننت أن الرجل قد اهتدى أخيرا الى الطريق الصحيح ، فسلكت الطريق الايمن كما نصح ، فلما وصلنا الى تقاطع طرق جديد ، نظرت الى الرجل .. وقبل أن أنطق بكلمة .. قال بثقة : " خليك دوغري على طول .. على طول".
انطلقت بسيارتي دوغري .. دوغري على طول .. على طول ، كما نصح الرجل ، وبعد مرور بعض الوقت شعرت بأننا نبتعد عن العمران ، فالتفت الى الرجل ، فأشار الى الامام بسبابته .. وعاد يقول : " خليك دوغري .. على طول .. على طول " .
لم يمض وقت طويل بعد ذلك ، حتى أدركت أننا قد خرجنا من المدينة بالفعل ، ورأيت لوحة ارشادية يشير فيها السهم الى مدينة طيبة الجديدة ، عندها انتحيت بسيارتي جانبا ، وأطفأت المحرك ، ثم قلت غاضبا :
ـــ انت متأكد انك من الاقصر ؟!
ـــ طبعا .
ـــ انت ساكن فيها من زمان ؟!
ـــ أبـا عن جـــد .
أيقنت أن الرجل اما مختل ، أو يعاني من درجة متأخرة جدا من درجات الزهايمر ، وشعرت بالزهق والغضب معا ، وكدت أن أفتح باب السيارة والقي به في الخلاء ، ولكني تذكرت انني شخصيا لست خاليا من الزهايمر تماما ، بدليل أنني استعين بالمارة في كل زيارة لي للأقصر ،
وعدت أنظر الى الرجل ، والى شعره الأشيب ، وتلك الاخاديد العميقة المحفورة على صفحة وجهه ، فراودني نحوه شعور رهيف بالشفقه ، وقررت أن اعود به لأنزله في قلب المدينة .
بعد عودتنا للمدينة مررنا بمسجد يرتفع منه آذان الظهر ، فصاح الرجل ، وهو يضرب كفا بكف : ياااااااااااه .
نظرت اليه مستغربا ، فقال بحسرة : " يا خسارة .. هتفوتني صلاة الضهر جماعة ".
لم أغضب .. بل فرحت اذ سنحت لي الفرصة للتخلص منه ، فضغطت على المكابح .. وتوقفت السيارة :
ـــ انزل يا عم صلي الضهر حاضر .
ـــ مش مهم .. أصليه في البيت .
ـــ يا عم انزل .
ـــ لا .. لا .. مش لازم أصلي في الجامع ..أصليه في البيت .
ـــ يا عم متحملنيش ذنوبك .. انزل صلي الضهر حاضر .
ــــ مفيش ذنوب ولا حاجة .
وهنا اتسعت حدقتا عيني .. وشعرت بالدم يندفع حارا الى وجهي .. فانحنيت قليلا نحو اليمين .. ومددت ذراعي الايمن عن آخره وفتحت الباب .. ثم صحت بأعلى درجة يمكن أن يبلغها صوتي الواهن :
ــــ لو مانزلتش تصلي الضهر حاضر .. هطلع عين أهلك .
اخذ الرجل يتفرس في وجهي .. ويبدو أنه استشعر خطرا ، فتأهب للنزول .. ولم تكد قدماه تلامسان الأرض .. حتى ضغطت على دواسة البنزين بقوة .. وانطلقت بأقصى سرعة .. أقصى سرعة .. متأخرا عن موعد الاجتماع ساعة كاملة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى