فتحي عثمان - الكلمات: كاسيات وعاريات

يبدو، وللوهلة الأولى، تخيل أن اللغة رداء يستر أو يعري الفكر محيرا بعض الشئ.

ربما يساعد تمديد المخيلة في مساحة هذا الافتراض، أي افتراض أن اللغة رداء، على الخروج من دائرة الحيرة إلى دوائر أخرى.

لنبدأ، عمليا، بتخيل أن الفكرة تستعد للخروج إلى حفل ساهر، وأمامها خزانة كاملة من الكلمات- الأزياء. حيرة الفكرة لا تقل عن حيرتنا، فهي لا تريد أن يكشف الرداء وزنها الذي زاد مؤخرا، وهو فائض مشوه لجمالها، كما تحسب. أما الرداء الآخر فهو مستعمل ظهرت به من قبل، والثالث والرابع ...... هذا افتراض مؤداه أن الفكرة "غنية" ومقتدرة وخزانتها "محشوة" بما يكفي من الأزياء، بالمقابل هناك فكرة فقيرة، معدمة تود مجاراة "الموضة"، ولكن فقرها يعجزها إلا عن استعمال أزياء بالية أو على الأقل مستعارة. يمكن المضي في هذا التخيل حتى استنزاف ممكناته المتاحة.

دعونا نتحول إلى تقنين حيثيات العلاقة بين الفكرة والكلمة بمعيار المقام والمقال، حيث يورد كبار نقاد الآدب من الأجداد عبارة: " لكل مقام مقال"؛ وهو ما أوجد "معيار الذهب" وهو الكلمة الشريفة. ويمثل البعد الماورائي لعبارة: "كلما اتسعت الفكرة، ضاقت العبارة" سقف تلك العلاقة. في هذه الأيام انزلق المبحث، وعبر تدريس الكتابة الإبداعية وكتب تعليم الكتابة إلى تقنية " اختيار الكلمات".

يعود متخصصون إلى حقبة ذهبية في الكتابة النثرية في اللغة الفرنسية ساد فيها استعمال "الكلمة المناسبة"، والتي لا تزيد أو تنقص عن الباس الفكرة معناها الكامل، وهو الأسلوب الذي ميز كتابات غوستاف فلوبير، في سائر أعماله، حيث دافع غير مرة عن أن شطب كلمة واحدة من عمله يقوض أركان العمل كلها.

قبل ذلك وبحوالي الفين وخمسمائة سنة سجل الفيلسوف اليوناني زينوفون في تاريخه لمؤسس الإمبراطورية الفارسية "قورش" او سايروس الكبير استخدام الكلمة لإسبال رداء الحكمة على الخذلان والانهزام.
يتجسد الموقف في طلب القائد الشاب سايروس من عمه سيازروس مده بكتائب من الخيالة والمشاة في حملته الشهيرة لغزو بابليون.

فتش سيازروس في خزانة أزياءه عن الكلمات التي يمكن أن تكسو فكرته فلا تخرج عارية ومعيبة، إذ جنح إلى بسط رداء من "الحكمة" ورفض الطيش والتهور عليها قبل خروجها إلى الملأ.

الفكرة عنده لم تكن سوى محاولة التملص والبحث عن لبوس من التبرير، وعليه ماذا يمنع من رمى الرداء في وجه المستمع أو قذف الوشاح الأحمر في وجه الثور المتحفز، سجل زينوفون كلمات سيازروس بدقة: "الكثير من القادة المنتصرين خسروا انتصارهم الأول في سعيهم إلى انتصارهم الثاني."

ثم واصل ليلبس الفكرة ثوب الحكاية ليحكي له مغامرة التجار الذين في سعيهم للمزيد من الربح ركبوا البحر الهائج، فكان ان ابتلعتهم الأمواج.
ثم جاءت فكرة الأخيرة مستترة بأجمل أثوابها، ولكنها كانت تعاني من سياط الأسئلة التي تؤرقها وهي أسئلة قدرتها على الأعجاب والإقناع، ولكن لا مناص من الخروج.
يرسل سيازروس كلماته: "أرى أن الانتصارات التي تحققت تطلب منا الصحو وعدم الانتشاء، فإذا حافظنا على مكاسبنا الراهنة يمكننا أن نعيش عمرا مديدا في سلام، ولكن إذا سعينا إلى مزيد من الانتصارات ستحولنا الآلهة إلى خاسرين في النهاية."
لم يخف الرداء "عري" الفكرة عن سايروس حيث خلد زينوفون رده فعله حين قال: "لم أسمع من قبل وصفة للجبن بهذا القدر من الخسة."

المسيرة الطويلة للأفكار المعيبة والمخذلة على مدى التاريخ تثبت أنها، أي هذه الأفكار، تمضي وقتا كبيرا من عمرها أمام خزانة بائسة من الأزياء، ولا يكون شاغلها إلا الخروج إلى سهرة يكون مسرحها هو المجون والغياب.

ما من أبيات تكشف عري اللغة واستعدادها، الدائم، لأن ترتدى وتبتذل عند كل سهرة أكثر من كلمات الشاعر مريد البرغوثي في قصيدته "شهوات" عندما يقول:

شهوة أن تكون المودة في عزها واضحة
دون طعم الوعود ودون اللغة
فاللغة علبة للرياء
لعبة في يدي من يشاء
واللغة رشوة للنساء
واللغة سمسم الكاذبين الوفير
وفخ يهيأ للبنت منذ الصباح المنمق
حتى سرير المساء.

29 أغسطس 2022

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى