كان زر جرس الباب الخارجي هو الوحيد الأبيض النظيف في صفحة هذا الجدار المهدم، والمقشوط من بعضه الاسمنت، وقد علا بعضه اللون الأبيض ليشير إلى رطوبة قد علته ووصلت اليه منذ فترة فتراكمت طبقة من الملح تساقط بعضه على الأرض وترك فيها بقعا بيضاء مدافة ببعض التراب الناعم.
الشمس ما زالت لم تصل الى كبد السماء ذات الصفحة الزرقاء، والخالية من الغيوم.
لم يكن للدار من سياج يحيطه، كان الدار مبنيا مباشرة إلى قارعة الشارع العريض، وقد فتحت نوافذه عليه، ووضع عليها مشبك لمنع الذباب، والبعوض، من الدخول إلى غرفه.
ظهر من باب الدار المجاور صبي عاري الصدر، يرتدي لباس أبيض قصير، نظر الى جانب الرجل بعض الوقت، ونظر الى الجهة الأخرى، ثم قفل راجعا حيث أخفاه باب الدار ثانية.
ضغط على الزر فسمع صوت رنينه يأتيه من داخل، انتظر بعض الوقت، بعد أن ابتعد خطوات من الباب، ثم تقدم مرة أخرى، وضغط على الزر فسمع صوت رنينه ثانية يأتيه من داخل الدار، أعاد الضغط عدة مرات، وبفترات متباعدة، وفي الضغطة السادسة سمع صوتا انثويا واهنا كأنه يأتيه من مسافة بعيدة، يقول:
- من؟
صاح من مكانه:
- أنا صديق.
جاءه الصوت، وهو يقترب نحو باب البيت الخشبي الذي فقد كل طلاء من زمن بعيد، وعلت خشبه المتآكل الحواف، ثقوب للمسامير دقت به ثم قلعت أو انها صدأت في مكانها، فيما كانت هناك في أعلاه بقايا مطرقة نحاسية صدئة كانت تستعمل للطرق. وفجأة فتح الباب قليلا، وسمع من خلف الباب من يكلمه بنبرة الصوت ذاتها:
- اهلا بالصديق.
فرد عليها قائلا:
- حجية هل هذا منزل المعلم كريم؟
لم يعرف ما في داخل الدار، ولا كان مهتما بذلك. كان همه اللقاء بالأستاذ المعلم، فقد كان الباب الخشب قد فتح قليلا.
ردّ عليه الصوت الواهن:
- نعم، انه منزله، ماذا تريد منه؟
ردّ على الصوت النسائي القادم من خلف الباب:
- حجية أين الأستاذ كريم؟
جاءه الصوت الواهن، وقد خمن، ربما، أوهنته الشيخوخة:
- انه في النجف.
ردّ بإطمئنان زائد:
- ومتى يعود؟
قالت، وقد تهجد صوتها الواهن الضعيف:
- لن يأتي يا أبني؟
سأل باندهاش:
- هل انتقل إلى هناك؟
أجابت بنبرة الصوت الواهن:
- نعم يا ابني، انه تحت التراب.
***
لم يكن مختلفا عن بقية الأطفال في الصف، كان يتمنى أن يكون طبيبا، أو مهندسا، أو طيارا، بعد اكمال دراسته. وأشد ما كان يؤلمه هو أصرار المعلم كريم على ضربه بالخيزرانة التي يدعوها "العلوية" حتى يبكي، وتسقط دموع عينيه، لعدم معرفته بالأسئلة التي يطرحها عليه هذا المعلم، وهي اسئلة لا تمت للكتاب المنهجي بصلة.
كان وقتها لا يعرف سبب قبول والده بما يحدث له في الصف مع هذا المعلم، مع العلم ان المدير هو ابن عمته فلماذا لا يشتكي عنده، أو على أقل تقدير يوصيه بعدم ضرب ابنه من قبل هذا المعلم.
ها هو الآن في الخمسين من عمره، وقد أصبح أمهر، وأشهر،"فيتر" سيارات المارسيدس في المدينة. كان، وبعد أن تتلقى كفاه، ومؤخرته، ضربات "العلوية" التي تشعل النيران في جسده النحيل، يعود إلى مكانه، وقد تورمت كفيه، واحمرت مؤخرته من تحت ملابسه من ضرب "الخيزرانة" له.
في مرة انبجس الدم كنافورة صغيرة من راحة كفه، كان مثل رمانة ناضجة وقد انبجس منها سائلها الأحمر بعصرة واحدة.
سأل المرأة الواقفة خلف الباب:
- هل مات المعلم؟
أجابت بلا تردد، وبصوت واهن يحمل بعض النشيج:
- منذ خمس سنوات.
ردّد بصوت خفيض:
- الله يرحمه.
***
ترك الدراسة بعد أن ظهرت نتيجة الامتحان، وقد رسب في درس ذلك المعلم. لم يكلمه والده عن نتيجة الامتحان، أو عن تركه للدراسة، وعن عمله في ورشة تصليح السيارات التي يمتلكها جارهم "أبو أحمد"، ولم يحدثه هو.
سألته بنفس الصوت المشوب بالنشيج:
- ماذا تريد منه؟
قال لها، وهو يتأسف لعدم لقائه به:
- جئت من مدينتي لكي أسلم عليه.
قالت وما زال نحيبها الخافت يصل إلى خارج باب الدار:
- الله يحفظك ابني. ثم أردفت قائلة:
- هل أنت من أصدقائه؟
قال لها بلا تردد:
- أنا أحد طلابه.
عندها ندت منه أهة طويلة خالها قد وصل صوتها إلى المرأة ذات الصوت الواهن الذي أكله تقدمها في السن، وفقدانها زوجها المعلم.
سارع، وسألها:
- حاجة هل أنت زوجته؟.
خرج صوتها الواهن من فتحة الباب الخشبي القديم:
- نعم.
سألها مستفسرا:
- هل ترك بعد وفاته عصى "خيزران" كان يحتفظ بها حين كان في المدرسة الشرقية الابتدائية؟
سكتت زوجة المعلم بعض الوقت خالها انها تتذكر تلك العصى، وفجأة قالت بصوتها الواهن:
- لا أعرف عنها شيئا. ماذا تريد بها؟
مرّ من أمام ذاكرته شريط سينمائي لضربه اياه بشدة، وبقسوة، ان كان بسبب عدم اجابته عن أسئلته البعيدة عن الكتاب الذي درسناه، أو بلا سبب.
***
مرة ذكر له والده قبل أن يموت بفترة قصيرة عن عدم شكايته من المعلم لابن عمته المدير، أو للشرطة، في انه عندما كان صبيا كوالده، كان يضربه والده كثيرا، لقد شبع منه ضربا، ولكما، و"دفرات".
ضحك وقتها والده كثيرا، واستمر في الادلاء بذكرياته عن المعلم كريم، قال:
- كنا أبناء منطقة واحدة، وأبناء مدرسة واحدة، إلا انه استمر في الدراسة وصار معلما، وأنا تركت الدراسة مثلك وعملت مع والدي في البناء حتى أصبحت "أسطة" بناء يؤشر عليه بالبنان.
***
حياها تحية الوداع بعد أن ترحم على الأستاذ المعلم كريم، وقفل عائدا من حيث أتى، وهو يردد مع نفسه: لو كنت التقيت به لشرحت له كيف كان ضربه مؤلما لكنه ليس كما كان يضربه والدي، "دفرات، ولكمات".
ابتسم فانفرجت شفتاه قليلا، وظلت أسنانه مخفية وراءهما، لا ترى لأحد، فيما بصيرته رأت من خلال ذاكرته النشطة كفيلم سينمائي كيف كان والده يركله بقدمه، وكيف كان يضربه، ويلكمه، ويعضه في أي مكان يصل إليه، والأستاذ كريم، أقصد الصبي كريم، يصرخ، ويصيح، بصوت عال، وتسيل دموعه كما سالت من عينيه في الصف بعد ضرب "العلوية" كفيه، واليته، وفخذيه.
الشمس ما زالت لم تصل الى كبد السماء ذات الصفحة الزرقاء، والخالية من الغيوم.
لم يكن للدار من سياج يحيطه، كان الدار مبنيا مباشرة إلى قارعة الشارع العريض، وقد فتحت نوافذه عليه، ووضع عليها مشبك لمنع الذباب، والبعوض، من الدخول إلى غرفه.
ظهر من باب الدار المجاور صبي عاري الصدر، يرتدي لباس أبيض قصير، نظر الى جانب الرجل بعض الوقت، ونظر الى الجهة الأخرى، ثم قفل راجعا حيث أخفاه باب الدار ثانية.
ضغط على الزر فسمع صوت رنينه يأتيه من داخل، انتظر بعض الوقت، بعد أن ابتعد خطوات من الباب، ثم تقدم مرة أخرى، وضغط على الزر فسمع صوت رنينه ثانية يأتيه من داخل الدار، أعاد الضغط عدة مرات، وبفترات متباعدة، وفي الضغطة السادسة سمع صوتا انثويا واهنا كأنه يأتيه من مسافة بعيدة، يقول:
- من؟
صاح من مكانه:
- أنا صديق.
جاءه الصوت، وهو يقترب نحو باب البيت الخشبي الذي فقد كل طلاء من زمن بعيد، وعلت خشبه المتآكل الحواف، ثقوب للمسامير دقت به ثم قلعت أو انها صدأت في مكانها، فيما كانت هناك في أعلاه بقايا مطرقة نحاسية صدئة كانت تستعمل للطرق. وفجأة فتح الباب قليلا، وسمع من خلف الباب من يكلمه بنبرة الصوت ذاتها:
- اهلا بالصديق.
فرد عليها قائلا:
- حجية هل هذا منزل المعلم كريم؟
لم يعرف ما في داخل الدار، ولا كان مهتما بذلك. كان همه اللقاء بالأستاذ المعلم، فقد كان الباب الخشب قد فتح قليلا.
ردّ عليه الصوت الواهن:
- نعم، انه منزله، ماذا تريد منه؟
ردّ على الصوت النسائي القادم من خلف الباب:
- حجية أين الأستاذ كريم؟
جاءه الصوت الواهن، وقد خمن، ربما، أوهنته الشيخوخة:
- انه في النجف.
ردّ بإطمئنان زائد:
- ومتى يعود؟
قالت، وقد تهجد صوتها الواهن الضعيف:
- لن يأتي يا أبني؟
سأل باندهاش:
- هل انتقل إلى هناك؟
أجابت بنبرة الصوت الواهن:
- نعم يا ابني، انه تحت التراب.
***
لم يكن مختلفا عن بقية الأطفال في الصف، كان يتمنى أن يكون طبيبا، أو مهندسا، أو طيارا، بعد اكمال دراسته. وأشد ما كان يؤلمه هو أصرار المعلم كريم على ضربه بالخيزرانة التي يدعوها "العلوية" حتى يبكي، وتسقط دموع عينيه، لعدم معرفته بالأسئلة التي يطرحها عليه هذا المعلم، وهي اسئلة لا تمت للكتاب المنهجي بصلة.
كان وقتها لا يعرف سبب قبول والده بما يحدث له في الصف مع هذا المعلم، مع العلم ان المدير هو ابن عمته فلماذا لا يشتكي عنده، أو على أقل تقدير يوصيه بعدم ضرب ابنه من قبل هذا المعلم.
ها هو الآن في الخمسين من عمره، وقد أصبح أمهر، وأشهر،"فيتر" سيارات المارسيدس في المدينة. كان، وبعد أن تتلقى كفاه، ومؤخرته، ضربات "العلوية" التي تشعل النيران في جسده النحيل، يعود إلى مكانه، وقد تورمت كفيه، واحمرت مؤخرته من تحت ملابسه من ضرب "الخيزرانة" له.
في مرة انبجس الدم كنافورة صغيرة من راحة كفه، كان مثل رمانة ناضجة وقد انبجس منها سائلها الأحمر بعصرة واحدة.
سأل المرأة الواقفة خلف الباب:
- هل مات المعلم؟
أجابت بلا تردد، وبصوت واهن يحمل بعض النشيج:
- منذ خمس سنوات.
ردّد بصوت خفيض:
- الله يرحمه.
***
ترك الدراسة بعد أن ظهرت نتيجة الامتحان، وقد رسب في درس ذلك المعلم. لم يكلمه والده عن نتيجة الامتحان، أو عن تركه للدراسة، وعن عمله في ورشة تصليح السيارات التي يمتلكها جارهم "أبو أحمد"، ولم يحدثه هو.
سألته بنفس الصوت المشوب بالنشيج:
- ماذا تريد منه؟
قال لها، وهو يتأسف لعدم لقائه به:
- جئت من مدينتي لكي أسلم عليه.
قالت وما زال نحيبها الخافت يصل إلى خارج باب الدار:
- الله يحفظك ابني. ثم أردفت قائلة:
- هل أنت من أصدقائه؟
قال لها بلا تردد:
- أنا أحد طلابه.
عندها ندت منه أهة طويلة خالها قد وصل صوتها إلى المرأة ذات الصوت الواهن الذي أكله تقدمها في السن، وفقدانها زوجها المعلم.
سارع، وسألها:
- حاجة هل أنت زوجته؟.
خرج صوتها الواهن من فتحة الباب الخشبي القديم:
- نعم.
سألها مستفسرا:
- هل ترك بعد وفاته عصى "خيزران" كان يحتفظ بها حين كان في المدرسة الشرقية الابتدائية؟
سكتت زوجة المعلم بعض الوقت خالها انها تتذكر تلك العصى، وفجأة قالت بصوتها الواهن:
- لا أعرف عنها شيئا. ماذا تريد بها؟
مرّ من أمام ذاكرته شريط سينمائي لضربه اياه بشدة، وبقسوة، ان كان بسبب عدم اجابته عن أسئلته البعيدة عن الكتاب الذي درسناه، أو بلا سبب.
***
مرة ذكر له والده قبل أن يموت بفترة قصيرة عن عدم شكايته من المعلم لابن عمته المدير، أو للشرطة، في انه عندما كان صبيا كوالده، كان يضربه والده كثيرا، لقد شبع منه ضربا، ولكما، و"دفرات".
ضحك وقتها والده كثيرا، واستمر في الادلاء بذكرياته عن المعلم كريم، قال:
- كنا أبناء منطقة واحدة، وأبناء مدرسة واحدة، إلا انه استمر في الدراسة وصار معلما، وأنا تركت الدراسة مثلك وعملت مع والدي في البناء حتى أصبحت "أسطة" بناء يؤشر عليه بالبنان.
***
حياها تحية الوداع بعد أن ترحم على الأستاذ المعلم كريم، وقفل عائدا من حيث أتى، وهو يردد مع نفسه: لو كنت التقيت به لشرحت له كيف كان ضربه مؤلما لكنه ليس كما كان يضربه والدي، "دفرات، ولكمات".
ابتسم فانفرجت شفتاه قليلا، وظلت أسنانه مخفية وراءهما، لا ترى لأحد، فيما بصيرته رأت من خلال ذاكرته النشطة كفيلم سينمائي كيف كان والده يركله بقدمه، وكيف كان يضربه، ويلكمه، ويعضه في أي مكان يصل إليه، والأستاذ كريم، أقصد الصبي كريم، يصرخ، ويصيح، بصوت عال، وتسيل دموعه كما سالت من عينيه في الصف بعد ضرب "العلوية" كفيه، واليته، وفخذيه.