مالت شمس النهار القصير إلى مغيبها اليومى، فاكتست الأنحاء الجرداء المحيطة بقلعة «فردجان» البائسة، بالوحشة الشتوية المعتادة فى الليلات الطويلات، وابتدأ البرد فى الاشتداد.. انعدمت بعد هنيهة رؤية المدى، وصفر الهواء من فتحات رمى النبال، معلناً عن عصفٍ آتٍ. ومع ذلك، ظل منصور «المزدوج» آمر عسكر القلعة ساكناً فى جلسته على السطح، يحدق من علٍ فى الطريق المتعرج النحيل، المؤدى إلى قلعته المعزولة، ويراقبه بقلقٍ بوجلٍ، تقدم واحد من الخدّام الثلاثة الواقفين من خلفه بخشوع، منذ الظهيرة، وأشعل فتيلة القنديل ثم اقترب من «المزدوج» وسأله بهمس يناسب رهبته فى القلوب، إن كان يود أن يأتوه بشىء من الشراب العتيق، المعين على اتقاء الصقيع المرتقب، أو يشتهى الآن وجبة العشاء.. أشاح «المزدوج» بظاهر كفه اليسرى رافضاً، فتراجع الخادم إلى موضعه الأول صاغراً، يائساً من الاستدفاء، وضم حسرته إلى تحسر زميليه..
لما عم الظلام، قام «المزدوج» وصاح بصوته الجهير، سائلاً مراقب برج القلعة، إنه يرى فى الأفق قادمين، فأجابه من فوره: لا أحد على الطريق يا سيدى الآمر.. كأنه أراد أن يستوثق من أمرٍ، فسأله مجددا: هل ترى فى الأفق نار مشاعل أو وميض لهب استغاثة؟ فجاءت الإجابة من فوق الظلام المحيط ببرج القلعة: لا يا سيدى الآمر.
فى تلك اللحظة، وصل إلى السطح رئيس حراس البوابة «حامد البرجندى»، المعروف بين عسكر القلعة بالزعاق، وخلفه خادم من الجند بيده قنديل يضىء. كان يريد الاطمئنان على رئيسه الجالس منذ ساعاتٍ يترقب القادمين، على غير عادته، وعندما رآه يتجه إلى الدرج الضيق المؤدى إلى غرفته، سار وراءه صامتاً متحشماً من الكلام أمام الخدم وصغار الجند، ودخل خلفه إلى الغرفة الفسيحة نسبيا، ولما انفردا سأله:
ــ يا سيدى، أراك مهموما بأمر السجين القادم!
ــ هو ليس سجيناً يا حامد. السجين يحكم عليه القاضى بحبسٍ، فيرسلونه إلى هنا إن كان خطيراً، ويخشى هربه من الحبوس العمومية ليقضى زمن سجنه فى سكون، أما هذا القادم فهو معتقل بأمر الأمير «تاج الملك» ولم يحاكم أو تحدد لحبسه فترة معلومة سلفاً.
ـ لكن هذا غير موجب للقلق يا سيدى الآمر، فكم حبس هنا سجناء ومعتقلون.. أم أن كونه وزيراً سابقاً هو ما يقلقك؟
ــ لا قيمة لوزير خلع بعد حمله الأوزار.. أهمية هذا الرجل يا حامد تأتى من شهرته كحكيم بارع، ومن صداقته مع «علاء الدولة» حاكم أصفهان. والذين جاءوا اليوم مع خيل البريد أخبروا بأنه اعتقل، أمس الأول فجراً، بعد أن وشى الوشاة إلى العسس باختبائه فى دار «أبى غالب العطار» بهمذان، فكبس عسكر الأمير الدار واعتقلوه وأرسلوه تحت الحراسة المشددة إلى هنا.. فكيف لم يصلوا به حتى الآن؟ هل قطع عليهم الطريق، أم أرسل «علاء الدولة» جندا فاستنقذوه من عسكر «تاج الملك»..؟
ــ صباح غدٍ ينجلى كل شىء يا سيدى.. هل تريد شيئاً قبل انصرافى.
ــ زد عدد الحراس عند البوابة، وضع بالبرج أفضل الرقباء.
ــ سمعاً وطاعة يا سيدى.
ساد السكون ممرات القلعة وفناءها والغرف والزنازين، كأن الكون نام مع كل من فيه، وحول القلعة هبط ظلام ثقيل زاده الزمهرير قتامة.. هذا شأن الشمال الفارسى وقِفاره فى ليالى الشتاء، وكلما توغلنا شمالاً ناحية زنجان وتبريز وأردبيل، صارت الليلات الشتوية أشد شراسة، حتى إنها تسقط أحياناً أطراف المسافرين ليلاً، إذا لم يستدفئوا. فجأة قبل انتصاف الليل، صدحت صيحات الحراس من أعلى برج القلعة، مخبرة بأن مشاعل عسكر الأمير «تاج الملك» تقترب رويداً من باب القلعة.
على عجل ارتدى «الآمر» ملابسه الرسمية، وخرج إلى الشرفة المطلة على فناء القلعة ينظر إلى الجند الداخلين من الباب الصغير، ووسطهم (المعتقل) يجر السلاسل المقيدة لقدميه وكفيه. وكما هو معتاد، ذهب العسكر القادمون بالمقبوض عليه إلى غرف الضيافة الأرضية. وجاء «الزعاق» وخلفه المعتقل الجليل إلى «الآمر» الذى أمر بتحريره من الأصفاد، وسار أمامه حتى جلسا منفردين فى القاعة الوسطى، فاستدعى بحساء دافئ وطعام للمعتقل، وأخذ يلاحظه وهو يأكل ببطء، وبغير انكسار، ثم صرف عن القاعة الحرس والخدام وبدأ معه الحديث بحرص:
ــ أخبرنى الحراس بأن سفركم كان شاقاً.
ــ السفر قطعة من العذاب، فما بالك بسفر المعتقل المصفد بالسلاسل.
ــ لا بأس، ها قد وصلتم بسلام، ولعلك تدرك أن الأمير «تاج الملك» لو أراد هلاكك لكان قد أمر بقتلك فى همذان، بدلاً من إرسالك لتحبس هنا حيناً ثم تخرج حين يأتى الأوان.
ــ دخولى باليقين كما تراه، وكل الشك فى أمر الخروج.
ــ سنرى ما يكون.. ولى معك فى الصباح حديث، وستكون إقامتك بغرفة فى برج القلعة، فمثلك لا يودع فى زنازين. إذ لابد من إنزال الناس منازلهم.. يا حراس، خذوا الشيخ الرئيس إلى محبسه، واتركوا معه قنينة الشراب هذه.
ابتسم «ابن سينا» حين سمع آمر القلعة، الضخم، يصفه بلقب الشيخ الرئيس. وأدرك أن هذا الرجل خطير، ويعرف الكثير، فهذا اللقب الذى يطلقه عليه تلامذته المقربون، متداول بينهم وغير معروف لغيرهم.. وكذلك إحاطته بشغفه الوفير المستتر بالشراب. ولهذا، نظر ابن سينا إلى الآمر، وهو يفارقه نظرة لا يستطيعها غيره! فيها حسرة وحكمة، وامتنان يمازجه الشعور بالهوان، واعتداد بما لا يعرفه معظم الناس من ابتئاسٍ بما آل إليه الحال من مآل.. فغض «الآمر» أنظاره وابتسم فى سره.
■■■
أوان الضحى طرق أحد الحراس باب ابن سينا، وأدخل إليه ماء دافئاً للاستحمام وملابس نظيفة، وترك له مهلة ساعة قبل أن يقتاده إلى آمر القلعة. من دون أصفاد. فى القاعة ذاتها التى التقيا فيها بالأمس، كان الآمر جالساً وإلى جواره اثنان من أعوانه، والزعاق، وأمامهم طاولة عليها أطباق طعام ساخن، وخضروات طازجة، جلس، فدعاهم «الآمر» للأكل معه بعد أن قال لابن سينا بنبرة متوددة، إنه طلب أن تكون على المائدة «هندباء» لأنه يعرف أن رئيس الحكماء المعتقل، ألّف رسالة خاصة فى فوائدها الغذائية.. ضحك ابن سينا وهو يقول للآمر: أنت تعرف أشياء كثيرة..
بعد وجبة الغداء، صرف الآمر أعوانه، وبدا أنه يريد أن يتحاور مع ابن سينا فى أمورٍ. لكنه أطال التمهيد. بادره الشيخ الرئيس بقوله المباشر: منذ ليلة أمس، وأنت توحى إلى بأنك تعرف عنى الكثير، وتغمرنى بفضلك وكرمك، وظاهر أنك تريد منى شيئا، فلو تفضلت بالإفصاح عنه بوضوح، أعدك بأننى لن أتأخر عن بذل ما أستطيعه، وفاء لحسن وفادتك.
ــ ههه، يا أبا على، والله إنك لمن الماهرين. نعم أريد منك شيئاً، وأثق فى أنك لن تتأخر فيه. لكننى لم أوهمك بمعرفتى أسراراً تخصك، فمقالتك فى الهندباء مشهورة عند الناس، ويتناسخها الورّاقون فى القرى والمدن. ولقبك الذى تظنه مستوراً بين تلامذتك شاع على ألسنه كثير من الناس وسلم لك كثير من العلماء والعارفين، بأنك «الشيخ الرئيس» لجودة مصنفاتك ودروسك، ولنبوغك فى صنوف المعرفة والحكمة منذ حداثتك.. لكننى، والحق أخلق عند الخلوق من المخايلة والمخادعة، أعرف عنك فعلاً أسراراً مستورة عن معظم الناس، أبلغنى بها العسس والبصاصون.
ــ ماذا تقصد بالعسس والبصاصين؟
دامت الجلسة بينهما ساعات، حتى اقترب موعد الغروب فاستأذن الشيخ الرئيس من الآمر، فى أن يذهب ليستريح من مشاق السفر مصفدا ومن أرق تبديل الفراش. فافترقا بعد وقت انقضى على غير العادة فى مثل تلك المواقف، لاسيما فى تلك الأنحاء المضطرب زمانها بسبب التنازع بين حكام المناطق وأمراء البلدان. إذ ارتفع بينهما حاجز الحذر حتى صارا يتحدثان كأنهما صاحبان يتحاوران، بل يتسامران. حكى «الآمر» لابن سينا، ربما ليطمئنه عن مولده بديار بكر ثم نزوحه مع أسرته إلى «تفليس» ومنها إلى «سهرورد» طلباً للرزق، ثم انضمامه إلى الجند العاملين فى خدمة السلاطين والأمراء كأقرانه الترك، وهم الذين أطلقوا عليه لقب «المزدوج» تهكماً، أو تقديراً لقوته وضخامة بدنه وأكله فى كل مرة وجبتين، وقتله لرجلين فى معركة بضربة سيفٍ واحدة. غير أنه بعد فترة عاف سفك الدماء، فتولى الإشراف على أمور العسس والبصاصين، وهم عيون الترك من غير المقاتلة، يأتون بخفايا الأخبار من تهامس الناس فى الأسوق والحمامات، ومن الوشاة. وهو الآن رئيس هؤلاء المجهولين، وعمله آمرا لهذه القلعة التعيسة ستار لعمله الأساسى الذى يقدم خدماته لمن يحكم، من دون انحياز لأحد. سأله ابن سينا، مستغرباً: وكيف ذاك؟ فأجابه بلا تكلف: يعنى لو استتب أمر هذه النواحى فى يد «تاج الملك» واستقر، فأنا فى خدمته الاستخباراتية والإشرافية على هذه القلعة. وإذا غلبه صاحبك «علاء الدولة» أو اجتاح ملوك «غزنة» نواحينا وملكوها، كنت فى خدمة الغالب المستولى على السلطة، بصرف النظر عن شخصه. أنا المستقر بموضعه، وهم الذين يتقلبون مع الأيام فيأتون ويذهبون، وهذه القلعة كانت منذ أمد بعيد عسكرية، تحمى ما حولها من قرى كثيرة متناثرة بين المروج، فلما أجدبت الناحية وهجرها الناس بسبب الحروب، فقدت القلعة دورها وصارت سجناً للمحبوسين واستراحة طريق لجند الحاكمين، وصاروا يبعثون إليها بأضعف الجند وذوى الإصابات المستدامة من المقاتلة. وتحت إمرتى اليوم مائة وخمسون منهم، وفيهم مرضى كثيرون، ولا طبيب هنا ليدبرهم ويعالج أمراضهم التى استعصت، خصوصاً القولنج والزحير. فلو قمت بذلك أثناء إقامتك هنا، وأنت الطبيب الحكيم والنطاسى البارع، فهذا فضل منك وثواب لك فى الآخرة عظيم.
ــ هذا يا سيدى مطلب لابد له أن يؤدى، ولا يسعنى التوانى عن تلبيته، لكننى سأحتاج أدوية وأعشاباً وعقاقير.
ــ هذا شىء ليس بالعسير، وسأطلب من شيخ القرى توفيره لك، وهو لن يتأخر.
ــ ومن شيخ القرى؟
ــ هذا كبير الناس فى هذه الناحية، وهو شيخ حكيم، يقرأ فى الكتب، اسمه أبوالزهير. وسأرسل غدا من يستدعيه إلى هنا، وهو على كل حالٍ معتاد على التردد علينا والتودد إلينا، لاشتراك المصالح وتشابكها.
ــ حسناً.. وهل يجوز لى التماس طلب وحيد، فإننى لا أنقطع عن التأليف، وأحتاج دواة وقلماً وكاغداً من الورق السمرقندى إن أمكن، وسراجاً لأكتب على ضوئه فى تلك الليالى الطويلات التى لا يعلم إلا الله متى تنتهى.
ــ ههه، توقعت طلبك هذا، ولبيته لك من قبل أن تتفوه به.. ستجد ذلك حاضرا فى غرفتك، فقد قدرت احتياجك له، لمعرفتى بأنك كنت فى وقت اختبائك بمنزل «أبى غالب العطار» تؤلف كتاباً كبيراً، ولم تتمه.
ــ وكيف عرفت بذلك، أتراك أنت الذى دللت على مخبئى!.
ــ لا، الوشاة فعلوا ذلك. ولم يسألنى أحد لأخبره، ولو كان «تاج الملك» قد استخبر منى عن موضع اختبائك لأخبرته، فهذا عملى، لكنه لم يسألنى فلم أبادر بالإخبار.. وأنت يا رئيس الحكماء لا تحكم الاختباء، ههه، تلامذتك كانوا يترددون إليك منذ اليوم الثالث لما تظن أنه اختباء! لكننى استغربت عنوان الكتاب الذى كنت تؤلفه أهو حقاً: الشفاء فى الحكمة والإلهيات.
ــ نعم، وكتاب آخر لم أكمله بعد، عنوانه: القانون فى الطب.
ــ أمرك عجيب يا أبا على، تكتب فى الحكمة «الشفاء» وفى الطب «القانون».. هذا عكس للحال.
ــ لا يا سيدى، هو الأصح. فالحكمة شفاء للنفوس، والقانون حاكم للأبدان. والآن هل أستميحك عذراً لأذهب فأرتاح من مشقة سفر ليومين وأرقى ليلة أمس من تبديل الفراش؟ كما أننى فى شوق لرؤية المحبرة والكاغد.
■■■
ابتهج قلب ابن سينا حين لمح ما تمناه حاضراً فوق الطاولة بالغرفة، وانخطف مع إصكاك حديد مزلاج الباب عندما أغلقه عليه الحارس من الخارج، فارتمى على السرير ليهرب من تماوج السرور والأسى على روحه الثكلى، وراح فى نومٍ عميقٍ على غير عادته فلم يفارق مرقده حتى تسلل إلى سمعه صوت المؤذن، الأجش، لصلاة الفجر.. توضأ ببعض يسير من الماء، وأسرع فى الصلاة، ثم وقف قبالة قضبان النافذة يحملق مدهوشا فى انسحاب الاسوداد من السماء الغائمة، وفى رأسه تحتشد الأفكار.. لم يكتب فى ذاك الصباح شيئاً، لازدحام خواطره وتردده بين تأليف قصيدة يجعلها على قافية قصيدته العينية فى النفس، ويكون عنوانها «شجون المسجون» أو ينظم فى الطب والتداوى أرجوزة «ألفية» يعتمد فيها على ما يحفظه ويستهلها بقوله: يقول راجى عفو ربه ابن سينا، ولم يزل بالله مستعيناً، يا سائلى عن صحة الأجساد، اسمع صحيح الطب بالإسناد.. أو يستكمل مسودات كتاب «الشفاء» أو يحكى سيرته الذاتية منذ مولده ببلاد الأفغان ثم تطوافه ببلاد الأوزبك والترك والفرس، وما رآه خلال مساره من إعزاز وإذلال واستعلاء وخذلان.
عندما دق عليه الحارس الباب، وفتحه ليضع له على الطاولة طعام الغداء. كان ابن سينا شارد اللب، كالمأخوذ، وكانت عواصف الأفكار لاتزال تدور برأسه فتديره كأنها كؤوس الشراب الريحانى المعتق. خرج الحارس وأغلق الباب فأخذ ابن سينا ينظر إلى الطعام بعين لا ترى إلا الماوراء، ثم جلس بغتة وأزاح الأطباق برفق وفى الدواة غمس القلب ثم فرد الكاغد وكتب عليه: إنه قد تيسر لى حين مقامى ببلاد..
ــ يا شيخ الحكماء، الآمر يطلبك فاستعد للذهاب إليه، قال الحارس ذلك من خلف الباب، وهو يدق عليه، فانقطعت خيوط الأفكار عن رأس ابن سينا وكف عن الكتابة، وتهيأ للخروج. فى طريقه الهابط على الدرج الحجرى الضيق، كان يلمس بأطراف أنامله خشونة الجدران الرطبة ويفكر فى هذا «الآمر» الغريب الذى أدهشه بما قاله، وبما لم يقله بعد، مع أنه لم يلتق به إلا مرتين فى يومين متتاليين.. وظن ابن سينا لوهلةٍ أن هذا الرجل هو أكثر الذين عرفهم إثارة للحيرة والاستغراب! لم يكن يعلم أنه سوف يلتقى بعد أيام بأبى الزهير شيخ القرى الأكثر غرابة وتحييراً.
فى فناء القلعة، حيث ضوء النهار باهر للعين وبرد الهواء لاسع، أشار «الآمر» لابن سينا إلى غرفتين متجاورتين وأخبره بأن واحدة منهما ستكون محبسه، والأخرى محل لقائه بالمرضى من جند القلعة وخدامها.. وأردف بصوت أخفض، أن كلتا الغرفتين لن تغلقا من خارج، ثم ضحك وهو يقول لابن سيناء محذراً: ولكن إياك أن تفكر فى الهروب من هنا، فالنواحى المحيطة بالقلعة مهلكة، وكلاب المطاردة متوحشة كالذئاب. ههه. ولا أريد أن يلحق بك أى مكروه يا رئيس الحكماء.
ــ لن تجد منى يا سيدى ما يسوؤك أبدا، وليس للإحسان جزاء إلا الإحسان، وقد تقدم إحسانك وفضلك.
ــ عظيم.. عظيم والآن تعال لتفحص حال المرضى من أهل القلعة، وليتك تراهم كلهم فأظنهم جميعاً بحاجة إلى تدبير. ههه.. والله هو المعين، وعليه قصد السبيل.
■■■
لما عم الظلام، قام «المزدوج» وصاح بصوته الجهير، سائلاً مراقب برج القلعة، إنه يرى فى الأفق قادمين، فأجابه من فوره: لا أحد على الطريق يا سيدى الآمر.. كأنه أراد أن يستوثق من أمرٍ، فسأله مجددا: هل ترى فى الأفق نار مشاعل أو وميض لهب استغاثة؟ فجاءت الإجابة من فوق الظلام المحيط ببرج القلعة: لا يا سيدى الآمر.
فى تلك اللحظة، وصل إلى السطح رئيس حراس البوابة «حامد البرجندى»، المعروف بين عسكر القلعة بالزعاق، وخلفه خادم من الجند بيده قنديل يضىء. كان يريد الاطمئنان على رئيسه الجالس منذ ساعاتٍ يترقب القادمين، على غير عادته، وعندما رآه يتجه إلى الدرج الضيق المؤدى إلى غرفته، سار وراءه صامتاً متحشماً من الكلام أمام الخدم وصغار الجند، ودخل خلفه إلى الغرفة الفسيحة نسبيا، ولما انفردا سأله:
ــ يا سيدى، أراك مهموما بأمر السجين القادم!
ــ هو ليس سجيناً يا حامد. السجين يحكم عليه القاضى بحبسٍ، فيرسلونه إلى هنا إن كان خطيراً، ويخشى هربه من الحبوس العمومية ليقضى زمن سجنه فى سكون، أما هذا القادم فهو معتقل بأمر الأمير «تاج الملك» ولم يحاكم أو تحدد لحبسه فترة معلومة سلفاً.
ـ لكن هذا غير موجب للقلق يا سيدى الآمر، فكم حبس هنا سجناء ومعتقلون.. أم أن كونه وزيراً سابقاً هو ما يقلقك؟
ــ لا قيمة لوزير خلع بعد حمله الأوزار.. أهمية هذا الرجل يا حامد تأتى من شهرته كحكيم بارع، ومن صداقته مع «علاء الدولة» حاكم أصفهان. والذين جاءوا اليوم مع خيل البريد أخبروا بأنه اعتقل، أمس الأول فجراً، بعد أن وشى الوشاة إلى العسس باختبائه فى دار «أبى غالب العطار» بهمذان، فكبس عسكر الأمير الدار واعتقلوه وأرسلوه تحت الحراسة المشددة إلى هنا.. فكيف لم يصلوا به حتى الآن؟ هل قطع عليهم الطريق، أم أرسل «علاء الدولة» جندا فاستنقذوه من عسكر «تاج الملك»..؟
ــ صباح غدٍ ينجلى كل شىء يا سيدى.. هل تريد شيئاً قبل انصرافى.
ــ زد عدد الحراس عند البوابة، وضع بالبرج أفضل الرقباء.
ــ سمعاً وطاعة يا سيدى.
ساد السكون ممرات القلعة وفناءها والغرف والزنازين، كأن الكون نام مع كل من فيه، وحول القلعة هبط ظلام ثقيل زاده الزمهرير قتامة.. هذا شأن الشمال الفارسى وقِفاره فى ليالى الشتاء، وكلما توغلنا شمالاً ناحية زنجان وتبريز وأردبيل، صارت الليلات الشتوية أشد شراسة، حتى إنها تسقط أحياناً أطراف المسافرين ليلاً، إذا لم يستدفئوا. فجأة قبل انتصاف الليل، صدحت صيحات الحراس من أعلى برج القلعة، مخبرة بأن مشاعل عسكر الأمير «تاج الملك» تقترب رويداً من باب القلعة.
على عجل ارتدى «الآمر» ملابسه الرسمية، وخرج إلى الشرفة المطلة على فناء القلعة ينظر إلى الجند الداخلين من الباب الصغير، ووسطهم (المعتقل) يجر السلاسل المقيدة لقدميه وكفيه. وكما هو معتاد، ذهب العسكر القادمون بالمقبوض عليه إلى غرف الضيافة الأرضية. وجاء «الزعاق» وخلفه المعتقل الجليل إلى «الآمر» الذى أمر بتحريره من الأصفاد، وسار أمامه حتى جلسا منفردين فى القاعة الوسطى، فاستدعى بحساء دافئ وطعام للمعتقل، وأخذ يلاحظه وهو يأكل ببطء، وبغير انكسار، ثم صرف عن القاعة الحرس والخدام وبدأ معه الحديث بحرص:
ــ أخبرنى الحراس بأن سفركم كان شاقاً.
ــ السفر قطعة من العذاب، فما بالك بسفر المعتقل المصفد بالسلاسل.
ــ لا بأس، ها قد وصلتم بسلام، ولعلك تدرك أن الأمير «تاج الملك» لو أراد هلاكك لكان قد أمر بقتلك فى همذان، بدلاً من إرسالك لتحبس هنا حيناً ثم تخرج حين يأتى الأوان.
ــ دخولى باليقين كما تراه، وكل الشك فى أمر الخروج.
ــ سنرى ما يكون.. ولى معك فى الصباح حديث، وستكون إقامتك بغرفة فى برج القلعة، فمثلك لا يودع فى زنازين. إذ لابد من إنزال الناس منازلهم.. يا حراس، خذوا الشيخ الرئيس إلى محبسه، واتركوا معه قنينة الشراب هذه.
ابتسم «ابن سينا» حين سمع آمر القلعة، الضخم، يصفه بلقب الشيخ الرئيس. وأدرك أن هذا الرجل خطير، ويعرف الكثير، فهذا اللقب الذى يطلقه عليه تلامذته المقربون، متداول بينهم وغير معروف لغيرهم.. وكذلك إحاطته بشغفه الوفير المستتر بالشراب. ولهذا، نظر ابن سينا إلى الآمر، وهو يفارقه نظرة لا يستطيعها غيره! فيها حسرة وحكمة، وامتنان يمازجه الشعور بالهوان، واعتداد بما لا يعرفه معظم الناس من ابتئاسٍ بما آل إليه الحال من مآل.. فغض «الآمر» أنظاره وابتسم فى سره.
■■■
أوان الضحى طرق أحد الحراس باب ابن سينا، وأدخل إليه ماء دافئاً للاستحمام وملابس نظيفة، وترك له مهلة ساعة قبل أن يقتاده إلى آمر القلعة. من دون أصفاد. فى القاعة ذاتها التى التقيا فيها بالأمس، كان الآمر جالساً وإلى جواره اثنان من أعوانه، والزعاق، وأمامهم طاولة عليها أطباق طعام ساخن، وخضروات طازجة، جلس، فدعاهم «الآمر» للأكل معه بعد أن قال لابن سينا بنبرة متوددة، إنه طلب أن تكون على المائدة «هندباء» لأنه يعرف أن رئيس الحكماء المعتقل، ألّف رسالة خاصة فى فوائدها الغذائية.. ضحك ابن سينا وهو يقول للآمر: أنت تعرف أشياء كثيرة..
بعد وجبة الغداء، صرف الآمر أعوانه، وبدا أنه يريد أن يتحاور مع ابن سينا فى أمورٍ. لكنه أطال التمهيد. بادره الشيخ الرئيس بقوله المباشر: منذ ليلة أمس، وأنت توحى إلى بأنك تعرف عنى الكثير، وتغمرنى بفضلك وكرمك، وظاهر أنك تريد منى شيئا، فلو تفضلت بالإفصاح عنه بوضوح، أعدك بأننى لن أتأخر عن بذل ما أستطيعه، وفاء لحسن وفادتك.
ــ ههه، يا أبا على، والله إنك لمن الماهرين. نعم أريد منك شيئاً، وأثق فى أنك لن تتأخر فيه. لكننى لم أوهمك بمعرفتى أسراراً تخصك، فمقالتك فى الهندباء مشهورة عند الناس، ويتناسخها الورّاقون فى القرى والمدن. ولقبك الذى تظنه مستوراً بين تلامذتك شاع على ألسنه كثير من الناس وسلم لك كثير من العلماء والعارفين، بأنك «الشيخ الرئيس» لجودة مصنفاتك ودروسك، ولنبوغك فى صنوف المعرفة والحكمة منذ حداثتك.. لكننى، والحق أخلق عند الخلوق من المخايلة والمخادعة، أعرف عنك فعلاً أسراراً مستورة عن معظم الناس، أبلغنى بها العسس والبصاصون.
ــ ماذا تقصد بالعسس والبصاصين؟
دامت الجلسة بينهما ساعات، حتى اقترب موعد الغروب فاستأذن الشيخ الرئيس من الآمر، فى أن يذهب ليستريح من مشاق السفر مصفدا ومن أرق تبديل الفراش. فافترقا بعد وقت انقضى على غير العادة فى مثل تلك المواقف، لاسيما فى تلك الأنحاء المضطرب زمانها بسبب التنازع بين حكام المناطق وأمراء البلدان. إذ ارتفع بينهما حاجز الحذر حتى صارا يتحدثان كأنهما صاحبان يتحاوران، بل يتسامران. حكى «الآمر» لابن سينا، ربما ليطمئنه عن مولده بديار بكر ثم نزوحه مع أسرته إلى «تفليس» ومنها إلى «سهرورد» طلباً للرزق، ثم انضمامه إلى الجند العاملين فى خدمة السلاطين والأمراء كأقرانه الترك، وهم الذين أطلقوا عليه لقب «المزدوج» تهكماً، أو تقديراً لقوته وضخامة بدنه وأكله فى كل مرة وجبتين، وقتله لرجلين فى معركة بضربة سيفٍ واحدة. غير أنه بعد فترة عاف سفك الدماء، فتولى الإشراف على أمور العسس والبصاصين، وهم عيون الترك من غير المقاتلة، يأتون بخفايا الأخبار من تهامس الناس فى الأسوق والحمامات، ومن الوشاة. وهو الآن رئيس هؤلاء المجهولين، وعمله آمرا لهذه القلعة التعيسة ستار لعمله الأساسى الذى يقدم خدماته لمن يحكم، من دون انحياز لأحد. سأله ابن سينا، مستغرباً: وكيف ذاك؟ فأجابه بلا تكلف: يعنى لو استتب أمر هذه النواحى فى يد «تاج الملك» واستقر، فأنا فى خدمته الاستخباراتية والإشرافية على هذه القلعة. وإذا غلبه صاحبك «علاء الدولة» أو اجتاح ملوك «غزنة» نواحينا وملكوها، كنت فى خدمة الغالب المستولى على السلطة، بصرف النظر عن شخصه. أنا المستقر بموضعه، وهم الذين يتقلبون مع الأيام فيأتون ويذهبون، وهذه القلعة كانت منذ أمد بعيد عسكرية، تحمى ما حولها من قرى كثيرة متناثرة بين المروج، فلما أجدبت الناحية وهجرها الناس بسبب الحروب، فقدت القلعة دورها وصارت سجناً للمحبوسين واستراحة طريق لجند الحاكمين، وصاروا يبعثون إليها بأضعف الجند وذوى الإصابات المستدامة من المقاتلة. وتحت إمرتى اليوم مائة وخمسون منهم، وفيهم مرضى كثيرون، ولا طبيب هنا ليدبرهم ويعالج أمراضهم التى استعصت، خصوصاً القولنج والزحير. فلو قمت بذلك أثناء إقامتك هنا، وأنت الطبيب الحكيم والنطاسى البارع، فهذا فضل منك وثواب لك فى الآخرة عظيم.
ــ هذا يا سيدى مطلب لابد له أن يؤدى، ولا يسعنى التوانى عن تلبيته، لكننى سأحتاج أدوية وأعشاباً وعقاقير.
ــ هذا شىء ليس بالعسير، وسأطلب من شيخ القرى توفيره لك، وهو لن يتأخر.
ــ ومن شيخ القرى؟
ــ هذا كبير الناس فى هذه الناحية، وهو شيخ حكيم، يقرأ فى الكتب، اسمه أبوالزهير. وسأرسل غدا من يستدعيه إلى هنا، وهو على كل حالٍ معتاد على التردد علينا والتودد إلينا، لاشتراك المصالح وتشابكها.
ــ حسناً.. وهل يجوز لى التماس طلب وحيد، فإننى لا أنقطع عن التأليف، وأحتاج دواة وقلماً وكاغداً من الورق السمرقندى إن أمكن، وسراجاً لأكتب على ضوئه فى تلك الليالى الطويلات التى لا يعلم إلا الله متى تنتهى.
ــ ههه، توقعت طلبك هذا، ولبيته لك من قبل أن تتفوه به.. ستجد ذلك حاضرا فى غرفتك، فقد قدرت احتياجك له، لمعرفتى بأنك كنت فى وقت اختبائك بمنزل «أبى غالب العطار» تؤلف كتاباً كبيراً، ولم تتمه.
ــ وكيف عرفت بذلك، أتراك أنت الذى دللت على مخبئى!.
ــ لا، الوشاة فعلوا ذلك. ولم يسألنى أحد لأخبره، ولو كان «تاج الملك» قد استخبر منى عن موضع اختبائك لأخبرته، فهذا عملى، لكنه لم يسألنى فلم أبادر بالإخبار.. وأنت يا رئيس الحكماء لا تحكم الاختباء، ههه، تلامذتك كانوا يترددون إليك منذ اليوم الثالث لما تظن أنه اختباء! لكننى استغربت عنوان الكتاب الذى كنت تؤلفه أهو حقاً: الشفاء فى الحكمة والإلهيات.
ــ نعم، وكتاب آخر لم أكمله بعد، عنوانه: القانون فى الطب.
ــ أمرك عجيب يا أبا على، تكتب فى الحكمة «الشفاء» وفى الطب «القانون».. هذا عكس للحال.
ــ لا يا سيدى، هو الأصح. فالحكمة شفاء للنفوس، والقانون حاكم للأبدان. والآن هل أستميحك عذراً لأذهب فأرتاح من مشقة سفر ليومين وأرقى ليلة أمس من تبديل الفراش؟ كما أننى فى شوق لرؤية المحبرة والكاغد.
■■■
ابتهج قلب ابن سينا حين لمح ما تمناه حاضراً فوق الطاولة بالغرفة، وانخطف مع إصكاك حديد مزلاج الباب عندما أغلقه عليه الحارس من الخارج، فارتمى على السرير ليهرب من تماوج السرور والأسى على روحه الثكلى، وراح فى نومٍ عميقٍ على غير عادته فلم يفارق مرقده حتى تسلل إلى سمعه صوت المؤذن، الأجش، لصلاة الفجر.. توضأ ببعض يسير من الماء، وأسرع فى الصلاة، ثم وقف قبالة قضبان النافذة يحملق مدهوشا فى انسحاب الاسوداد من السماء الغائمة، وفى رأسه تحتشد الأفكار.. لم يكتب فى ذاك الصباح شيئاً، لازدحام خواطره وتردده بين تأليف قصيدة يجعلها على قافية قصيدته العينية فى النفس، ويكون عنوانها «شجون المسجون» أو ينظم فى الطب والتداوى أرجوزة «ألفية» يعتمد فيها على ما يحفظه ويستهلها بقوله: يقول راجى عفو ربه ابن سينا، ولم يزل بالله مستعيناً، يا سائلى عن صحة الأجساد، اسمع صحيح الطب بالإسناد.. أو يستكمل مسودات كتاب «الشفاء» أو يحكى سيرته الذاتية منذ مولده ببلاد الأفغان ثم تطوافه ببلاد الأوزبك والترك والفرس، وما رآه خلال مساره من إعزاز وإذلال واستعلاء وخذلان.
عندما دق عليه الحارس الباب، وفتحه ليضع له على الطاولة طعام الغداء. كان ابن سينا شارد اللب، كالمأخوذ، وكانت عواصف الأفكار لاتزال تدور برأسه فتديره كأنها كؤوس الشراب الريحانى المعتق. خرج الحارس وأغلق الباب فأخذ ابن سينا ينظر إلى الطعام بعين لا ترى إلا الماوراء، ثم جلس بغتة وأزاح الأطباق برفق وفى الدواة غمس القلب ثم فرد الكاغد وكتب عليه: إنه قد تيسر لى حين مقامى ببلاد..
ــ يا شيخ الحكماء، الآمر يطلبك فاستعد للذهاب إليه، قال الحارس ذلك من خلف الباب، وهو يدق عليه، فانقطعت خيوط الأفكار عن رأس ابن سينا وكف عن الكتابة، وتهيأ للخروج. فى طريقه الهابط على الدرج الحجرى الضيق، كان يلمس بأطراف أنامله خشونة الجدران الرطبة ويفكر فى هذا «الآمر» الغريب الذى أدهشه بما قاله، وبما لم يقله بعد، مع أنه لم يلتق به إلا مرتين فى يومين متتاليين.. وظن ابن سينا لوهلةٍ أن هذا الرجل هو أكثر الذين عرفهم إثارة للحيرة والاستغراب! لم يكن يعلم أنه سوف يلتقى بعد أيام بأبى الزهير شيخ القرى الأكثر غرابة وتحييراً.
فى فناء القلعة، حيث ضوء النهار باهر للعين وبرد الهواء لاسع، أشار «الآمر» لابن سينا إلى غرفتين متجاورتين وأخبره بأن واحدة منهما ستكون محبسه، والأخرى محل لقائه بالمرضى من جند القلعة وخدامها.. وأردف بصوت أخفض، أن كلتا الغرفتين لن تغلقا من خارج، ثم ضحك وهو يقول لابن سيناء محذراً: ولكن إياك أن تفكر فى الهروب من هنا، فالنواحى المحيطة بالقلعة مهلكة، وكلاب المطاردة متوحشة كالذئاب. ههه. ولا أريد أن يلحق بك أى مكروه يا رئيس الحكماء.
ــ لن تجد منى يا سيدى ما يسوؤك أبدا، وليس للإحسان جزاء إلا الإحسان، وقد تقدم إحسانك وفضلك.
ــ عظيم.. عظيم والآن تعال لتفحص حال المرضى من أهل القلعة، وليتك تراهم كلهم فأظنهم جميعاً بحاجة إلى تدبير. ههه.. والله هو المعين، وعليه قصد السبيل.
■■■