محمود محمد دمور - مدينةُ المعاكيس

بعد تلك الليلة الحماسية التي شاركتُ فيها -بالرياضة التي كنتُ أعشقها منذُ نعومة أظافري- بالملاكمة ، بعد فترة نافت على العشرين عاماً ،كنتُ في دُكاني أبيع المُحمّصَات، التي كُنت قد أعددتها صباحاً ، في الصاجِ الكبير ،والوحيد الذي أورثنيه والدي. والذي كان أيضاً يعود إلى أسلافنا منذُ عشراتِ السنين . يومها ،طلب مني أحدهم مكيالاً مُعيناً من لُبّ القرع .كان غريباً عن المنطقة .تعلوه سيماء مُنفرة ،حيثُ أن شعره كان ناعماً مثل السيدات وفمه يلمعُ ،وكأنه قد قضى يوماً ماراثونياً وهو يأكلُ أمعاء الخروف المدلوقة في العسل .كما كان لطيفاً زيادة عن اللزوم ،مما أدخل إلى قلبي الخوف.لكنني أزحتُه بتذكرة نفسي أنه في طريقه إلى الرحيل بِمُجرد حصوله على مُراده . قُمت بوزن لُبّ القرع، وسألته إذا ما كان يريده بالقرفة المطحونة أم بالقرنفل والعسل . رد علي بقوله :"أريده بالعسل والزبدة" وكان صوته ناعماً كصوت المالون* "هذا يُفسّر الكثير" قلتُ بصوتٍ هامس يشوبه التهكم . "معذرة ؟" قال في استنكار . " لا شيء يا سيدي ،هذا هو طلبك " ابتسمت له بإحدى ابتساماتي المصطنعة التي دائماً ما كنتُ أدخرها للزبائن، والتي صنعت أخاديد عميقة في وجهي ، وتشنجات تواتيني من أحايين لأخرى. مررت له طلبه في صندوقٍ مصنوعٍ من جريد النخل الجاف . كما توقعت ، إنه من مدينة (المعاكيس) . مدينة المعاكيس ،كما هو موضح من اسمها .مدينة تُعكس فيها كُل الأشياء المُعتادة ،يقول كتاب مدينتي ،مدينة (ناديسون ) الأصل والجوار ، في الفصل الخامس والثلاثين صفحة 417 ،وأنا أقتبس : " بالنسبة لمدينة(المعاكيس )فهي مدينة الغرائب والعجائب،تُخيم فيها أشياء غير مألوفة ، يُقال في أحد الأسفار القديمة أن (فاليزار)** قد حطّ رحله في المدينة وعبثَ بمركز العادات والتقاليد الخاصة بهم ، ومُنذُ ذلك الحين ، صار الرجال يتعطرون بالخُزامى ويُحزّمون خصورهم ليُظهروا مفاتنهم،ويأكلون أمعاء الخروف لتلمع شفاههم، ويدلقون شحم الفيل في شعورهم؛ فتصير أنعم من الحرير الذي يرتدونه " . بعد أن قمتُ بخلع نظارتي التي تُشبه قعر كوب الماء الزجاجي لضخامتها .أرجعتُ الكتاب إلى العُلية، و نفضت الغُبار من على يدي. أذكر أن جدي قد حكى لي ، في الماضي ، أنه والبعض من أبناء جيله ، كانوا أصدقاء لسيدات من مدينة المعاكيس ،وقد كُن هنالك صاحبات اليد العليا في إدارة شؤون المدينة ،وكان جدي و أصدقائه هم أعيان المدينة ، الأمر الذي جعله يذهب إلى مدينة المعاكيس بنفسه ، لإجراء علاقات مع أهلها . فوجئ جدي بالاستقبال الحفي الذي لقيه ، كانت بوابة المدينة المصنوعة من خشب المهوقني تنفتح مُصدرة صريراً هو صوت المسننات الضخمة .وكانت السيدات تمتشقن الأحسمة الأصيلة السوداء ،وترتدين الأزياء العسكرية الخشنة التي تُدمي الجلود ،فيما كان الرجال يمشون في غُنجٍ ، مما أثار حفيظة جدي لكنه قد كتمها ؛لأن ذلك لا يعنيه . " أهلاً بك يا صاراديم ..أنرت المدينة بنور (ناديسون) العظيم .كيف حال بيورو وماكليس ؟ " قالت بصوت قد اخشوشن من شدة المحاولة . أخذ جدي في محاولة كبحِ الضحك فهو لم يتعود على تلك الجُرأة من النساء . " آه يا مايا ، مثل المنحوتة التي أرسلتنيها لي : صلبة وقوية وجريئة أيضاً " " يا رجال ،قوموا بإغلاق البوابة سريعاً " قالت مايا منتهرة بعضاً من الرجال المستأنثين وهم يمضغون اللبان بطريقة مُغوية . الجد : بعد إغلاق البوابة ودخولنا إلى المدينة ، رأينا ما لا يخطر على بال . كانت النساء تقمن بِكل الأعمال الشاقة من حمل الجوالات وبناء منازل اللبن والقش والرعي والزراعة ،و يشتغلن في الجزارات والمطاعم والأسواق .أما الرجال فكانوا يتهامسون في الشوارع لرؤيتنا .أكثر ما أغاظني ذلك الإنكسار في أعينهم .لو كان الأمر بيدي لقطعتُ رؤوسهم بسيفي دون ندم .لكنني تذكرتُ أنهم مساكين ؛ فقد أصابتهم اللعنة .ليس بيدهم حيلة . يا للمفارقة ، كم خرج من أصلاب هذه المدينة الطيبة فرسان أقوياء وعتاة .خضنا معهم في السابق جنباً إلى جنب معارك عديدة .هكذا قالت المخطوطات القديمة. أما اليوم ، فقد خرجت من نفس تلك الأصلاب نساء قويات لا يعوزهنّ الجَلَد ، لكن من جهةٍ أُخرى فثمة رجالٌ يعلكون بأفواههم الكلام والطعامَ ولبانَ البخور ، يا للعجب ! " كما تعلمين يا سيدتي، فنحن هنا من أجل توطيد الصلة بين المدينتين . كُلنا نعلم أن باقي المدن قد قاطعتكم مذ أصابتكم اللعنة .نحن لسنا مثلهم . ما حدث قد حدث .نحن لا نهتم لو كان أولو الأمر منكم نساءً أو رجالاً ، بيتُ القصيد أن يعم السلام والفائدة في ما بيننا .ونحنُ مستعدون لاستقبال وفود التجار أو التاجرات .أعذريني فأنا لا أعرف هل تعمل النسوة أم الرجال في مثل هذا العمل . " " شكراً لك يا سيدي للباقتك و احترامك .نحن أيضاً نتطلع لإرساء علاقات مشتركة بين المدينتين .والغاية في النهاية مصلحة ساكنات وساكني المنطقتين . وتقبل مني هذه الهدية لكن لا تفتحها حتى تعود إلى مدينتك " قابلتُ ردها بابتسامة وادعة، فيما قدمتُ لها تاجاً من المرمر وكوزاً من الذهب بطول ثلاثة أقدام ،كنا قد حملنا على ظهر إحدى الجمال . ودعتها . عدتُ مجدداً إلى قومي .. كانَ كُل شيءٍ عادياً تماماً .لم أُعنّف من قبل أخي الكبير .ولم تولِ زوجتي وجهها ِقبَل الحائط ساعة مُشاركتي إياها الفراش .في الصباح ، عدت إلى دُكان المحمصات .كان الجو صحواً وقطراتُ الندى تُغازل بتلات الورود مثل القُبَل .فتحتُ الهدية أخيراً .كانت جرتين كبيرتين : جرةً من العسل وجرةً من الزبدة .
النهاية

الحواشي : ________________________
*آلة موسيقية وترية في عالم القصة . ** الشيطان في عالم القصة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى