د. عبد الجبار الرفاعي - نسيان الله في تفسير حسن حنفي

الغيبُ حاضرٌ في القرآن الكريم بكثافةٍ، غائبٌ في كتابات حسن حنفي بشكلٍ يثير الحيرة. يمارس حسن حنفي عمليةَ إكراهٍ لدلالات آيات الغيب في القرآن، فيحيل ما هو سماوي إلى أرضي، ويفسّر ما وراء المادة بالمادي، وما هو ميتافيزيقي بالدنيوي، ويصرّ على دلالات اجتماعية وسياسية لهذه الآيات لا يشي بها مضمونُها. يغيب الغيبُ في كتاباته، وكأن القرآنَ الكريم عندما يتحدث بكثافةٍ عن الله بوصفه "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" لم يقرأه حنفي.
القرآنُ يركزُ على الغيب بشكلٍ مدهش، لا تجد سورةً في القرآن حتى القصار تنسى الغيبَ أو لا يحضر فيها اللهُ وأسماؤه وصفاته. يعمل حنفي على تفريغِ القرآن من دلالاته الغيبية... لا يرى حسن حنفي في الدين تجربةً تتحقّق فيها الذاتُ بطورٍ وجودي تتسامى فيه، ولا يحضر اللهُ والغيبُ في فهمه للدين إلا بوصفه يرمز للإنسانِ ونضالِه في عالمِه الأرضي. تنبهتُ مبكرًا إلى إنهاكِ كتابات حسن حنفي وأمثالِه للدينِ بتفريغه من مضمونه الميتافيزيقي، وتجاهلِه للأبعاد الغيبية في التوحيد، وانشغالِه بالإنسان بمعزلٍ عن الله. منطقُ فهم الدين والمقدّس غيرُ منطق فهم العلوم الطبيعية، كما ان منطقَ فهم الأدب والفن مختلفٌ عن منطق فهم العلوم الطبيعية. الاختلافُ في الهوية الوجودية يعني الاختلافَ في منطق الفهم وكيفية اكتشاف الأبعاد والتجليات والتمثلات. لغةُ الغيب مُشبَعةٌ بأنطولوجيا ميتافيزيقية، لغةُ الغيب القرآنية رمزيةٌ بوصفها مرآةً لصوت الوحي. تجاهلُ الغيب في القرآن يعني تجاهلَ حضور الله وأسمائه وصفاتِه وأفعاله المتسيّدة في القرآن.
القرآنُ كتابٌ ميتافيزيقي بامتياز، عند العودةِ إليه والنظرِ فيه بتدبّرٍ نلحظ أن حضورَ الله يتفوّق كثيرًا على كلِّ حضورٍ في هذا الكتاب، وهذا الحضورُ لله لا نراه ماثلًا بهذه الكثافة في أيّ كتابٍ مقدّسٍ آخر غير القرآن في الأديان. ورد ذكرُ اسمِ "الله" 2699 مرّة في آياته، ولو أضفنا لذلك عددَ أسماءِ الله وصفاتِه المتنوّعةِ في القرآن لتجاوز هذا العددَ بكثير، فمثلًا تكرّر ذكرُ كلمة "رب" 124 مرّة. لم يشأ حسن حنفي أن يتدبّر الحضورَ المكثّفَ لله في القرآن، وما يحيل إليه هذا الحضورُ من دلالاتٍ روحية لا تنضب، تنفيها قراءتُه اللاغيبية لآيات الغيب.
الكثافةُ اللافتةُ لحضورِ الله وأسمائِه وصفاتِه المتنوّعةِ تدلّل بوضوحٍ على أن القرآنَ يشدّد على الإيمانِ بالله والتوحيد، ويجعله حجرَ الزاوية في بناء الحياة الدينية في الإسلام، ويؤشر إلى وصلِ نظام القيم في الحياة الفردية والمجتمعية بالله، بالمعنى الذي يصير فيه الإنسانُ مسؤولًا أمام الله، والإيمانُ بالله منبعًا مُلهِمًا للحق والعدل والخير والسلام والمحبة والجمال في العالَم. وتظهر القيمةُ العظمى للإيمان في تحريرِ الإنسان من اغترابه الوجودي. هذا الاغترابُ يُفضي إلى استلابِ ذات الإنسان، لأنه اغترابٌ لكينونة هذا الكائن عن وجودها، ومن هذا الاغتراب يحدث القلقُ الوجودي، إذ بعد أن تنقطعَ صلةُ الإنسان الوجوديةُ بإلهِهِ، تُستلَب ذاتُه ويفتقدها، وعندما يفتقدُ الإنسانُ ذاتَه يمسي عرضةً لكلِّ أشكال التبعثر والتشظّي، وربما يتردّى إلى حالةٍ من الغثيان الذي يعبثُ بروحِهِ ويمزّقُ سلامَه وسكينتَه الجوانية .
نفهمُ من هذه الكثافةِ لحضور الله في القرآن أن هدفَ القرآن يتلخصُ في أن يكونَ اللهُ هو المعبودُ فقط، لا معبودَ سواه، وإن كان ذلك المعبودُ نبيًّا أو صحابيًّا أو وليًّا أو شيخًا أو حاكمًا، أو أيَّ إنسانٍ مهما كان، ومهما كانت مواهبُه وصفاتُه ومكانتُه الدينية والاجتماعية والعلمية. القرآنُ يريدُ تحريرَ الإنسان من كلِّ أشكال العبوديات، ولذلك أصرَّ على محوِ الوثنية بكلِّ أنماطها، وعملَ على خلاصِ المسلم من كلِّ ألوانها، سواء كانت وثنيةَ أحجارٍ أو أشياء أو أفكار أو بشر. اهتمَّ القرآنُ بالقضاء على وثنية البشر خاصة، لذلك تحدّثَ عن أمثلةٍ لأفراد ومجتمعات كانوا ضحيةَ توثين البشر، وذكرَ المتاهاتِ المظلمة التي غرقت فيها حياتُهم، وإنما اهتمَ القرآنُ بها لأنها أشدُّ أنماطِ الوثنية التباسًا، وأكثرُها أقنعةً وحُجُبًا، وأخطرُها على الوعي والروح والضمير. وثنيةُ الحجر منحطةٌ مفضوحة، وقد كانت متفشيةً في الحياة الدينية للعرب عصرَ البعثة النبوية الشريفة، فنزلَ القرآنُ لأجلِ تحرير الإنسان منها ومن غيرها، لكن المؤسفَ أن توثينَ البشر ظهر بالتدريج بعد البعثة في الحياة الدينية عندَ كثيرٍ من المسلمين، فصارَ في عصورٍ لاحقة جيلٌ بكلِّ أفراده كجيل الصحابة مقدّسًا، لا تجوزُ دراسةُ حياته وتجربته وممارساته ومواقفه بمناهج علم التاريخ، ولا يصحّ الكشفُ عن أخطائهم وخطاياهم وموبقاتهم مهما كانت، على الرغم من أن الصحابةَ تقاتلوا في أكثر من معركة شرسة قُتِلَ فيها عددٌ ليس قليلًا منهم، وقضى ثلاثةٌ من الخلفاء الراشدين الأربعة بالسيف.
تقديسُ البشر والإعلاءُ من مقامهم بما يفوق بشريتَهم ضربٌ من التوثينِ واتخاذِ الأرباب من دون الله. توثينُ البشر ظاهرةٌ نجدها في كلّ الأديان، وقد استنكرها القرآنُ بقوله: "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" .
تتبدّل أقنعةُ الأوثان وتختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأديان والمجتمعات والأفراد غير أن جوهرَها يظلّ واحدًا. لا تختصّ الأوثان بما هو مصنوعٌ من الحجر أو الخشب أو الحديد أو الأشياء المادية، الوثنُ كلُّ ما يُعبَد، الوثنُ كلُّ ما يلبث معه الإنسانُ فقيرًا في وجوده، ويكون وجودُه مغترِبًا عن الله، لذلك تصير أحيانًا ديانةٌ أو مذهبٌ أو عقيدةٌ أو فكرةٌ أو أيديولوجيا وثنًا، أو قد تتحوّل كلمةٌ أو شعارٌ أو كتابٌ إلى وثنٍ، أو يصبح زعيمٌ سياسي أو عسكريٌّ أو روحيٌّ وثنًا، وربما تمسي سلطةٌ أو حزبٌ أو جماعةٌ أو طائفةٌ أو قوميّةٌ أو قبيلةٌ أو عائلةٌ وثنًا، أو يغدو طقسٌ أو عبادةٌ أو شعيرةٌ وثنًا.
على الرغم من كثافةِ حضور الله في القرآن، إلا أننا وصلنا مرحلةً نجدُ فيها "إسلامًا ينسى الله"، إذ غابَ اللهُ بمرور الزمن عند كثيرين عن الحياة الدينية باحتلالِ بشرٍ مقامَه، وعندما يحتلّ البشرُ مقامَ الله يحتجبُ اللهُ عن الكلّ، من ينسى اللهَ ينسى نفسَه: "نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ" .
أكثرُ المفكرين العرب الذين اتخذوا القرآنَ والدينَ محورًا لمشاريعهم الفكرية أهدروا الميتافيزيقا القرآنيةَ ولم يكترثوا بالغيب، حتى لو تناولوا آياتِ الغيب فإنهم يحاولون أن يلتمسوا لها تأويلًا متعسفًا ينزعُ عنها محتواها الميتافيزيقي. أحيانًا يعمدون إلى توظيف مناهجَ استكشاف الطبيعة في التعرّف على ما وراء الطبيعة. المنطقُ العلمي يفرض على الباحثِ أن يرسم أولًا خارطةَ حقل بحثه. القرآنُ يتحدّث عن الغيب وما وراء الطبيعة أكثر مما يتحدّث عن الطبيعة، فليس من العلمِ في شيء تجاهلُ ما وراء الطبيعة في القرآن، أو تأويلُ آيات الغيب تأويلًا متعسفًا بمناهج العلوم الطبيعية.... تتمة المقال على الرابط:

عبدالجبار الرفاعي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى