عبدالله الحسن فحل - حكاية الزوجة التي لم يؤكل بسكويتها

! مرت عشرون دقيقة بعد منتصف الليل، وهو لم يحضر كالعادة بعد!!!
وأنا ملني الإنتظار، مال عنقي وكدت أسقط على الطاولة أمامي ثلاث مرات ، أطفأت أولاً الشمعتين المتراقصتين واكتفيت بمصابيح النيون الباردة، فقد زادت الشموع حرارة الجو، الإحساس مثقل بخيبات الأمل. لم أستطع أن أكمل كوب الشاي الخاص بي، رغم أني حاولت أن أرتشف منه على فترات طويلة، أرطب به حلقي، وأجعل منه فاصلاً من مرارات الذكريات التي تجتاحني. المهم أنني حملت صينية الشاي للمطبخ، وأفرغت محتوياتها، برقة ودقة متناهيتين، إعتدت على إتقانها يومياً في كل شئ، حتي حين يزورنا أحد وهو يوم يكون معد ومرتب له بعناية فائقة، بالورقة والقلم، ويتم بخطوات تنتهي بإغلاق الباب وتوديع الزوار أياً كانوا في زمن محدد سلفا.
سأذهب لأرتدي ملابس النوم، وأخلع عن نفسي الأقراط والسلاسل وأكتفي بخاتم الزواج فقط، بالطبع سأضع قليلاً من العطر، وأجمع شعري كأي امرأة تنام على أمل الإحساس بيد زوجها تربت عليها وتطمئنها بوجوده بجانبها، ويتوجب عليها بأن لا تقلق، قبل أن يندس بجانبها ويهمس لها بكلمات الحب العذب.
هذه الكلمات التي لا تسمعها هي وتعيش على أمل حدوث مثل هذه الأشياء لو القليل منها خارج نطاق المتفق والمجدول في الجهاز الأسود الصغير الذي لايفارق زوجها أبداً، يدون عليه كل شئ، ويضع العلامات، ولا يخالف ما كتب فيه مهما كان.
لا أستطيع أن أسئله، ولا أستفسر عن شئ لم يحدثني به، لأنني ساعتها لن أجد غير الصمت جواباً، أو قطع حديثي إتصال هاتفي، هذا إن لم يرفع يده معتذراً ويخرج مؤشراً على ساعته التي تنبهه بمواعيده المجدوله، حتى في قضاء الوقت معي، هي فقرة مدرجة في جهازه الأسود تدعي وقت العائلة ومعها مجموعة من الأقتراحات بالناشاطات والأشياء التي يمكنك عملها مع عائلتك لتحافظ على الترابط والحب بينكم، نقاط محددة بواسطة أشخاص لم يحسو بجو الود والحنان الأسري إنما اختبروه تحت المجاهر، وصدقهم أمثال زوجي هذا!
أفتتنت به لدقته وتنظيمه، كل شئ كان يعد له بعنايه فائقة، أسرتني الدقة المتناهيه حتى في أدق التفاصيل، خلتها من حرصه و تدبيره الحاذق، حسبته إهتمام منقطع النظير بتقديم نفسه وما يود بأجمل ما يكون، لا كأحسن ما قيل وصُنِّف وذُكِرَ على لسان آخرين، إفترضته – ويالغبائي- أنه يتمهل ويرتب ليبهرني دوماً، ويغدقني بإهتمام يجعلني أشعر أنه اصطفاني من بين العالمين نسائهم ورجالهم ليخصني بحبه وتقديره، صدمتي كانت أن كل شئ حدث بيننا كان ليحدث مع أي أخري لها الصفات التي كان يبحث عنها والمذكورة سلفاً ومعده تحت بند فتاة الأحلام!
توقظه المنبهات، نائماً أو ساهياً، يتحرك وفق ساعته التي لا تفارقه- ما أقبحها- ليست كما غنينا صغاراً:
لابس الساعة اللماعة . . .
تحدد خطواته الجداول المُحَدَّثة في كل لحظة، ترتيبة الذي يؤدي للجنون، مجونه المحدد بزمن ومقدار لا يفوته أبداً، لأن ولأن ولأن...وإلى آخر جملة إعتذاراته التي أدمنتها، فأتقنت إبتسامتي والتنهيدة، قبل أن يطبع قبلة بااااردة كوداع بائع لم تشتري منه ويمضي.
في بيتنا جراج به سيارته الفارهه التي لا تخرج إلا بمواعيد محددة لمناسبات مختارة بعناية، تطل على البهو ويفصلها باب زجاجي له ذر تحكم باليمين، أعلاه بناحية اليسار على الجدار يتدلي قفص لطائر صغير ممتلئ بالألوان، للقفص اسطوانتان يمكن حلهما يدوياً، واحدة مملوئة بالحبوب، والأخري بالماء، يغيرهما أحد العمال كل أسبوع، والعصفور الصغير يغني، مثله مثلى، ومثلنا أسماك الزينة بالحوض الكبير ، جميلة رشيقة، تتحرك في محيط مصنوع، به أعشاب بلاستيكية، وحجار ملونة، تضفي تيارات الماء و فقاعات الأكسجين المتصاعدة بعداً جميلاً لا يفضل النظر إليه مطولاً. وهي تتراقص بألاونها الساحرة، ورشاقتها الماكرة، مبديه زينتها وفتنتها بلا خوف ولا وجل، فالأكل يأتيها صباح مساء، والماء تجدد دورياً، والمشهد دوماً يتكرر، كأشجار الفناء الخارجي التي ما تكبر وتستطيل حتى يأتي الجنايني بمقصاته و أدواته الحادة، ويعمل فيها تقطيعاً وتمزقاً ليرجعها لحد منظرها المتفق، وشكلها المرسوم من زمان تصميم الفيلا وحتى متي لست أدري. . .
مللت الأشياء وملتني أفكاري المتناثرة يميناً ويساراً، سئمت من الوحدة في هذه الإطارات الثابتة والإضاءة المسلطة، لا تحلو الحياة إلا بالمشاركة، ولا تطيب الأوقات بغير الرفقة، ونفسي تحن لزمان حريتها وتنفسها، زمان المزاج وحيل الخروج، أوقات الأصيل وساعات المقيل، الدلال من الأهل وطيب الخاطر عند الأصدقاء، والمقالب، كم كنت أنصب الفخاخ لنضحك، متمرسه و خبيره في صنع كرنفال من حدث عادي، أحب الحياة وتحبني نسمات الفجر، أكونني في أوقات الزيارات المفاجأة و مع عجائز الحي، أتلهف للصدف، وأجري وراء صنع الذكريات، لكنه زمان فات، وطائرة أحلام إنقطع مني حبلها، لا أقول صفقة فارقت غصنها، ولكنني أصف نفسي بأني شجرة جافاها المطر وأرض متى ما وجدت من يجيد فلاحتها أغنته و تبسمت له بطيب الخراج.
تركت البسكويت على الطاولة، سيتعداه كما تعداه من قبل مرات ومرات، أفني النهار في صنع طبخة جديدة أو حلوي تنعش الوجدان، وأهاتفه، إن رد لي أكرر في داخلي ما سيقول من حكايات لا تنتهي بقدومه المفاجئ أبداً، تسد نفسي وتزبل شهيتي، لا أرمي الأطباق ولا أكسر الأواني، إنما أتركها في الطاوله، ومصابيح النيون الباردة كمشاعره مسلطة عليها، وأمضي للفراش وقد لففت شعري ووضعت العطر متمنيه قدومه ليالي طوال تحبو، ويكاد بريق العمر يخبو، ولا يأتي إلا إذا ذكره الجهاز الأسود بي، يتكرر مشهده أمامي، في البيت، عند غرف مختلفه ونشاطات عديدة لست فيها، والتي تندرج تحت نشاطات العائله نؤديها ببلاهة وتصنُّع. لو كنا في فلم لطردنا المخرج والمصورين وكالونا بأفظع الشتائم والسباب.
هذه الظهيرة تمضي بتثاقل، لا رغبه لي بإفنائها بالرقص ولا صنع طبخ مصيرة البكتريا، لن أمارس الرياضة، ولا العزف، مللت الكتب، وإبره الكروشيه، المحادثات الطويلة، والقهقهات المصطنعة، التبضع والتصفح الإلكتروني، تجريب الأزياء ووضع الإكسسوارات، لن أمضي لمركز تجميل ولن اعتني بجسمي وأملأة بالخضار والفاكهة، لن أكون الخائنة مع هذه الظروف المثالية، و لن أضع المنكير و أزيله، لن تشغلني ألعاب الفيديو ولا الغناء علي انغام الوحدة، أين مني أفكاري الشيطانيه، وأفعالي الجنونيه التي دائماً ما سرتني و أبهجتني، أيعقل أنني صرت أسيره، أيعقل أن تمضي بي الحياة ببطء هكذا نحو ضفاف الإكتئاب؟
هذه المرة لن ألف شعري. سأتركه مسدلاً، سأرتدي فستاناً وشالاً حريرياً يلتف حول رقبتي ويطير، سأصعد لمكتبه، وأفتح الدرج الأوسط بالمفتاح الموجود بالرف الثاني من رفوف المكتبة خلف أطلس العالم – وما أدراه بالعالم والحياة- سأفتحه وآخذ مفتاح السيارة، سأضع الأسماك كلها بكيس بلاستيكي أملأه بالماء، وسآخذ العصفور بقفصه و أرمي أسطوانتي الطعام الثابت والمتكرر، وألتقط بسرعة مقصات قص الأشجار. الذر يفتح الباب الزجاجي بعد ثواني طوال، لا أحتمل ثقل أمثالي الأسري، فأضعهم سريعاً بالسيارة، أعود للطاولة بلهفه، فقد تذكرت البسكويت، لن أترك منه قطعة واحدة، ولن أترك رسالة واحدة، ولن أنتظر الساعة الواحدة إلا الثلث حين يفتح الباب مؤذناً بقدومه الباهت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى