أسماء محمد مصطفى - شجرة القلوب السماوية

"أهدي هذه القصة القصيرة الى ابنتي الراحلة الحاضرة ، الرسامة والإنسانة الملهمة سماء الأمير"


وحيدة ، يدور بي دولاب الهواء المطل من المتنزه العام على حديقة داري ، أفكر بمصير خصلة الشعر الشقراء التي عثرت عليها في مجفف الشعر ، ووقعت من يدي في الحديقة وأنا في طريقي للمتنزه ، فدفنتها ، وأكملت سيري .
غمرني شعور غريب يجمع بين حزن وفرح ، حين عثرت على تلك الخصلة . شممتها . قبلتها. فقدت شعوري بأي شيء منذ بعض الوقت حتى لحظة عثوري على الخصلة . استفقت ذا يوم وأنا فاقدة ذاكرة حياتي وثوبي الأسود الذي ارتديه والثياب السود الأخرى التي وجدتها في خزانة الملابس . كان صمت الضياع يتجول بضجة في رأسي .. او رأسي كان يتجول بصمت وسط ضجة الضياع . لاأعرف كيف أصف شعور تصفير ذاكرتي ؟!! حتى دغدغت تلك الخصلات العطرة قلبي وأنا أسحبها من مجفف الشعر الذي كان على حافة الشباك . وتعلقت عيناي عبر الأفق الممدود وراء زجاج الشباك بأعالي دولاب هواء يتراءى من وراء أشجار تنتشر في الشارع بانتظام جميل .
يدور بي الدولاب ، ويسعدني شعور الطيران ، وفي كل دورة له أنظر بإتجاه مدفن الخصلة . أقول لنفسي .. إذا كانت البذرة في تراب الأرض تنمو الى وردة او شجرة ، فقد يكون بالإمكان أن ينمو من خصلة الشعر شيء ما !!
في دورة أخرى للدولاب ، ينمو المزيد من الجنون في رأسي وقلبي ، كأنني زرعت مع الخصلة هذا الجنون . يصعد أناس كبار وصغار ، ينزلون ، وأنا متسمرة في مقعدي ، وقلبي ينبض بشدة كلما يتراءى لي وجه صبية بشعر أشقر ، لاأعرفها ، وقد أعرفها .. أشعر بجمال التحليق حين يصل الدولاب بي للأعلى حيث أرى العالم من فوق ، وكلما رأيت شيئا جميلا في تلك الجغرافيات الممتدة أمام عيني ، يعود خيال الصبية جالساً الى جانبي . شيئا فشيئا لايعود خيالاً ، يستمرالدوران ، احتضن الصبية ، نضحك معاً ، ألمس شعرها الأشقر ، وأنظر الى حيث دفنت الخصلة .
أنظر بدهشة الى الصبية التي تقول لي ، قبل أن تغادر المقعد وتغيب عن ناظري من غير أن أعرف أين ذهبت ، شكرا ، لأنّ قلبك دلّكِ عليّ .
يااااه ، ذا يوم بعيد ، قلتُ لابنتي الجميلة إن ذاكرتي ضعفت وأخشى أن أنسى المزيد . سألتني .. وماذا عني إن نسيتني ؟ أجبتها .. أنتِ بالذات ، إن نسيتُ العالم كله ، قلبي سيدلني عليكِ .
بقيت وحدي بعد أن غادرتني ابنتي الصبية الى عالم آخر ، واستسلمتُ لفقدان الذاكرة كأنني أردت الهرب من الوجع الذي كاد يفتك بي ، بل لأنّ العالم الذي انتمي له لم يعد يعنيني .
الآن ، تغادرني صبيتي مجدداً ، لكنني أدرك أن دفني خصلة شعرها لم يكن عبثاً او مصادفة . كأنني خارج ذاكرتي المفقودة كنت أصنع ذاكرة متشبثة بحبل لامرئي يصلني بالسماء حيث أسأل خالقي أن يلبي رغبة لاعقلانية تعيد تشكيل قلبي المتكسر .
تتوالى الفصول على حلمي ولوعتي وانتظاري وأنا أدور بالدولاب ، ولاشيء ينبت في تلك البقعة ، حتى تطلق عيناي نهراً دمعياً الى هناك . هو آخر سقية من قلبي المفرط أمومةً .
ذا ربيع ، يستفيق الفجر في عيني وأنا ماكثة في مقعدي ، على أصداء زقزقة في الحديقة ، وشجرة جذعها بلون أشقر ، وأغصانها وأوراقها بلون السماء ، ترتفع من البقعة تلك ، ثمارها قلوب بلورية ، ملونة ، والطيور تحطّ على الأغصان ، وثمة أطفال يهرعون للتسلق عليها ، يصنعون على الأغصان أعشاشاً ، كأنهم طيور ، يربط بعضهم بأغصانها حبالاً صانعين منها أراجيح .
تظهر ابنتي لي محلقة على أغصان الشجرة ، والنسيم يداعب شعرها الأشقر . تلوح لي بقلب نقي تعلقه على أحد الأغصان بينما تستمر الشجرة في النمو حتى تعانق الغيوم التي يتحول بعضها الى خيول للأطفال المتقافزين عليها . يندي غيثها الشجرة والقلب المعلق .. نعم ذاك قلبي المتعافي في مشفى ذاكرة الحب ، بل هو قلب ابنتي الذي يشفيني من داء الحزن . تستمر الشجرة في صعودها ، أمام دولاب الهواء الذي يواصل دورانه بي ، وأنا أضحك .. أضحك .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى