تستيقظ فجرا؛ فتستهل أعمالها المنزلية بإطعام الدواجن، و الإوز، و أفراخ (الكتة)*، و تسارع إلى غرفة الخزين، و تفتح برميل الطحين، و تفرغ قدرا من الدقيق. تنتهي من العجين، و تتركه؛ ليخمر في (ماجور) كبير، و تسارع إلى عرجون النخيل، و تنهمك في كنس الدار. الفتاة تحسن كل شيء، لا تدع خلف عرجونها قشة، ترش الماء على أرضية الدار الترابية؛ فتبدو مناسبة لاستقبال عرس. حق لها الآن أن توقظ خالتها من نومها الثقيل؛ تطرق بابها برفق، و تسارع إلى تجهيز أدوات الخبيز المعتادة، و تمسح عرصة الفرن مما علق بها من عفار و هباب.
تقبل الخالة، و النوم لا يزال عالقا في عينيها؛ تبادر الفتاة بتحية صباحية ناعسة، تخرج بالكاد من بين شفتيها، تجلس قبالتها، يفصل بينهما طبلية خشبية مستديرة، مرشوشة بالردة الخشنة، ما إن تمس يداها العجين، حتى تستفيق؛ فتسابق أيديهما الوقت، كي يفرغا من أمر الخبيز برمته قبل استيقاظ زوج الخالة مع شروق الشمس.
ترش الخالة نخالة الدقيق على كرات العجين المتكورة، و تفردها بالنشابة على المطرحة، و تشق قرص العجين إلى نصفين بالسكين. من وقت إلى آخر تلقي الفتاة عيدان الحطب، و حزم القش داخل الفرن؛ فترتفع ألسنة اللهب، ثم تهدأ شيئا، فشيئا. تدخل الفتاة المطرحة المحملة بالعجين المفرود داخل الفرن، و تعود بها فارغة، و ما هي إلا لحظات، حتى تسحب الأرغفة الناضجة قبل أن يحترق قعرها بواسطة عصا حديدية رفيعة، بينما يتصبب وجهها عرقا؛ فتبدو مثل تمثال برونزي لامع.
تحين منها نظرات خاطفة نحو الأرغفة، التي تراكم بعضها فوق بعض داخل سبت الخوص. سوف تسد تلك الأرغفة، جوعهم بالكاد، و سوف تملأ بطونهم، التي لا تشبع لمدة يوم أو يومين. تحرص على ألا تلاحظ خالتها ضحكة، كتمتها بمشقة، قبل أن تفلت من بين شفتيها. يمثلون أمامها طوالا عراضا، لقد شبوا تباعا، و كادت رءوسهم الكبيرة تلامس عروق السقف و بوصه المعقود. هم يأكلون كالثيران، و لا يبقون شيئا، و إذا ما أصابهم الجوع، تنفلت أعصابهم غضبا، و يصدرون جلبة، و خوارا، طالما بث الرعب في قلبها، و طالما زادها نفورا من فكرة عششت في رأس خالتها، التي فكرت، و قدرت، و صممت على أن تزوجها أحد هؤلاء الأجلاف.
(٢)
لم تتخيل قط أن تفارقها تلك الفتاة إلى دار رجل آخر بداعي الزواج؛ فقد نشأت في حجرها مذ أن ماتت أمها في حمى النفاس، كانت وقتئذ قطعة لحم حمراء، دارت بها على دور النجع؛ لتلقمها ثدي كل مرضعة، ربت في كنفها؛ فما إن اشتد عودها، حتى ألقت عليها أعباء الدار الواسعة. لقد صارت يدها، و رجلها، و عكازها، الذي تمنت أن تحتفظ به حتى الممات.
كانت الفتاة تدرك أنها مجرد نحلة شغالة تدور دون كلل أو ملل، و لا يحق لها أن تتوقف. نحلة، تنجز الأعمال بسرعة، و خفة ، و مهارة، تعجز عنها سائر فتيات النجع. هي تدرك كل هذا، لكنها لم تتذمر يوما، و حرصت قدر طاقتها على إرضاء الجميع. أنها تشبه ماكينة درس الغلال، إن عطل القش سيرها الدائر؛ فتأخرت عن إخراج ما بجوفها من حبوب، فسوف تتهم بالعطب. و ماذا عساها أن تكون إن أصابها العطب؟! بالتأكيد، لن تستطيع ابتلاع كسرة خبز واحدة بين جدران هذه الدار. هي تدور كالنحلة؛ كي تتمكن فقط من رفع عينيها الخجلتين في وجوههم، و كي تستمرئ اللقمة التي تشق جوفها، كما يشق السكين اللحم، و أقراص العجين.
(٣)
متى لبست هذا الثوب؟! ما له مترعا بالشوك؟! أخبروها ذات يوم أن أباها حملها إلى تلك الدار، بينما كانت لا تزال في لفة الميلاد. أخبروها أنه رجا خالتها أن تعتني بها، ريثما يدبر أمره بعد وفاة زوجته، التي لم يتحمل جسدها النحيل عنت الحمل، و الولادة الأولى، و نيران الحمى؛ ففاضت روحها، و رضيعتها بين أحضانها تئن من الجوع، و الفزع. رجاها أن تمهله بعض الوقت، و وعدها بأن يحضر في أقرب فرصة؛ كي يسترد أمانته. كان جرح خالتها لا يزال نازفا، و كانت دموعها الغزيرة لا تزال تجري على خديها من فرط الحزن؛ فلم تتردد لحظة في قبول قطعة لحم حمراء، قدت من جسد أختها الصغرى، التي فارقت الحياة في مطلع شبابها. هل كان صادقا في عزمه؟! كل ما تعلمه الفتاة أن قلبه كان، و لا يزال من الضيق بمكان، بحيث لم يسع سوى زوجته الجديدة، و أبنائه منها.
ذهب، و لم يعد، حتى الجنيهات القليلة توقف عن إرسالها بمجرد أن تزوج للمرة الثانية. لقد سقط من عيني خالتها؛ فأسقطته تماما من حساباتها، و لم تنتظر أن يرفع عن عينيه و قلبه غمائمه. لم تشأ أن تقامر بها؛ فراحت تتوسل إلى زوجها ألا يرد اللحم إلى أهله، و أن يعتبر تلك الصغيرة يتيمة الأبوين.
(٤)
ربت الفتاة، و سارت بين طرقات النجع كغزالة فائرة، رآها أعمامها على تلك الحال؛ فانتبهوا، فجأة، و راحوا يطالبون أخاهم باسترداد ابنته؛ فوعدهم بفعل ذلك، لكنه ماطل، و راوغ؛ فقد كان يعلم أنهم سيعودون إلى سباتهم القديم بعد فترة وجيزة. و بالفعل هدأت غضبتهم الهشة سريعا، و ما عاد أحد منهم يتذكر أن ثمة غزالة، تنام كل ليلة في مرمى النيران، و أن ثمة ثلاثة ثيران، لا يفتقرون البتة إلى الرغبة المتوهجة يبيتون على مرمى حجر من غزالتهم المشتهاة.
(٥)
كانت الفتاة لا تميل إلى أي من الأجلاف الثلاثة؛ فقد كانوا من ذلك النوع الذي تنفر منه الفتيات؛ فلا وسامة وجه، و لا رشاقة قد، و لا كلمة لينة، و لا نظرة حانية. كل بضاعتهم شفاه غليظة، و طباع خشنة، و أجساد بدينة تزداد انتفاخا كل يوم من فرط تهالكهم على الطعام.
(٦)
اليوم كسرت روتينها المعتاد؛ فلم تتجه إلى حظائر الطيور، بل اتجهت إلى رحى مهملة، عشش على حوافها الحجرية العنكبوت. شرعت تزيل الخيوط المتربة اللزجة. و ما إن نظفتها، حتى ألقمتها حبات الذرة الجافة، و راحت تدير مقبضها بعصبية مفرطة. ودت الفتاة أن تفرغ شحنة غضبها المكبوت، الذي وشى به وجهها المعتكر. بالأمس زار زوج خالتها أباها على غير العادة؛ فاجتمع أعمامها في مربوعة رحبة، ضحت بدخان النارجيلة، لم يستغرق الأمر سوى وقت قصير، بمقدار ما يلزم مدخن لتدخين حجر ممتلئ بالمعسل المرصوص. اتفقوا على كل شيء بسرعة، و قرئت الفاتحة، و أطلقت زوجة أبيها الزغاريد.
لقد أصبحت في غمضة عين خطيبة كبير الأجلاف، دون أن يسألها أي منهم عن رأيها. هل سيكون لها كلام بعد كلامنا؟! برم أبوها شاربه، و سارع إلى وضع يده في يد زوج خالتها. لم يغال أبوها في المهر، و لم يجادل البتة في شروط تجهيزها للزواج؛ فهي ستنتقل إلى غرفة مجاورة تبعد مسافة خمسة أمتار فقط عن غرفتها الضيقة. الشيء الوحيد الذي تشبث به أعمامها، و أبوها من بعدهم أن تخرج العروس ليلة زفافها من دار أبيها؛ حتى لا يأكل أهالي النجع وجوههم بألسنة حداد.
الرحى تدور، و الفتاة تسترسل في خواطرها. لم يغمض لها جفن منذ البارحة، عاد زوج خالتها، مستبشرا، و رأت خطيبها يتقافز كطفل أرعن أصاب حجره رأس عصفور؛ فأرداه قتيلا. جذبتها خالتها من يدها، و أدخلتها غرفتها، و فاجأتها بالخبر، و لم تمنحها فرصة للتعقيب، و انكبت على خديها لثما، و أغرقتها بسيل من التهاني. ودت أن تجاهر برفضها، و لكن فرحة خالتها الطاغية عقدت لسانها عن الكلام؛ فرضخت للصمت، كما ترضخ النوى للحجر.
ودت أن تصرخ بأعلى صوتها؛ حتى توقظ النائمين جميعا، لكنها كبحت تلك الرغبة، و مضت تحرك مقبض الرحى، و راحت تحدق في شقيها الحجريين، و حبات الذرة المطحونة، التي تساقطت على المشمع البلاستيكي المفرود على التراب. غمغمت، و أفلتت المقبض، فجأة، و هبت واقفة، و اتجهت إلى باب الدار الموصد، و فتحته بحذر، و همت بتجاوز العتبة؛ فاخترق سمعها نباح كلاب شرسة، تملأ الجرن و الخلاء؛ فتهيبت الخروج، و التصقت قدماها بالأرض.
عجزت الفتاة عن الحركة؛ فاكتفت بالنظر إلى شقشقة النهار، التي خرجت من بين ثنايا العتمة. داعب نسيم البكور البارد وجهها؛ فانتعشت قليلا، و جهدت؛ كي تحرر قدميها المكبلتين، و بينما هي غارقة في عنت المحاولة، إذ خرجت خالتها من غرفتها بعينين ناعستين، و لما وقع بصرها على الفتاة المتسمرة في مكانها، دعتها إلى بدء جولة جديدة من سباق الخبيز المحموم.
تقبل الخالة، و النوم لا يزال عالقا في عينيها؛ تبادر الفتاة بتحية صباحية ناعسة، تخرج بالكاد من بين شفتيها، تجلس قبالتها، يفصل بينهما طبلية خشبية مستديرة، مرشوشة بالردة الخشنة، ما إن تمس يداها العجين، حتى تستفيق؛ فتسابق أيديهما الوقت، كي يفرغا من أمر الخبيز برمته قبل استيقاظ زوج الخالة مع شروق الشمس.
ترش الخالة نخالة الدقيق على كرات العجين المتكورة، و تفردها بالنشابة على المطرحة، و تشق قرص العجين إلى نصفين بالسكين. من وقت إلى آخر تلقي الفتاة عيدان الحطب، و حزم القش داخل الفرن؛ فترتفع ألسنة اللهب، ثم تهدأ شيئا، فشيئا. تدخل الفتاة المطرحة المحملة بالعجين المفرود داخل الفرن، و تعود بها فارغة، و ما هي إلا لحظات، حتى تسحب الأرغفة الناضجة قبل أن يحترق قعرها بواسطة عصا حديدية رفيعة، بينما يتصبب وجهها عرقا؛ فتبدو مثل تمثال برونزي لامع.
تحين منها نظرات خاطفة نحو الأرغفة، التي تراكم بعضها فوق بعض داخل سبت الخوص. سوف تسد تلك الأرغفة، جوعهم بالكاد، و سوف تملأ بطونهم، التي لا تشبع لمدة يوم أو يومين. تحرص على ألا تلاحظ خالتها ضحكة، كتمتها بمشقة، قبل أن تفلت من بين شفتيها. يمثلون أمامها طوالا عراضا، لقد شبوا تباعا، و كادت رءوسهم الكبيرة تلامس عروق السقف و بوصه المعقود. هم يأكلون كالثيران، و لا يبقون شيئا، و إذا ما أصابهم الجوع، تنفلت أعصابهم غضبا، و يصدرون جلبة، و خوارا، طالما بث الرعب في قلبها، و طالما زادها نفورا من فكرة عششت في رأس خالتها، التي فكرت، و قدرت، و صممت على أن تزوجها أحد هؤلاء الأجلاف.
(٢)
لم تتخيل قط أن تفارقها تلك الفتاة إلى دار رجل آخر بداعي الزواج؛ فقد نشأت في حجرها مذ أن ماتت أمها في حمى النفاس، كانت وقتئذ قطعة لحم حمراء، دارت بها على دور النجع؛ لتلقمها ثدي كل مرضعة، ربت في كنفها؛ فما إن اشتد عودها، حتى ألقت عليها أعباء الدار الواسعة. لقد صارت يدها، و رجلها، و عكازها، الذي تمنت أن تحتفظ به حتى الممات.
كانت الفتاة تدرك أنها مجرد نحلة شغالة تدور دون كلل أو ملل، و لا يحق لها أن تتوقف. نحلة، تنجز الأعمال بسرعة، و خفة ، و مهارة، تعجز عنها سائر فتيات النجع. هي تدرك كل هذا، لكنها لم تتذمر يوما، و حرصت قدر طاقتها على إرضاء الجميع. أنها تشبه ماكينة درس الغلال، إن عطل القش سيرها الدائر؛ فتأخرت عن إخراج ما بجوفها من حبوب، فسوف تتهم بالعطب. و ماذا عساها أن تكون إن أصابها العطب؟! بالتأكيد، لن تستطيع ابتلاع كسرة خبز واحدة بين جدران هذه الدار. هي تدور كالنحلة؛ كي تتمكن فقط من رفع عينيها الخجلتين في وجوههم، و كي تستمرئ اللقمة التي تشق جوفها، كما يشق السكين اللحم، و أقراص العجين.
(٣)
متى لبست هذا الثوب؟! ما له مترعا بالشوك؟! أخبروها ذات يوم أن أباها حملها إلى تلك الدار، بينما كانت لا تزال في لفة الميلاد. أخبروها أنه رجا خالتها أن تعتني بها، ريثما يدبر أمره بعد وفاة زوجته، التي لم يتحمل جسدها النحيل عنت الحمل، و الولادة الأولى، و نيران الحمى؛ ففاضت روحها، و رضيعتها بين أحضانها تئن من الجوع، و الفزع. رجاها أن تمهله بعض الوقت، و وعدها بأن يحضر في أقرب فرصة؛ كي يسترد أمانته. كان جرح خالتها لا يزال نازفا، و كانت دموعها الغزيرة لا تزال تجري على خديها من فرط الحزن؛ فلم تتردد لحظة في قبول قطعة لحم حمراء، قدت من جسد أختها الصغرى، التي فارقت الحياة في مطلع شبابها. هل كان صادقا في عزمه؟! كل ما تعلمه الفتاة أن قلبه كان، و لا يزال من الضيق بمكان، بحيث لم يسع سوى زوجته الجديدة، و أبنائه منها.
ذهب، و لم يعد، حتى الجنيهات القليلة توقف عن إرسالها بمجرد أن تزوج للمرة الثانية. لقد سقط من عيني خالتها؛ فأسقطته تماما من حساباتها، و لم تنتظر أن يرفع عن عينيه و قلبه غمائمه. لم تشأ أن تقامر بها؛ فراحت تتوسل إلى زوجها ألا يرد اللحم إلى أهله، و أن يعتبر تلك الصغيرة يتيمة الأبوين.
(٤)
ربت الفتاة، و سارت بين طرقات النجع كغزالة فائرة، رآها أعمامها على تلك الحال؛ فانتبهوا، فجأة، و راحوا يطالبون أخاهم باسترداد ابنته؛ فوعدهم بفعل ذلك، لكنه ماطل، و راوغ؛ فقد كان يعلم أنهم سيعودون إلى سباتهم القديم بعد فترة وجيزة. و بالفعل هدأت غضبتهم الهشة سريعا، و ما عاد أحد منهم يتذكر أن ثمة غزالة، تنام كل ليلة في مرمى النيران، و أن ثمة ثلاثة ثيران، لا يفتقرون البتة إلى الرغبة المتوهجة يبيتون على مرمى حجر من غزالتهم المشتهاة.
(٥)
كانت الفتاة لا تميل إلى أي من الأجلاف الثلاثة؛ فقد كانوا من ذلك النوع الذي تنفر منه الفتيات؛ فلا وسامة وجه، و لا رشاقة قد، و لا كلمة لينة، و لا نظرة حانية. كل بضاعتهم شفاه غليظة، و طباع خشنة، و أجساد بدينة تزداد انتفاخا كل يوم من فرط تهالكهم على الطعام.
(٦)
اليوم كسرت روتينها المعتاد؛ فلم تتجه إلى حظائر الطيور، بل اتجهت إلى رحى مهملة، عشش على حوافها الحجرية العنكبوت. شرعت تزيل الخيوط المتربة اللزجة. و ما إن نظفتها، حتى ألقمتها حبات الذرة الجافة، و راحت تدير مقبضها بعصبية مفرطة. ودت الفتاة أن تفرغ شحنة غضبها المكبوت، الذي وشى به وجهها المعتكر. بالأمس زار زوج خالتها أباها على غير العادة؛ فاجتمع أعمامها في مربوعة رحبة، ضحت بدخان النارجيلة، لم يستغرق الأمر سوى وقت قصير، بمقدار ما يلزم مدخن لتدخين حجر ممتلئ بالمعسل المرصوص. اتفقوا على كل شيء بسرعة، و قرئت الفاتحة، و أطلقت زوجة أبيها الزغاريد.
لقد أصبحت في غمضة عين خطيبة كبير الأجلاف، دون أن يسألها أي منهم عن رأيها. هل سيكون لها كلام بعد كلامنا؟! برم أبوها شاربه، و سارع إلى وضع يده في يد زوج خالتها. لم يغال أبوها في المهر، و لم يجادل البتة في شروط تجهيزها للزواج؛ فهي ستنتقل إلى غرفة مجاورة تبعد مسافة خمسة أمتار فقط عن غرفتها الضيقة. الشيء الوحيد الذي تشبث به أعمامها، و أبوها من بعدهم أن تخرج العروس ليلة زفافها من دار أبيها؛ حتى لا يأكل أهالي النجع وجوههم بألسنة حداد.
الرحى تدور، و الفتاة تسترسل في خواطرها. لم يغمض لها جفن منذ البارحة، عاد زوج خالتها، مستبشرا، و رأت خطيبها يتقافز كطفل أرعن أصاب حجره رأس عصفور؛ فأرداه قتيلا. جذبتها خالتها من يدها، و أدخلتها غرفتها، و فاجأتها بالخبر، و لم تمنحها فرصة للتعقيب، و انكبت على خديها لثما، و أغرقتها بسيل من التهاني. ودت أن تجاهر برفضها، و لكن فرحة خالتها الطاغية عقدت لسانها عن الكلام؛ فرضخت للصمت، كما ترضخ النوى للحجر.
ودت أن تصرخ بأعلى صوتها؛ حتى توقظ النائمين جميعا، لكنها كبحت تلك الرغبة، و مضت تحرك مقبض الرحى، و راحت تحدق في شقيها الحجريين، و حبات الذرة المطحونة، التي تساقطت على المشمع البلاستيكي المفرود على التراب. غمغمت، و أفلتت المقبض، فجأة، و هبت واقفة، و اتجهت إلى باب الدار الموصد، و فتحته بحذر، و همت بتجاوز العتبة؛ فاخترق سمعها نباح كلاب شرسة، تملأ الجرن و الخلاء؛ فتهيبت الخروج، و التصقت قدماها بالأرض.
عجزت الفتاة عن الحركة؛ فاكتفت بالنظر إلى شقشقة النهار، التي خرجت من بين ثنايا العتمة. داعب نسيم البكور البارد وجهها؛ فانتعشت قليلا، و جهدت؛ كي تحرر قدميها المكبلتين، و بينما هي غارقة في عنت المحاولة، إذ خرجت خالتها من غرفتها بعينين ناعستين، و لما وقع بصرها على الفتاة المتسمرة في مكانها، دعتها إلى بدء جولة جديدة من سباق الخبيز المحموم.