كانت أسرة هانئة البال , يرعاها فتى في الخامسة والثلاثين , وتتعهدها بالعناية والتدبير أم حنون , وتعيش في كنفها أخت في مراقي الشباب الأولى . لم تكن من الثروة فى شيء , فمرتب الفتى لا يجاوز الخمسة عشر جنيهًا وهو كل مالها . ولا كانت غفل الزمان عنها , فقد فقدت راعيها الأول الأب والابن فى المراحل الأولى من التعليم الثانوي وأخته في مدارج الطفولة , فلاقت متاعب شديدة من الحاجة والضنك قبل أن بلغت بر الاستقرار والأمان . إنها كانت تعودت الشدة والبؤس على عهد الكفاح الذي أعقب وفاة الأب , فانتقلت بتوظيف الابن إلى حال من يسر لم تكن – على بساطتها – تحلم بمثلها , وصارت أسرة هانئة البال , ودام لها هذا الحال خمسة عشر عامًا , حتى آذنت مظاهرها بما هي مقبلة عليه حتما من التغيير والتطور وفق ما تقتضيه طبائع الأشياء وسنن الحياة . ففتاها بلغ حدًا من العزوبة لا يجوز أن يتعداه , واحسان أوفت على العشرين , فبات زواجها ينتظر اليوم أو غدًا , وبدت الأم في شيخوختها تحت الخطو فى مفترق الطرق .
حقًا إن كل شيء ينذر بالتغيير وغدا تنقسم هذه الخلية الواحدة فتصير خليتين , وتأخذ كلتاهما نصيبها المستقل من الحياة والنمو المتكاثر . وجاء الغد ولكن بما لم يكن فى حسبان . فقدت هذه الأسرة الشاخصة إلي الأفق بعين الرجاء عاهلها الأوحد ... ذهب الرجل بأسرع مما يخطر على بال فى عزة الشباب وعنفوانه .
فما كان إلا أن وجد دملا فى ساقه اليسرى , وأهمله أيامًا فبرر وغلظ ثم عالجه بإبرة محماة ففتحه , ولكنه لم يوله ما هو أهل له من العناية والتنظيف , فورم مرة أخرى وامتد ورمه شيئًا فشيئًا , وسرى الألم فى الساق كلها , فمضى يتصبر على أمل أن تزول تلك الأعراض وحدها , حتى أقعده الألم عن الحركة , واستدعى عند ذلك الطبيب فأشار فى الحال ببتر الساق ... وحمل إلى المستشفى وأجريت العملية فانتهت بغير سلامة , وأسلم الروح ومضى بصحته ورجولته ونفعه . وأوشكت الأم العجوز أن تجن . كانت تطمع أن يواريها فى التراب بعد عمر طويل , فوارته فى التراب هى بعد عمر قصير . وكانت ترجو أن تودعه وهو سعيد بأسرته الجديدة , فودعها وقد تركها للوحدة والقنوط .
أما إحسان , فكانت أشقى أخت وأشقى فتاة , فقدت – أو هكذا خالت – الأمل الحاضر والأمل المتخايل فى غضون المستقبل . وترك الرجل معاشًا جنيهين وربع جنيه , ولكنه أورثهما مدخره مائة وخمسين جنيهًا التي كان أعدها لنفقات زواج إحسان وزواجه هو فيما بعد . ولبست الأسرة الحداد وباتت في حزن أليم . إلا أن الله الذي لا يرد قضاؤه خففه باللطف والرحمة . فقد كان لاحسان عمة عاقر على جانب من الثروة فآوت الشابة وأمها , وكانت إحسان فتاة عليلة وقعت منذ الصغر فريسة لمرض عصبي طال أمده فاستفحل بالإهمال - إذ كان أخوها كأمه ضعيف ثقة بالطب – وكانت
إلى هذا حولاء , فاختفى حسنها وراء إهاب شاحب وجسم هزيل وحول ذميم . وربما أدرك الناظر إليها أن سبابها غير عاطل من جمال , ولكنه جمال مختنق تأبى عليه آثار العلة والحول أن يترعرع ويزدهر , فجسمها لطيف التكوين , إلا أنه ذابل , ووجهها مستدير حسن القسمات , إلا أنه مصفر عليل , وعيناها صافيتان واسعتان , ولكن قبحهما الحول وأخفى نظرتهما الحنون . ثم جاء موت أخيها علة فانهارت قواها وغلبها الحزن , فازدادت ضعفًا على ضعف وشحوبًا على شحوب , وأوفت من مرضها على نهاية خطيرة . ذاك كانت حالها حين فتحت لها صدرها عمتها , ثم أخذ كل شىء يتغير
من بعد ذلك , بدأ هذا التغير فى الأشهر الأولى التى أعقبت الوفاة , ثم صار طابع الحياة الجديدة وأملها المرموق و ووجدت الفتاة عناية لم تكن تجدها من قبل , فأقبل آلها يدعون لها ويقولون لأمها (( ربنا يفرحك بإحسان )) , وغمروها بالعطف والحب والدعاء , ومنحتها أمها جامع قلبها وكان لها نصفه أو أقل قليلا . أما الذى فازت به حقًا , وكان فوزها به عظيمًا , لأنه بعثها بعثًا جديدًا , فهو قلب عمتها , تلك المرأة الطيبة المحبة التى تتفجر نفسها رحمة وحنانًا , أحبتها كما كانت تحبها , وأحبتها كما كانت
تحب أخاها , وأحبتها كما كانت تود وتتمنى أن تحب أمثالها من الذرية التى حرمتها , فمن آى هذا الحب أن قبلتها يومًا وقالت لها :
- لا تستسلمي للحزن رحمة بنفسك ورحمة بأمك المحزونة وقالت لها مرة أخرى وقد آلمها ما تراه فى وجهها من الشحوب والذبول .
- لا يرتاح لى بال إذا تركت هذا المرض يهتصر شبابك الغض ...
ومضت بها إلى الطبيب , وتفحصها الرجل بعناية ووصف لها حقنًا ونصحها بتبديل الهواء , فأحضرت المرأة الحقن , ثم شدوا الرحال جميعًا إلى بلبيس - بلدة العمة
– وهناك بين أحضان الريف الحنون وهدوئه الشامل فى الهواء النقي والشمس الصاحية سارع إليها البرء ومشى فى أعصابها الشفاء , فانتهت النوبات التى كانت تعتريها , ونجت مما كان يشقى حياتها من القلق والمخاوف , وسرعان ما امتلأ جسمها الهزيل واعتدل قدها وجرى فى وجهها ماء الشباب ورونق الصبا وجاذبية الأنوثة . وسرت العمة بما رأت , وكأنها بستانى يجنى ما غرست يداه لأول مرة , وأطعمها هذا الظفر بالمزيد , فحدثت نفسها : (( آه لو يذهب الحول ... فأى عينين تكونان ! )) ولكن ما الذى يمنع هذه الأمنية من أن تتحقق ... لقد سمعت أ، من أطباء العيون من يعالج الحول ويرد البصر سالمًا . ولم يقعدها التردد فقفلت هى وأسرتها الجديدة إلى القاهرة وقصدت إلى كبير أطباء العيون فأملها خيرًا وأجرى العملية فنجحت نجاحًا باهرًا فاق كل تقدير . واستوت عينان فطرتا على الميل والانحراف , وأخلى الحول مكانه لحور فاتن , ونظرة حلوة تقطر ملاحة , ونظرت إحسان فى المرآة فرأت وجهًا جمي ً لا لا عهد لها به , يحسد على حبته الطبيعة من – الحسن والجمال , فانبهرت الفتاة , واستخفها السرور , وتناست أحزان الماضى وهمومه , وتفتح صدرها للحياة كما تتفتح الزهرة عانقها أول شعاع لشمس الربيع , وابتاعت لها عمتها أبهى حلل وأليقها اللدن فتبدت فى ثوبها الأسود النفيس فى بهاء العاج ورونقه , وأبرزتها من خدرها فقدمتها إلى أبها الاستقبال فى بيوت المعارف والجيران , وكانت تقول لها وهى ترمقها بعين الحب والإعجاب :
- لكم يشرح صدرى ويسر قلبى إذا جاءنا العروس المدخر غدًا ... !
ولم يتثاقل هذا الغد ولا تأخر العريس طويلا , فجاء يطلب يدها البضة , ولما علمت الأم سر فؤادها المكلوم ,ودارت دمعة ترقرقت فى عينيها حين ذكرت ما ادخره الفقيد من مال لهذا الزواج ولزواجه هو أيضًا
وباتت إحسان تلك الليلة فى سرور عظيم بل كانت أسعد لياليها وعندما رنق النوم بجفنيها فى ساعة متأخرة , رأت فيما يرى النائم حلمًا مؤثرُا و رأت أنها عادت إلى الشقة التى كانوا يقيمون بها قبل وفاة شقيقها , وأنها فى حجرته بالذات وعلى فراشه , ورأت فى وسط الحجرة نعشًا ملفوفًا فى الحرير الأبيض , يجلس على رأسه شيخ كبير فى عباءة سوداء وعمامة بيضاء , وكانت تبكى وتكابد ضيقًا يكاد أن ينشق به صدرها , وكأنما الشيخ رق لها فوجه إليها الخطاب متسائلا :
- لماذا تبكين ؟
فقالت وقد أثر فيها عطفه فانهالت مدامعها :
- أخى ... انى أبكى أخى ...
فأومأ الشيخ إلى النعش وقال بهدوء :
- انه يرقد ها هنا
فحنت رأسها حتى تساقط الدمع على حجرها وقالت بصوت تخنقه العبرات :
- أعلم ذلك وا أسفاه
فسألها مبتسمًا :
- أتحبين أن يعود إليك ؟
فنظرت إليه بعينين لا تصدقان وقد كفت عن البكاء وتساءلت :
- أتستطيع ذلك حقًا ؟
- نعم بغير شك
فقالت بلهفة ورجاء :
- رد إليه الحياة ... أعده إلينا
ولم تتمالك نفسها , فنهضت قائمة يلعب بفؤادها الأمل ؛ فقال الشيخ بهدوئه الذى لا
يفارقه :
- ليس الأمر باليسر الذى تتصورين , فلابد من ثمن يؤدى
- أى ثمن ... وهل يغلو ثمن لقاء أن يعود أخى ؟!
فهز الرجل رأسه المعمم وقال :
- إذا رد إلى الحياة وهذا على هين , فستردين أنت إلى حالتك الأولى , يعاودك المرض ويعتريك الذبول والاصفرار والحول , ولا يلبث حتى يسترد ماله فتفقدي خطيبك !
- وعلاها وجوم , وشعرت بثقل الكابوس على صدرها , وشح جبينها عرقًا وزاغ بصرها . فابتسم الشيخ وسألها كالمتهكم :
- - إيه ... هل أعيده إليك حقًا ؟
رباه ... ماذا تقول ؟ هل يمكن أن تنكص عن الجواب ؟
قالت وهى تزفر :
- نعم أعده
وتغير وجه الرجل , فلاح فى محياه الجد والاهتمام , ووثب قائمًا , ثم تحول إلى النعش يفك أربطته ويرفع غطاءه دون تردد وألقت الفتاة ببصرها إلى النعش لتستقبل العائد العزيز ... ولكن اشتدت وطأة الكابوس وثقله , ورأت نفسها تتغير فى لمح البصر فترد إلى حالتها الأولى , فاستردت صورتها العليلة وبشرتها الشاحبة وعينيها القبيحتين , وغابت كل المسرات : فلا نضارة ولا شباب ولا مال ولا زواج ...
وشعرت بإعياء وخور فلم تعد قدماها بقادرتين على أن تحملاها , فسقطت جاثية على ركبتيها , وعيناها لا تتحولان عن النعش ... ثم غلبها البكاء , واستيقظت عند ذاك , فرفعت رأسها عن الوسادة , وتحسست يداها وجهها والفراش , لتتأكد من أنها يقظة , وأن ما كانت تكابده حلمًا من الأحلام , وكان قلبها يدق بعنف اضطرب معه ما فوق القلب من قميصها الأبيض , ثم أسلمت مرة أخرى إلى الوسادة وهى تتنهد تنهدًا عميقًا , وما لبثت أن أجهشت فى البكاء , ولا لأنها مسخت فردت إلى حالتها
الأولى , ولكن لأنها ذكرت أخاها الراحل , فثارت كوامن أشجانها ...
حقًا إن كل شيء ينذر بالتغيير وغدا تنقسم هذه الخلية الواحدة فتصير خليتين , وتأخذ كلتاهما نصيبها المستقل من الحياة والنمو المتكاثر . وجاء الغد ولكن بما لم يكن فى حسبان . فقدت هذه الأسرة الشاخصة إلي الأفق بعين الرجاء عاهلها الأوحد ... ذهب الرجل بأسرع مما يخطر على بال فى عزة الشباب وعنفوانه .
فما كان إلا أن وجد دملا فى ساقه اليسرى , وأهمله أيامًا فبرر وغلظ ثم عالجه بإبرة محماة ففتحه , ولكنه لم يوله ما هو أهل له من العناية والتنظيف , فورم مرة أخرى وامتد ورمه شيئًا فشيئًا , وسرى الألم فى الساق كلها , فمضى يتصبر على أمل أن تزول تلك الأعراض وحدها , حتى أقعده الألم عن الحركة , واستدعى عند ذلك الطبيب فأشار فى الحال ببتر الساق ... وحمل إلى المستشفى وأجريت العملية فانتهت بغير سلامة , وأسلم الروح ومضى بصحته ورجولته ونفعه . وأوشكت الأم العجوز أن تجن . كانت تطمع أن يواريها فى التراب بعد عمر طويل , فوارته فى التراب هى بعد عمر قصير . وكانت ترجو أن تودعه وهو سعيد بأسرته الجديدة , فودعها وقد تركها للوحدة والقنوط .
أما إحسان , فكانت أشقى أخت وأشقى فتاة , فقدت – أو هكذا خالت – الأمل الحاضر والأمل المتخايل فى غضون المستقبل . وترك الرجل معاشًا جنيهين وربع جنيه , ولكنه أورثهما مدخره مائة وخمسين جنيهًا التي كان أعدها لنفقات زواج إحسان وزواجه هو فيما بعد . ولبست الأسرة الحداد وباتت في حزن أليم . إلا أن الله الذي لا يرد قضاؤه خففه باللطف والرحمة . فقد كان لاحسان عمة عاقر على جانب من الثروة فآوت الشابة وأمها , وكانت إحسان فتاة عليلة وقعت منذ الصغر فريسة لمرض عصبي طال أمده فاستفحل بالإهمال - إذ كان أخوها كأمه ضعيف ثقة بالطب – وكانت
إلى هذا حولاء , فاختفى حسنها وراء إهاب شاحب وجسم هزيل وحول ذميم . وربما أدرك الناظر إليها أن سبابها غير عاطل من جمال , ولكنه جمال مختنق تأبى عليه آثار العلة والحول أن يترعرع ويزدهر , فجسمها لطيف التكوين , إلا أنه ذابل , ووجهها مستدير حسن القسمات , إلا أنه مصفر عليل , وعيناها صافيتان واسعتان , ولكن قبحهما الحول وأخفى نظرتهما الحنون . ثم جاء موت أخيها علة فانهارت قواها وغلبها الحزن , فازدادت ضعفًا على ضعف وشحوبًا على شحوب , وأوفت من مرضها على نهاية خطيرة . ذاك كانت حالها حين فتحت لها صدرها عمتها , ثم أخذ كل شىء يتغير
من بعد ذلك , بدأ هذا التغير فى الأشهر الأولى التى أعقبت الوفاة , ثم صار طابع الحياة الجديدة وأملها المرموق و ووجدت الفتاة عناية لم تكن تجدها من قبل , فأقبل آلها يدعون لها ويقولون لأمها (( ربنا يفرحك بإحسان )) , وغمروها بالعطف والحب والدعاء , ومنحتها أمها جامع قلبها وكان لها نصفه أو أقل قليلا . أما الذى فازت به حقًا , وكان فوزها به عظيمًا , لأنه بعثها بعثًا جديدًا , فهو قلب عمتها , تلك المرأة الطيبة المحبة التى تتفجر نفسها رحمة وحنانًا , أحبتها كما كانت تحبها , وأحبتها كما كانت
تحب أخاها , وأحبتها كما كانت تود وتتمنى أن تحب أمثالها من الذرية التى حرمتها , فمن آى هذا الحب أن قبلتها يومًا وقالت لها :
- لا تستسلمي للحزن رحمة بنفسك ورحمة بأمك المحزونة وقالت لها مرة أخرى وقد آلمها ما تراه فى وجهها من الشحوب والذبول .
- لا يرتاح لى بال إذا تركت هذا المرض يهتصر شبابك الغض ...
ومضت بها إلى الطبيب , وتفحصها الرجل بعناية ووصف لها حقنًا ونصحها بتبديل الهواء , فأحضرت المرأة الحقن , ثم شدوا الرحال جميعًا إلى بلبيس - بلدة العمة
– وهناك بين أحضان الريف الحنون وهدوئه الشامل فى الهواء النقي والشمس الصاحية سارع إليها البرء ومشى فى أعصابها الشفاء , فانتهت النوبات التى كانت تعتريها , ونجت مما كان يشقى حياتها من القلق والمخاوف , وسرعان ما امتلأ جسمها الهزيل واعتدل قدها وجرى فى وجهها ماء الشباب ورونق الصبا وجاذبية الأنوثة . وسرت العمة بما رأت , وكأنها بستانى يجنى ما غرست يداه لأول مرة , وأطعمها هذا الظفر بالمزيد , فحدثت نفسها : (( آه لو يذهب الحول ... فأى عينين تكونان ! )) ولكن ما الذى يمنع هذه الأمنية من أن تتحقق ... لقد سمعت أ، من أطباء العيون من يعالج الحول ويرد البصر سالمًا . ولم يقعدها التردد فقفلت هى وأسرتها الجديدة إلى القاهرة وقصدت إلى كبير أطباء العيون فأملها خيرًا وأجرى العملية فنجحت نجاحًا باهرًا فاق كل تقدير . واستوت عينان فطرتا على الميل والانحراف , وأخلى الحول مكانه لحور فاتن , ونظرة حلوة تقطر ملاحة , ونظرت إحسان فى المرآة فرأت وجهًا جمي ً لا لا عهد لها به , يحسد على حبته الطبيعة من – الحسن والجمال , فانبهرت الفتاة , واستخفها السرور , وتناست أحزان الماضى وهمومه , وتفتح صدرها للحياة كما تتفتح الزهرة عانقها أول شعاع لشمس الربيع , وابتاعت لها عمتها أبهى حلل وأليقها اللدن فتبدت فى ثوبها الأسود النفيس فى بهاء العاج ورونقه , وأبرزتها من خدرها فقدمتها إلى أبها الاستقبال فى بيوت المعارف والجيران , وكانت تقول لها وهى ترمقها بعين الحب والإعجاب :
- لكم يشرح صدرى ويسر قلبى إذا جاءنا العروس المدخر غدًا ... !
ولم يتثاقل هذا الغد ولا تأخر العريس طويلا , فجاء يطلب يدها البضة , ولما علمت الأم سر فؤادها المكلوم ,ودارت دمعة ترقرقت فى عينيها حين ذكرت ما ادخره الفقيد من مال لهذا الزواج ولزواجه هو أيضًا
وباتت إحسان تلك الليلة فى سرور عظيم بل كانت أسعد لياليها وعندما رنق النوم بجفنيها فى ساعة متأخرة , رأت فيما يرى النائم حلمًا مؤثرُا و رأت أنها عادت إلى الشقة التى كانوا يقيمون بها قبل وفاة شقيقها , وأنها فى حجرته بالذات وعلى فراشه , ورأت فى وسط الحجرة نعشًا ملفوفًا فى الحرير الأبيض , يجلس على رأسه شيخ كبير فى عباءة سوداء وعمامة بيضاء , وكانت تبكى وتكابد ضيقًا يكاد أن ينشق به صدرها , وكأنما الشيخ رق لها فوجه إليها الخطاب متسائلا :
- لماذا تبكين ؟
فقالت وقد أثر فيها عطفه فانهالت مدامعها :
- أخى ... انى أبكى أخى ...
فأومأ الشيخ إلى النعش وقال بهدوء :
- انه يرقد ها هنا
فحنت رأسها حتى تساقط الدمع على حجرها وقالت بصوت تخنقه العبرات :
- أعلم ذلك وا أسفاه
فسألها مبتسمًا :
- أتحبين أن يعود إليك ؟
فنظرت إليه بعينين لا تصدقان وقد كفت عن البكاء وتساءلت :
- أتستطيع ذلك حقًا ؟
- نعم بغير شك
فقالت بلهفة ورجاء :
- رد إليه الحياة ... أعده إلينا
ولم تتمالك نفسها , فنهضت قائمة يلعب بفؤادها الأمل ؛ فقال الشيخ بهدوئه الذى لا
يفارقه :
- ليس الأمر باليسر الذى تتصورين , فلابد من ثمن يؤدى
- أى ثمن ... وهل يغلو ثمن لقاء أن يعود أخى ؟!
فهز الرجل رأسه المعمم وقال :
- إذا رد إلى الحياة وهذا على هين , فستردين أنت إلى حالتك الأولى , يعاودك المرض ويعتريك الذبول والاصفرار والحول , ولا يلبث حتى يسترد ماله فتفقدي خطيبك !
- وعلاها وجوم , وشعرت بثقل الكابوس على صدرها , وشح جبينها عرقًا وزاغ بصرها . فابتسم الشيخ وسألها كالمتهكم :
- - إيه ... هل أعيده إليك حقًا ؟
رباه ... ماذا تقول ؟ هل يمكن أن تنكص عن الجواب ؟
قالت وهى تزفر :
- نعم أعده
وتغير وجه الرجل , فلاح فى محياه الجد والاهتمام , ووثب قائمًا , ثم تحول إلى النعش يفك أربطته ويرفع غطاءه دون تردد وألقت الفتاة ببصرها إلى النعش لتستقبل العائد العزيز ... ولكن اشتدت وطأة الكابوس وثقله , ورأت نفسها تتغير فى لمح البصر فترد إلى حالتها الأولى , فاستردت صورتها العليلة وبشرتها الشاحبة وعينيها القبيحتين , وغابت كل المسرات : فلا نضارة ولا شباب ولا مال ولا زواج ...
وشعرت بإعياء وخور فلم تعد قدماها بقادرتين على أن تحملاها , فسقطت جاثية على ركبتيها , وعيناها لا تتحولان عن النعش ... ثم غلبها البكاء , واستيقظت عند ذاك , فرفعت رأسها عن الوسادة , وتحسست يداها وجهها والفراش , لتتأكد من أنها يقظة , وأن ما كانت تكابده حلمًا من الأحلام , وكان قلبها يدق بعنف اضطرب معه ما فوق القلب من قميصها الأبيض , ثم أسلمت مرة أخرى إلى الوسادة وهى تتنهد تنهدًا عميقًا , وما لبثت أن أجهشت فى البكاء , ولا لأنها مسخت فردت إلى حالتها
الأولى , ولكن لأنها ذكرت أخاها الراحل , فثارت كوامن أشجانها ...