أمل الكردفاني- متسول في مطعم - مسرحية من فصل واحد

المنظر: صالة مطعم فاخر. تتوزع على مساحتها ترابيز ومقاعد، وهناك تربيزة خالية قربها مقعدان تقع بين الوسط والوسط الأيمن. باقي المقاعد والترابيز توزع عليها زبائن يبدو أنهم من طبقة راقية، فهم يرتدون ملابس نظيفة وغالية الثمن. في الركنين الاقصيين هناك نادلان يقفان على أهبة الاستعداد للاستجابة لطلبات الزبائن. في الخلف على اليسار هناك باب يفضي إلى مكتب مدير المطعم، أما على اليمين فباب المطعم وهو باب لا يمكن الدخول منه إلا عبر التزحلق في أسطوانة تدور ثلاثمائة وستين درجة.
على الطاولة هناك رجل هو المحامي عطا الله وزوجته سماح، ويبدو أن كليهما لا يطيق الآخر:
سماح- دعنا نذهب..
عطا الله- لقد جئنا للتو..
سماح- لقد مللت..
عطا الله- هذه ليست مشكلتي.. لقد اتفقنا على ذلك..
سماح- ولكنك لا تريد أن تتحدث كما اتفقنا..
عطا الله- نحن لسنا في تحقيقات جنائية.. سنتحدث حينما نكون مستعدين..
سماح- أنا مستعدة وليس ذنبي أنك غير مستعد..
(يرفع عطا الله يده مشيراً إلى النادل الذي يأتيه بسرعة)
النادل الأول: أمرك سيدي..
عطا الله: تأخر الطعام..
النادل الأول: إنه في التحضير سيدي..
عطا الله: أوقفه..
النادل الأول: (يتوتر) ولكنهم شرعوا في تحضيره..
عطا الله: إن كل دقيقة تمضي تجعلني أشعر بالندم على القدوم إلى هنا.. أرجو أن لا يطول الانتظار..
النادل الأول: لا تقلق سيدي سأستعجلهم على الفور..
عطا الله: وأتني أيضا بزجاجة نبيذ..
النادل الأول: هل تفضل نوعاً معيناً..
عطا الله: نوع جيد..
النادل الأول: حسنٌ سيدي.. هل من طلب آخر..
عطا الله: (ينظر لزوجته) هل ترغبين بشيء..
سماح: الآن تذكرت وجودي..
عطا الله: (يرفع بصره للنادل) لا شكراً.. تفضل أنت..
(يغادر النادل)
(يبقى عطا الله وزوجته صامتين)..
(على الطاولة الأخرى ثلاثة رجال، هم محسن رجل أعمال، سيد صديقه ويسترزق من تحته، وسعيد موظف ضرائب).
محسن: تشرفت بمعرفتك يا أخ سعيد..
سعيد: وأنا كذلك.. وإن كنتُ لا أعرف سبب هذه الدعوة..
سيد: (يصدم ركبته بفخذ سعيد) ولكنني أخبرتك على ما أتذكر..
محسن: هل تلاحظون شيئاً (يصمت الإثنان) كل أسمائنا بها حرف السين..(يحدق فيه الإثنان بعدم فهم) ولو تأملنا قليلاً فسنجد أن اسم هذا المطعم هو بونسوار فهناك حرف سين أيضاً.. وربما لو سألنا ذلك النادل عن اسمه فسيكون هناك حرف سين أيضاً.. (يرفع يده فيأتيه النادل الثاني)
النادل الثاني: أمرك سيدي
محسن: ما اسمك؟
النادل الثاني: بكري..
محسن: آآآه.. مؤسف..(يصمت النادل).. لا بأس.. حسنٌ.. ما هو طبقكم المفضل اليوم..
النادل الثاني: شناترا مع صلصة البراندي لوشيه..
محسن: لا.. لا أفضل ذلك.. سأتناول طعامي المعتاد..
النادل: كما تريد سيدي..
محسن: وأنظر ماذا سيطلب السيدان..
(يقترب النادل منهما وينحني)
النادل الثاني: أمركما..
سيد: أنا مثل سيد محسن تماماً..
محسن: (يحدجه بنظرة مؤنبة) تماماً؟
سيد: (يتوتر ويتزلف) ليس تماماً بالطبع.. آآآ.. هل صلصة ال.. ال..
النادل: البراندي لوشيه سيدي..
سيد: هل صلصة البراندي لوشيه هذه بها فلف حراق؟
النادل الثاني: نعم سيدي...
سيد: إذاً فلتنزعوا عنها الفلفل الحراق حتى لا تتساوى بصلصة سيدي محسن..
محسن: يمكنك أن تأكلها بالفلف الحراق إذا أردت..
سيد: إذاً كما قال لك سيد محسن فلتكن بفلفل حراق..
النادل: كما تأمر سيدي..
سيد: واااااا..
النادل الثاني: نعم سيدي.
سيد: كأس براندي حقيقي أيضاً..
النادل: هناك زجاجة كونياك صغيرة معتقة منذ ثلاثين عاماً..
محسن: (يتدخل فجأة) لا..
سيد: كما قال سيد محسن..لا.. فقط كأس براندي عادي..
النادل الثاني: كما تأمر سيدي..
محسن: والآن سيد سعيد.. اطلب ما شئت..
سعيد: زجاجة الكونياك المعتقة تلك نفسها..
محسن: ألن تتناول قبلها شيئاً..
سعيد: سأتناول بعض المقبلات فحماتي قد صنعت لي وليمة اليوم بمناسبة مرور أسبوع على ميلاد ابني الأول..
محسن: مبروك..
سعيد: بارك الله فيك.. (يشير إلى النادل، فيقترب منه) لا تفتح الزجاجة سآخذها معي للمنزل..
النادل الثاني: أمرك سيدي..(يبقى منحنياً وصامتاً لبرهة) هل من شيء آخر سادتي؟
محسن: ليس الآن .. شكراً لك..
(يغادر النادل الثاني)..
(على الطاولة الثالثة هناك الشفيع وهو سمسار عقارات يجلس وحيداً وهو يأكل بملعقة من طبق أمامه، يأكل ببطء وجوار الطبق زجاجة خمر، وأطباق مقبلات صغيرة.. وكوب قهوة..والرجل يحمل الملعقة بيمينه ويضغط بسبابة يده اليسرى على سماعة أذنه التي تعمل بالبلوتوث).
الشفيع: قلت لك محلولة.. لدي شخص داخل الوزارة..(يضحك) شكراً ولكن الحياة تتطلب أن نكون هكذا يا سيدي.. نعم نعم.. بالتأكيد.. لا تشغل نفسك بهذا الأمر فحتى مدير عام الاراضي الزراعية يقبل التحية.. ها ها.. نعم.. والوزير كذلك.. أنت فقط شاور بأصبعك تجاه أي موظف أو مسؤول وأنا سأقنعه.. حين يتكلم المال.. يصمت القانون يا سيدي.. ها ها.. كنت أتمنى لو أنك قابلتني في المطعم مع ذلك فأنا ألتمس لك العذر لعدم الحضور.. آه.. كم هي قاسية هذه الحياة.. كانت في زهرة شبابها.. آه كانت في الستين من عمرها؟!!.. ليست كبيرة.. حسنٌ حسنٌ .. تعازي الحارة سيدي..
(يضع النادل الأول الطلبات في طاولة الزوجين ويغادر)
(يأكل عطا الله بصمت)
سماح: إلى متى سأنتظر؟
عطا الله: لا يجوز الحديث أثناء الأكل هذا هو الاتيكيت..
سماح: (بغيظ) لو لم أعاشرك لصدقتك..
(يهز عطا الله رأسه المنكب فوق الطبق)
سماح: (تواصل حديثها المتوتر الغاضب بصوت كالفحيح) لا زلتَ مزيفاً كعادتك.. سافل ومنحط.. محامٍ فاسد وقذر..
عطا الله: (يهمس) أعتقد أننا قد تجاوزنا هذه المرحلة وجئنا هنا لننهي المسألة بطريقة ودية..
سماح: إذاً..أترك الأكل وتكلم معي كالرجال..
عطا الله: سأستمع إليك أثناء الأكل..
سماح: متى ستطلقني؟
عطا الله: هل هذا هو رأيك الأخير؟
سماح: بالتأكيد..
عطا الله: حسنٌ.. ما الذي بيننا سوى صبية صغيرة.. لا شيء.. بضع سنوات وستكبر وتتزوج.. كنت أود لو أنها عاشت مع والديها.. ولكنك لا تفضلين التضحية بالقليل..
سماح: لا تحاول استفزازي..
عطا الله: لا استفزك لا سمح الله.. إنها الحقيقة..
سماح: التضحية.. وماذا تعرف أنت عن التضحية..
عطا الله: (يقاطعها) غداً سنذهب للمحكمة سوياً.. سنلتقي في التاسعة صباحاً.. وسننتهي من كل شيء..
سماح: لا أريد منك أي مال.. حتى الطفلة سأنفق عليها بنفسي..
عطا الله: (يضحك بتهكم) وهل تملكين شيئاً.. لقد جئتُ بك من بيت زوج أمك وأنتِ بقميص النوم..
سماح: (تجهش بالبكاء فيلتفت الزبائن نحوها) إهانة أخرى وسوف أجعلك تندم..
عطا الله: فتحتُ لك منزلي.. منحتك سيارة وعلمتك القيادة وأنتِ لا تعرفين سوى قيادة حمار صاحب المزرعة التي كان زوج أمك يعمل خفيراً فيها.. علمتك الأكل بالشوكة والسكين وكيف تسحبين مياه السايفون بعد أن كنتِ تتغوطين في الخلاء.. جئت بك من..
سماح: كفى.. كفى إهانات وإذلالاً مارسته ضدي منذ أول يوم تزوجتك فيه.. لقد ندمت أشد الندم على تسرعي في القبول بك..
عطا الله: لم يكن لديك فرصة الرفض حينما خيروك أن تخرجي من الجحيم إلى النعيم.. من كان سيتزوجك سوى العربجي ابن عمك والفلاح ابن خالتك والنشال السكير الذي يسكن جواركم.. (يرشف بالملعقة من صحن الحساء) غداً سأطلقك وأمنحك بضعة آلاف لتتمكني من شراء شقة صغيرة تكفيك.. مرتب نفقة شهري للبنت.. وأعتقد أنني أكون عادلاً بهذا..(تظل الزوجة صامتة) يمكنك أن تعيشي حياتك مع صديقك الطبيب كما يحلو لك ولكن بعيداً عن ابنتي..
سماح: إنها ليست ابنتك..
عطا الله: جيد أن تعترفي بعهرك..
سماح: كلب.. أنت كلب..
(يدخل رجل رث الثياب _ويبدو أنه سكران قليلاً- إلى المطعم هو المتسول، فيهرع نحوه النادلان ليمنعانه من الدخول)
النادل الأول: ممنوع الدخول..
المتسول: لماذا؟
النادل الأول: هكذا هو القانون؟
المتسول: أي قانون؟
النادل الثاني: أخرج فقط.. فليس مرحباً بك هنا..
المتسول: لو لم تتركاني سأحطم المكان بمن فيه..
النادل الأول: سنستدعي الشرطة فاخرج بسلام..
المتسول: استدعها وسوف أخبرهم ببيعكم للدجاج النافق وغير الصالح لأكل الآدميين..
النادل الأول: ماذا تقول؟!!!..
المتسول: كما قلت.. أنا أتسول تحت الجدار الذي يواجه المطعم في الزقاق الشرقي وأعرف كل شيء..
النادل الثاني: أنت كاذب..
المتسول: ولكنهم سيصدقونني.. زبائنكم الآن سيصدقونني.
النادل الثاني: اسمع.. سآتيك ببعض الطعام ولكن كله في الخارج..
المتسول: لا.. سآكله هنا وسأدفع ثمنه كذلك.. أنا لا أتسول منكم..
(يهمس النادل الأول في أذن النادل الثاني)
النادل الثاني: انتظر قليلاً ريثما أتحدث إلى مدير المطعم..
المتسول: لا..
النادل الأول: لا تكن متصلباً.. انتظر قليلاً..
المتسول: ولكن بسرعة..
(يذهب النادل الثاني إلى مكتب المدير)
المتسول: آه.. يا للعنة.. يا لهذه الحياة الكلبية التي أعيشها... كل المسألة كانت تعتمد على الحظ.. أن أولد من أب محترم.. فقط أبٌ محترم.. يا لهذا القدر الغريب..
النادل الأول: إن الله لا يلعب النرد..
المتسول: فكيف لو كان يلعبه؟
النادل الأول: لا تكفر..
المتسول: حينما ترفض دخولي للمطعم فيجب علي أن أكفر..
النادل الأول: المسألة طبيعية جداً.. فأنا أيضاً مجرد نادل فقير..
المتسول: ولكنك متعجرف أنت وزميلك..
النادل الأول: ليست عجرفة بل وظيفتنا تتطلب ذلك..
المتسول: وظيفة منحطة..
النادل الأول: ليست منحطة إنها طبيعية.. كل البشر يفعلون ذلك ولكن..
(يعود النادل الثاني فيقطع حديث النادل الأول)
النادل الثاني: لقد وافق المدير على جلوسك ولكن في الركن البعيد.. ولكنك ستدفع ثمن ما تطلبه..
المتسول: (يضحك) بالتأكيد.. لقد حصلت اليوم على عطية كبيرة..
النادل الثاني: حسنٌ.. هيا اجلس هناك..
(يتجه النادلان ويبعدان الطاولة والمقاعد إلى أقصى ركن صالة المطعم فيجلس المتسول)..
النادل الثاني: والآن ماذا تطلب..
المتسول: أطلب منك أن تسألني كما تسأل باقي الزبائن..
النادل الثاني: ماذا تقصد..
المتسول: أقصد أن تسألني باحترام..
النادل الثاني: (يعض على اضراسه من الغيظ) حسنٌ.. (ينحني) بماذا تأمرني..
المتسول: يا سيدي..
النادل الثاني: يا سيدي..
المتسول: لا لا.. قلها كاملة وبإيمان..
النادل الثاني: بماذا تأمرني يا سيدي..
المتسول: آآآه.. حسنٌ.. ءِإتني بكل أنواع اللحوم.. والسلَطات.. والحساء.. والفواكه.. لقد حصلت على عطية كبيرة هذا اليوم.. كبيرة جداً بحيث لا يمكنك تصديقها..
المتسول الثاني: حسنٌ..
(يغادر النادلان)
(يظلم المسرح ثم يضيئ، بحيث يكون المتسول قد قضى على كل الاطباق التي أمامه وهو يتلمظ ويمصمص شفتيه ويجرع كوب العصير بصوت مرتفع مقزز فيلتفت إليه الجميع)
(طاولة محسن وسيد وسعيد)
محسن: والآن يا سيد سعيد.. أنت تعرف أن شركتنا تلقت مطالبة ضريبية ضخمة.. وأنا متأكد أنها عبارة عن مجرد خطأ حسابي..
سعيد- من النادر أن تخطئ الضرائب في تقدير الضريبة يا سيدي..
محسن- وقد حدث هذا النادر بالفعل.. إنني مستعد لمنحك نسبة ثلاثين في المائة عن قيمة أي تخفيض.. فلو خفضتها من مائة مليون إلى مليون سأعطيك ثلاثين مليونا.. وهكذا..
سعيد- (يصمت قليلاً)
سيد- إنها نسبة حلوة يا سعيد.. ستشتري قطعة أرض أو سيارة فارهة..
سعيد- أنتما لا تفهمان.. أنا لا أعمل وحدي..
محسن- هذا لك أنت وحدك...
سعيد- والآخرون؟
محسن- عشرون مليوناً ستقسم عليهم أياً كان عددهم..
سعيد- صعب يا سيدي.. صعب..
محسن- (ينهض) إذاً.. لا بأس يا سيد سعيد.. نتمنى أن سهرتك كانت جميلة هذا اليوم..
سعيد- ولكن..
محسن- مع السلامة يا سعيد..
سيد- دقيقة يا سيد محسن.. امنح سعيد فرصة..
محسن- قلت ما عندي وانتهى الأمر..
سعيد- حسنٌ.. اتفقنا..
محسن- (بتجهم وعدم ود) إذا غداً اشرع في الاجراءات وسيرافقك سيد إذا أحببت.. وداعاً..
(ينهض سعيد بارتباك ويغادر المطعم)
سيد- يا إلهي يا سيدي.. كدت أن تخسر الصفقة...
محسن- بل على العكس.. ما أن طلب زيادة حتى عرفت أنني كسبت الصفقة..
(طاولة السمسار الشفيع)
الشفيع- (ينظر لسماح ويحدث نفسه) كم هي جميلة.. انها امرأة طازجة.. في الثلاثين من عمرها تقريباً وهو يكبرها بعشر سنين أو زيادة.. لا .. بل إنه يكبرها بعشرين عاماً.. إنه خمسيني.. شخص متعجرف.. لكنه يعرف ما يفعل ويفعل ما يعرفه.. واثق.. ونصف شريف ونصف لص.. يبدو أنه محامٍ.. أما زوجته فربة منزل.. إنها تعاني من شيء ما.. شعور بالنقص والتفاهة.. تكرهه وتحبه في نفس الوقت.. يبدو أنه يحاصرها اقتصادياً.. آه.. لي سنوات وأنا آتي لهذا المطعم.. أقابل أنواعاً مختلفة من البشر.. (يراقب محسن وسيد) واضح أن ذلك الشاب متورد الخدود أعلى مرتبة من ذلك الشاحب النحيل.. سيد وخادم.. مثل كل البشر.. وكل خادم وله سيد.. لكن ليس بالضرورة أن يكون لكل خادم خادم.. هكذا هي تراتبية الإنسانية.. ومن هناك.. يبدو أنه متسول.. ولكن بحق الله.. كيف دخل وجلس في مطعم راقٍ كهذا؟ شيء غريب.. عدد الأطباق التي أكلها كثير جداً.. لن يقل الحساب عن مائتي ألف.. آه.. والنادلان.. النادلان لم يأكلا شيئاً منذ ساعات ولم يجلسا.. سيدهما يجلس داخل مكتب الإدارة..يجلس بارتياح.. كيف كنتُ يوماً ما أحمقاً لأكون يسارياً.. هل كنت أتوقع تدمير هذا النظام الكوني برمته.. آه.. على العموم.. غداً سأقوم بأكبر رشوة قدمتها في حياتي.. الوزير شخصياً.. لا شك أنه الآن ينتظر اتصالي به وقلبه يخفق من التوتر.. لذلك.. سأتصل به الآن وأحدد معه موعداً.. (يخرج هاتفه ويبدأ في الاتصال)..
(يتوجه النادلان نحو المتسول)
المتسول: عيونكما تتطاير شرراً.. هل أنتما كلبان بوليسيان أم ماذا؟..
النادل الأول: لقد انتهيت من تناول طعامك..
المتسول: وماذا في ذلك؟..
النادل الثاني: يجب أن تدفع الحساب..
المتسول: وهل كل من هنا دفعوا حسابهم.. دفع الحساب عندما أقرر الخروج من هنا..
النادل الثاني: يا سيدي..
المتسول: (يقاطعه) لا أجد سبباً لتوتركما هكذا كالكلاب البوليسية في طابور عرض المشتبه بهم.. اهدئا وعودا لمكانكما ريثما أُنهي طعامي..
(يتململ النادلان ويعودان إلى ركنيهما)..
المتسول: أيها النادل..(يلتفتان إليه) أرجوكما لا تستمران في التحديق إليَّ هكذا وأنا آكل..
النادل الثاني: ولكنك أنهيت طعامك..
المتسول: لا تحدقا فيَّ في كل الأحوال..
(يبقى النادلان متسمرين في مكانهما وهما يحدقان في المتسول)
المتسول: ماذا قلنا؟
(يشيح النادلان ببصرهما عن المتسول)
(طاولة عطا الله وسماح)
سماح- لم تعاملني كآدمية أبداً..
عطا الله: لأنك كنت تحقدين علي..
سماح- أحقد على زوجي..
عطا الله- ككل الفقراء..
سماح- لا زلت تهينني..
عطا الله- انتهى كل شيء.. لقد كانت غلطة وسأصلحها غداً..
(طاولة المتسول)
المتسول: أيتها الكلاب البوليسية..(يهرول النادلان نحوه بسرعة).. كيف عرفتما أنني أقصدكما أنتما؟
النادل الأول: لا بأس يا سيدي.. يبدو أنك تود المغادرة بعد دفع الحساب..
المتسول: بالتأكيد..
(يخرج النادل نوتة الحسابات الصغيرة ويشرع في الحساب ثم يقطع ورقة ويقدمها للمتسول)
المتسول: لا أعرف القراءة والكتابة.. وفي كل الأحوال لن أحتاج لورقتك هذي.. بل سادفع لك ورقة نقدية كبيرة حصلت عليها اليوم من رجل يبدو كريماً وعليك أن تستقطع منها حسابك وبقشيشكما ثم تعيدان لي الباقي... حسنٌ؟
(النادلان بصوت واحد): حسنٌ سيدي..
(يدخل المتسول يده في جيب معطفه ويخرج ورقة نقدية يضعها في قبضة النادل الثاني)
المتسول: لا تهرب بالباقي يا لص..
(ينظر النادل الثاني إلى الورقة باستنكار)
النادل الثاني: إنها عشرة؟
المتسول: إذا كنت لا تملك فكة فسأفكها لك من بائعة الخضار على ناصية الشارع الثاني..
النادل الثاني: يا سيد.. إن حسابك مائة وتسعة آلاف..
المتسول: (يصمت لبرهة) ها.. هل قررتما اللعب معي؟
النادل الثاني: نحن لا نلعب هنا.. حسابك مائة وتسعة آلاف..
المتسول: أيها اللص القذر.. ماذا تدبر لي.. إن مكيدتك لن تنطلي علي..
النادل الأول: لا توجد مكيدة يا سيدي هذا هو حسابك بالفعل..
المتسول: هل أنت بعقلك.. أكل.. مجرد أكل بمائة وتسعة آلاف.. أي نوع من الأكل هو.. لحم آلهة.. هل ذبحتم الآلهة وقدمتموها لي طعاماً؟
المتسول الثاني: (يرفع صوته) يبدو أنك تستغل صبرنا عليك يا أحمق..
النادل الأول: اصبر قليلاً..
(يخرج المدير من مكتبه وهو رجل له كرش كبير ورأسه أصلع)
المدير: ماذا هناك.. إنكم تقلقون زبائني..
(يلتفت جميع الزبائن نحو المدير)
المدير: ماذا تفعل أيها الرجل..
النادل الثاني: لقد رفض دفع الحساب..
المتسول: كاذب.. لم أرفض..
النادل الثاني: إذاً ادفعه..
المتسول: دفعت عشرة .. وهذا كثير جداً..
النادل الأول: إن حسابك مائة وتسعة آلاف..
المتسول: لقد أخبرتني بهذه الخرافة من قبل..
المدير: حسنٌ.. لا تتجادلوا مع هذا الأحمق.. اطلبوا البوليس..
(ينهض عطا الله ويتجه نحو المدير)
عطا الله: اسمح لي يا سيدي..
المدير: تفضل سيدي..
عطا الله: أنا عطا الله المحامي..
المدير: تشرفنا سيدي..
عطا الله: وأعتقد بأنك طلبت البوليس..
المدير: بالتأكيد سيدي.. لقد أخطأت منذ البداية حين وافقت على جعل هذا الأحمق يتناول طعامه في مطعمي قرب شخصيات محترمة مثلكم..
عطا الله: ولكن أي تهمة توجهها لهذا المسكين..
المدير: السرقة يا سيدي..
عطا الله: السرقة هي أخذ مال بغير قبول من صاحبها.. فهل قدمت له الطعام وأنت غير قابل بذلك..
المدير: (يرتبك) كنت أحسب أنه سيدفع الحساب..
عطا الله: للأسف أيها المدير فما حدث ليس سرقة..
المدير: ليس مهماً.. المهم أن ما فعله هذا الشخص تم بسوء نية..
عطا الله- لا يوجد دليلٌ على سوء النية.. بل حتى ولو كان هناك سوء نية.. فمجرد توفر سوء النوايا لا يعني وجود جريمة..
(ينهض الشفيع)
الشفيع- سيدي المحامي.. مرحباً..
عطا الله- مرحباً بك..
الشفيع- يبدو أنك يساري..
عطا الله- أبداً..
الشفيع- ولكنني أراك تدافع عن هذا المتسول..
عطا الله- إن أغلب اللصوص في هذا البلد يساريون.. هل تريد أن أعددهم لك وبقضايا الفساد التي أدينوا فيها؟
الشفيع: لا .. لا حاجة لذلك.. على أية حال.. فهذا المتسول أخذا طعاما وابتلعه في جوفه.. لقد أتلفه..
عطا الله- كما قلت لك.. لقد قدموا له الطعام وهم قابلون لإتلافه.. هل هناك طعام لا يتلف.. إن تلف الطعام وفساده هو من طبائع الأشياء..
الشفيع: ولكن يا سيدي.. هناك مالٌ لم يدفع.. ثمن لم يدفع..
عطا الله- كذلك عندما تقترض من أحد مالا ولا تدفعه فإن البوليس لن يضعك في السجن.. هذه قضية مدنية يا سيدي وليست جنائية..
الشفيع- وهذا تملك..
عطا الله- تملك أم إتلاف؟ في كل الأحوال فإن قبول المطعم لتقديم الطعم ينفي حدوث جريمة تستدعي حضور البوليس..
المدير- سيدي.. مع احترامي لك.. ولكنني ساستدعي البوليس في كل الأحوال..فأنت لست مخولاً بتحديد ما يعد جريمة أم لا..
عطا الله- حسنٌ.. ولكن دعني أخبرك بأمر يا سيد مدير..
المدير- سيد مدير؟!! أنت تهينني..
عطا الله- ألست المدير..
المدير- ولكن.. ولكن..
عطا- اسمع.. لو حضر هذا البوليس إلى هنا فسيتم وضعك أنت في السجن..
المدير- أنا؟!!
عطا الله- نعم أنت..
المدير- يبدو أنك فقدت عقلك.. (يتحدث بسرعة وغضب) هذا الكلب أكل طعاماً بمائة وتسعة آلاف ورفض دفع الطعام ثم يقبض البوليس علي أنا..
عطا الله- نعم سيدي..(يدور عطا الله أمام المدير ويتحدث قبالة الجمهور).. لقد أسأت لهذا الرجل المسكين.. وصفته بالأحمق وبالكلب.. وهذا سلوك مشين وغير مهذب والأهم أنه يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون.. وهي جريمة ثابتة بشهادة الشهود..
المدير- (يتجهم والصدمة تلجم لسانه)..
عطا الله- اتركه ليذهب..
المدير- لماذا تفعل كل ذلك يا سيدي؟..
عطا الله- لأنها حقوقه يا سيدي المدير..
المدير- ولكنه ما كان ليعلم بها لولاك..
عطا الله- ولهذا درست الحقوق يا سيدي المدير.. ( يعود ليجلس إلى طاولته أمام زوجته وينادي على النادلين) أيها النادل.. الحساب من فضلك..
(يغادر المدير إلى مكتبه.. ويخرج المتسول من المطعم.. ثم يعود ويأخذ بعضاً من باقي طعامه)
المتسول: طعامي يا لصوص..
(يغادر)
(يذهب النادل الأول تجاه طاولة عطا الله ويقطع من نوتة الحساب، فيحشر عطا الله النقود بين دفتي النوتة)
عطا الله- الباقي لك..
(ينحني النادل الثاني شاكراً)
عطا الله- (يخاطب زوجته) هيا.. فلنغادر..
سماح- عطا الله.. لم أكن أعلم..
عطا الله- اسمعي.. ما حدث ليس بطولة مني.. لا أعرف سبب ما فعلت.. لكنني متأكد فقط من أنني فعلت الصواب..
سماح- عطا الله..
عطا الله- سماح.. لا سبيل إلى التراجع بعد الآن..
سماح- ولكنني اكتشفت بأنني كنت مخطئة..
عطا الله- وأنا كذلك كنت مخطئاً.. ولن يستمر هذا الخطأ إلى الأبد..(تقدم خارجاً من المطعم ثم توقف).. غداً في الساعة التاسعة.. ستكونين أمام القاضي.. وداعاً..
(على طاولة محسن)
محسن- هل تابعت ذلك يا سيد؟
سيد- نعم سيدي..
محسن- هل ما فعله ذلك المحامي صوابٌ أم خطأ
سيد- حقيقة لا أعرف يا سيدي..
محسن- كل ما في الأمر أنه محامٍ متعجرف.. ويوماً ما سيخضع كما خضع سعيد.. هل تراهنني..
(على طاولة الشفيع)
الشفيع: لا أعرف إن كنت سأراهن هذا الرأسمالي الأحمق أم لا.. كل ما أعرفه.. كل ما أعرفه.. هو أن البشر لديهم مشاعر تميل إلى نصرة الضعفاء.. لكنهم يقمعون تلك المشاعر لأنهم لا يثقون في بعضهم البعض... سأحتسي بعض الشراب.. لي سنوات وأنا أتناول طعامي وشرابي في هذا المطعم.. سنوات.. والحياة تكرر نفسها بعبثية مطلقة.. ربما كان ما فعله ذلك المحامي مجرد محاولة لمنح تلك العبثية قليلاً من المعنى.. (يصيح) يا ولد..
(يهرول النادل الثاني نحوه)
النادل الثاني- ءأمرني سيدي..
الشفيع- كأس كونياك.. كأساً مباركاً ومقدساً بحيث لا ينفد أبداً..
النادل الثاني: حسنٌ سيدي..
(ظلام)
(ستار)
..النهاية..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى