خيري حسن - من (حسين الشربيني) إلى (الوحوش): الرزق ربك (مقسمه) بالعدل!

"فى الفرح ناسينا/ ( السلطان)
وفى همه داعينا / (السلطان)
يسرق ضحكتنا/ ( السلطان )
ويبوح غناوينا/ ( السلطان )"

(القاهرة - 2004)

ضمن سلسلة حوارات صحفية حملت اسم ( نجوم على فراش المرض - اقترحها علىّ الكاتب الصحفي الراحل حمدي بسيط رئيس قسم الفن حينذاك - ذهبتُ إلى الفنان القدير حسين الشربيني( 1935 - 2007) فى منزله بعد تعرضه لإصابة بالغة، بالقدم ( كانت فى مفصل الفخذ الأيسر - إذ لم تخنَّي الذاكرة - والذاكرة كثيراً ما تخون!) بعد سقوطه المفاجئ، والعجيب، وهو يتوضأ للصلاة بالمسجد.
أثناء خروجي من الصحيفة( كانت صحيفة (الوفد ) المصرية المعارضة - متجهاً إلى مدينة نصر/ شرق القاهرة حيث كان يعيش التقيت بزميلي أحمد الشوكي - صحفي وشاعر وموسيقي - وكان يسكن بجواره فى ميدان رابعة العدوية/ تغير اسمه الآن وحمل اسم المستشار هشام بركات. قال الشوكي:"يا صديقي هو ساكن بجواري، ويصلي معي دائماَ فى المسجد، واسمح لى أن أزوره معك "! قلت: أهلاَ وسهلاَ ... اتفضل!
°°°
"يا حلم يا جناح المساكين
يا وعد من ورد البساتين
ملابين ربيع رايحين جايين
والكون حزين...من غير ألوان"
( مدينة نصر - منتصف النهار)
دخلت إلى شقته الهادئة، البسيطة، الجميلة، ومعى زميلى المصور - لا أذكر اسمه الآن - والشوكي طبعاً - وفي ذهني جملته ( عن الرزق) في فيلم (جري الوحوش) أمام الراحل نور الشريف التي قال فيها: (كُل الحرمان مر.. لكن لازم نحمد ربنا.. والرزق واحد.. ربنا مقسمه بالعدل).. وكذلك دوره في مسلسل (رحلة المليون) الذي جاءت فيه جملته الشهيرة: "بيع يا لطفي".. (ويا ليت لطفي ما باع؛ فمن يبيعُ مرة...يبيعُ مرات)!!
جلسنا لحظات في صالة الاستقبال، حتى جاء مستنداً على عكازه، بعدما اختل توازنه عام 2002 فسقط على البلاط بسرعة مذهلة، ليتم نقله على الفور إلى المستشفي ومنها عاد إلى بيته. فى البيت بدأ - واستمر - في رحلة علاجه التى دامت سنوات، تفرغ خلالها - حسبما ذكر لىّ - للقراءة والعبادة والتأمل فى الحياة.
الآن هو يجلس أمامي بصعوبة واضحة على ملامحه.. ثم تحدثنا في أمور كثيرة، في الحياة، والفن، والثقافة، والفلسفة.. ويومها قلت له ما قاله لي مواطن صعيدي اسمه(محروس أبو سالم) - تحدثت عنه فى مقال سابق نُشر بعضه فى موقع( مصراوي) وفى (مجلة روزاليوسف) - عن أنه كثيراً ما وقعت معارك طاحنة في قريته - فى صعيد مصر - بسبب استخدام بعضهم لجملة (بيع يا لطفي).. لكل منَ كان يبيع أرضه هناك!
وقتها ضحك كثيراً، وهو يقول: "القضية ليست في بيع الأرض، لكنها في بيع الأخلاق، والضمائر، فمن يبيع ضمير سوف يبيع أرضه، ويبيع بيته، ويبيع نفسه أيضاً"! ثم تحدثنا عن مسرحية (الملك هو الملك) للكاتب السوري الكبير سعد الله ونوس والتى شارك فيها مع الفنان الكبير صلاح السعدني و الفنانة فايزة كمال و الفنان لطفي لبيب والمطرب الكبير محمد منير وذكر لىّ الكثير والمُثير عن كواليس هذا العمل الكبير. بعد لحظات من الصمت التام عاد للحديث عن المواطن( لطفى أبو سالم) هذا الذي كنا نتحدث عنه بعدما ( باع أرضه، وفقد عقله)! قال الشربيني بنبرة حزن فى صوته:" لو كان عنده أخلاق ما كان باع أرضه"! ثم قال:" الأخلاق هي كل شئ، وأن سقطت، وانهارت فى المجتمع؛ فلا تنتظر منه - أي من المجتمع - أي شئ"!
°°°
" دلوعة ماشية بتتغندر
بين الإمام والشهبندر
والغاوي قاعد يستنظر
حبَ العزيز يطرح رمان"
( الشقة - بعد مرور ساعة )
بعد احتساء الشاي والقهوة قال: بمناسبة صديقك الذي يعمل بائع شاي في محطة السكة الحديد ( كنت قد حدثته عنه قبل قليل):" هل تعلم أن أول وظيفة عملت بها كانت موظفاً في مصلحة السكة الحديد في محافظة أسيوط، رغم أنني خريج آداب قسم اجتماع وفلسفة عام 1958". قلت: وما علاقة الفلسفة بالسكة الحديد؟ قال وهو يضحك: "أنا مثلك سألت وقتها نفس السؤال، وعندما لم أجد إجابة، تركت العمل بعد 11 يوماً وعدت للقاهرة"!.
قلت: بعدها التحقت بالعمل الصحفي، أليس كذلك؟ قاطعني وهو يهز رأسه بأسى واضح قائلاً: "لم أستمر فيها سوى أيام وتركته! بعدما اكتشفت أنها مهنة - رغم عظمة رسالتها - تتطلب ضمائر خربة، ونفوساً مريضة، وعيوناً تتلصص من أجل السلطة، التي تفسد الكثير من الصحفيين أحياناً! فتركتها واتجهت للتمثيل، وفيه استطعت أن أقبل ما يرضيني، وأرفض ما يشقيني".
يومها تركته بعدما أمسك في يده القرآن الكريم ليكمل فيه القراءة التي اعتادها يومياً منذ سنوات، وترجلت في الشارع أتذكر أعماله الفنية في السينما والمسرح والتليفزيون منها أفلام (أنا اللي قتلت الوحش. وجري الوحوش. وضحك ولعب وجد وحب. والهلفوت. وضربة شمس، وغيرها من الأعمال المتميزة)، حيث عمل فيما يقرب من 90 فيلماً سينمائياً، بخلاف المسرح والتليفزيون. كنت أتذكرها وأنا أترجل في شارع عباس العقاد القريب من مسكنه. واتذكر - وسط الناس - وهو يقول:" بيع يا لطفي "!
°°°
"يا حبيبي يا نجمة ليلى
يا منور لى السراديب
مكتوب على كف العاشق
روح بلدك يا غريب"
( القاهرة - 2007)
كنا فى يوم 14 سبتمبر / أيلول، من ذلك العام - كان يوم الجمعة الثاني من رمضان - عندما جلس الفنان حسين الشربيني على مائدة الإفطار وبجواره زوجته وأمامه ابنتاه (نهى وسهى).. وتناول بضع تمرات، ثم أمسك بكوب الماء، وارتشف منه ثلاث مرات، ثم اسند رأسه إلى مقعد خلفه، فحاولت الزوجة أن تساعده، والابنة أن تسنده، لكنه رفض.. وقاوم بهدوء، ثم تمتم بكلمات كثيرة، وأراح رقبته للخلف قليلاً، وبعد ثوانٍ سقط إلى الخلف.. وبعدها...مات!
°°°
" دنيا غرورة وكدابة
لكن جميلة وجذابة
مجاريح ونعشقها صبابة
أدينا.. وأدى حال الإنسان"
( مدينة نصر - اليوم التالي)
فى اليوم التالي السبت 15 سبتمبر / أيلول ( وقت الظهيرة ) - فى مثل هذا اليوم - تجمع المشيعون داخل المسجد - وكان بينهم الزميل/ وجاره أحمد الشوكي) الذي ذهب للمسجد بعد علمه بالخبر ليلة أمس. بعد صلاة الظهر وقف إمام المسجد ينظم الصفوف، ويكرر عليهم طريقة صلاة الجنازة على من حضر من أموات المسلمين، والجثمان أمامهم مسُجى داخل نعشه. وقبل أن يبدأ الإمام التكبيرة الأولى للصلاة.. التفت للمصلين وقال لهم: (أيها الناس.. أخوكم حسين الشربيني هذا ( وأشار إلى جثمانه) كان يجلس هنا في هذا المكان، بعد عصر يوم أمس يقرأ القرآن الكريم، ودموعه تتساقط بشدة. وجسده يرتجف بعنف. واليوم جاء لنفس المكان؛ لا ليقرأ القرآن، ولكن لنقرأ نحن عليه آيات الذكر الحكيم ونصلى عليه صلاة الجنازة...ثم قال - حسب شهادة أحمد الشوكي الذي حضر الصلاة :" استقيموا يرحمكم - ويرحمه - الله" دنيا...الدوام لله..

• خيري حسن.

• الأحداث حقيقية...والسيناريو من خيال الكاتب.
• الشعر المصاحب للكتابة للشاعر أحمد فؤاد نجم ( مسرحية الملك هو الملك) للمخرج مراد منير.



1663272206890.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى