محمود محمد دمور - احتباسٌ حراريّ

أعمل الآن ، حديثاً ، بشركةٍ للمحروقات البترولية . كنت قد سارعت بإرسال سيرتي الذاتية مباشرةً ،بعد أن أشار إليّ ،زوجي السابق ، إلى وجود عروض لا بأس بها في هذه الشركة .عُيِّنتُ بالشركة على جناح السرعة ؛ من غير مشقة ولا تعب ، وقد تم ذلك بعد أن قدمت فروض الطاعة ، والتي كانت أغرب فروض طاعةٍ أقدمها في حياتي . كان يجب علي فقط أن أغض الطرف عن الهمز واللمز الذي يتبدى من لدن المدير ، وساعتها، سأكون بمنأى عن الأذى والمساءلة. وحينها ، لن تؤلمني مؤخرتي و لا أي بوصة في جسمي . كان كل شيء عادياً ، أعني كنت أقوم بواجبي فقط : الصراخ في وجه من هم أقل مني شأناً ؛ بحكم التدرج الوظيفي ، و إلصاق البسمات البلاستيكية في وجه أمثالي من الموظفين ، والإكثار من مدح مديري . أتذكر قول المدير تماماً : (لقد خَيرتُ هؤلاء الذين ترينهم يكدحون و يتعرق كل شبر في أجسادهم ، بين أن يُغرقوا أنفسهم في ذكر محاسني (التي هي فيّ بالطبع ) ولا ضير في الزيادة ،كما أن المثل يقول : إن البحار لا تأبى رفدها بالمزيد من المياه ، وبين أن يعيشوا كراماً ، لكن بقلة في الرواتب . اختارت أغلبيتهم العيش بكرامة وبرواتب قليلة . أما الحثالة، من نوعكم الذي أحب ؛ فقد اختارت تمريغ رؤوسها في التراب، الذي أمشي عليه ، و دفنها في أماكن تخجل أقذر الجرذان التوغل في أحشائها ! ) . وقتها ازدردتُ قول المدير بحرقة في الجوف . كانت تُعربد في أعماقي أفكارٌ مثالية ، مثلاً ، كان بمقدوري أن أعيش مثل الآخرين ، و أوفر على نفسي هذه المهانات ، لكن هل ستدفع لي الكرامةُ إيجاراً أم ستعالج طفلي ، أم ستساهم في إقلاع زوجي عن التدخين ؟ إذا كانت الإجابة كلا ؛ إذن فعلى الجميع توفير أحكامهم و إدخالها في الأدراج والخزائن . وهل هؤلاء الطيبون الذين اختاروا المعاملة الجيدة ، برواتب قليلة أناسٌ نورانيون ؟! سمعت أن الراتب الذي يحصلون عليه ، في آخر الشهر، لا يكفي إيجار غرفة واحدة في أحد النزل الرخيصة ، و إطعامهم وجبة واحدة من عند الفوال الذي في آخر الشارع ، والذي اشتهر بإضافة مزيد من ماء الفول لمن يعرف انتماءه إلى فريق الكرام . على قوله : (إنها مياه الكرامة ، أقدمها لوجه الله ، لمن حفظوا مياه وجوههم من السباب والطعن واللعن . ومن وفروا على نفوسهم الزعيق والنعيق ، ولم يمسس وجوههم لعاب إثر الصراخ ! ) .
أي كرامةٍ هذه التي نجدها في فولٍ ممذوقٍ بالمياه ؟!
تذكرتُ أهمية تبوئي مكانتي الحالية ، و أنا عائدة من مكاتب الشركة في واحدةٍ من العصريات ، أقضم الكراوسون المحشو بالجبن ، و أشرب قهوتي الاسبريسو ؛ التي اشتريتها من أحد محلات القهوة العالمية الموجودة في كل ركن تقريباً ، حتى أنها فقدت قيمتها المعنوية التي تكمن في ندرتها . . . في الحقيقة ما شجعني على شرائها أن سعرها مرتفع قليلاً ، مقارنة بالقهوة العادية التي يطلبها فريق الكرماء ؛ من ما يجعل هنالك بيننا مسافة خطوة ، على الأقل في سوح الطبقات . تذكرتُ أنه ثمة مقولة شهيرة تقول : ( علينا أن نملأ بطوننا بالأطعمة الأعلى شأنا ، وغير المتوفرة بالنسبة إلى الجميع . في الأقل حينما تؤدي هذه الاطعمة إلى الأمراض ؛ فسنفصح عن ماهيتها أمام الطبيب بفخر طاووسي ، وهذا سيخفف الألم) .
كان الكرماء ،أصحاب الرواتب القليلة ، متكئين على الكراسي والجدران. أجسادهم ناحلة كأنها مهيئة للغرس . تطوف الكآبة في أعينهم والامتعاض . كانوا يرمقونني باحتقار و مقتٍ شديدين. أكادُ أماري بأنهم يريدون أن يبصقوا على وجهي . لجمت ضحكةً كانت ستصدر جراء الفكرة التي خطرت . هؤلاء مصابون بفقد السوائل ، و إذا ما أرادوا البصقَ على وجهي ؛ فسيفقدون أرواحهم الكريمة !
أعود إلى مباني الشركة في اليوم الموالي . أقبل أيادي المدير و جبهته الطيبة . كانت جبهته هذه المرة باردة جداً .. لم تكن جبهته طيبة ، لكنها كانت باردة حقاً . أردتُ إجادة دوري فقط ، لا أكثر ولا أقل . كنتُ أحس تجاه مديرنا بإحساس طاغٍ . مزيج من الافتتان والامتنان ، ولكنني في نفس الوقت كنت أشعر كأنني ملكية خاصة . وقد كان ذلك يحزنني و يغضبني في آن .
أمسد له ظهره فيتمطى ، ويغمض عينيه . نحن في مكتبه . لا أحد سوانا . لا إنس . لا جِنّ أيضاً . أنا في الاربعين . يصغرني هو بعشر ، لكنني بطريقة ما أعتبره أباً لي . بي رغبةٌ لأناديه بابا . لا أعرف السبب . ربما قدرته على فرض سيطرته . إنه أمر غاية في الجاذبية الأبوية بالنسبة لي . بالنسبة إلى أنثى .
( أتعلمين يا عزيزتي . منذ قدومك إلى شركتنا ، فقدنا العديد من الكرماء ، وهذا و إن كان جيداً بالنسبة لي ؛ فهو ليس جيداً بالنسبة إليك ) قالها بعنت و تألم لم أعهده منه .
( ماذا تعني سيادتك ؟ ) قلتُ باستغراب ؛ ما كان بالإمكان إخفاؤه حتى لو حاولت .
( يعني أن عليكِ توقع الأسوأ في الأيام القادمة ) هذه المرة ، كانت نبرته أكثر جدية . بالأحرى ، كانت سياطُ تهديده واضحةً ، وضوح لمعان قدر الفول ، في النهار الحامزةِ شمسُه .
بعدها بيومين ، تجمهر الكرماء خارج مباني الشركة . كانوا يحملون شعارات رنانة ، مخطوطة على لافتات ، مصنوعة من ورق الكرتون . كانوا يحملون اللافتات كالمشاعل ، وكأنهم بصدد حرقِ نسوةٍ، قد تم اكتشاف امتهانهن السحرَ والشعوذة ، في العصور الوسطى . كان اليوم مشمساً حارقاً ؛ تَحسَبُ أن أحدهم زاد معدل اشتعال درجة الحرارة بواسطة مؤشر ما غير مرئي . كان الطقس يتآمر عليهم بعنف و دون مواربة . انسلّ أحدهم من اللامكان ، كممثل لهم . صرخ في وجه المدير ؛ بصوت هائل عظيم كأغاني الأوبريت : (لقد ضقنا ذرعاً سيدي المدير . كفى ظلماً .كفى . سكتنا على حقوقنا المهضومة لسنين . عاتبتنا أجسادنا المنحولة قبل عقولنا ، نحن الآن مثلما من جر أذيال خيبته في آخر المطاف ؛حيث لا يوجد فرصة أخرى للمحاولة ) . إما الآن و إلا فلا ، إلى الأبد ، كما يُغني إلفيس بريسلي .
تتسرنمُ انفعالاتي بهدوء طفلٍ في المهد. النفسُ أصابها التعب ، وحتى كل شيء قد وُصِم بالعادية والفراغ . استعيد تفكيري بالراهن . ثمة حياةٌ وأنفاس باقية . ما زال الحشدُ يزمجر ، و لزئيره صدى . يستعين المدير بمن شاء من رجالٍ ملثمين ، كان قد ادخرهم لمثل هذه المحكات . قومٌ ذوو بأس و عزيمةٍ مثيرة . يتنافسون على أي منهم حاصدُ الأرواح الأبرز . تُهرقُ الدماء ولا تتوقف ، وتعمُّ الأرجاء أصوات النضال و البنادق . تباغتُ الأعين والملابس الرصاصاتُ، مثل خرطوم مثقوب ؛ لا تعرف أي الأماكن يصيب .
يقهقه المدير ، لكن هذه المرة بحرقة ، ويرمقني . أكتفي بالضحك لمآزرته رغم السوء . يدعوني إلى الداخل ؛ فثمة شؤون أهم . في الداخل ، كان أقراني يتبادلون الضحكات المصطنعة والكؤوس . يسخرون من تحدي الكرماء لمديرهم . ومع كل رصاصةٍ تستقر في الحناجر ، يتمزق قلبي !
الكل متحلقون، أمام الشاشات الضخمة ، التي تنقلُ الحدث بفجاجةٍ ، و تضع الملح على الجرح . وكأن الموت يحتاج إلى مَن يدلق مزيداً مِن الزيت ؛ لكي تشتد وطاته ؟!
أسير أنا عبر البهو . أحاول فكّ ربطة العنق الخانقة . أسير وأنا أترنح وارتمي على الجدار ؛ فيرتجّ صدري للوقوع على الأرض. تعتريني خيالات إثر الصدمة . مصابةٌ بالذهول . تخيلتُ زوجي يدخنُّ إحدى السجائر الرخيصة وهو يشتري الفول من الفوال الذي في آخر الشارع ، يداً بيد مع طفلنا، وهما يرتديان أسمالاً بالية . يكمل سيجارته و يرميها . يرمقني بقرف و بسخرية . يتغوطُ في أحد الأكياس ويرميني به . أركض . . أركض وأنا مغطاة بالقاذورات . أقع . . يرمقني مديري . استدرّ عطفه فلا يلتفت ناحيتي . لا يكاد يعرفني .
استميت في طلب المساعدة . لا أحد يساعدني ، و أنا أحبو ، حتى أدميت يديّ . أصحو من هذياناتي . أخلع قميصي الفخم و ساعتي الغالية . حتى حذائي خلعته . أجدُ سكيناً ملقاةً على الأرض ، وبقميصي الأبيض الذي خلعت ، أصنع لافتة . أثقب يُمناي بالسكين و أكتب بدمي ؛ بيدي اليسرى ، بخط عريضٍ واضح :
( سيادة المدير ، نحن ممتنون لكم . . . اللعنة . أنتم فخرنا . . . لا . لو سمحت أعينكم البراقة . لماذا تضطهدوننا؟. . . نحن نحبكم ) أجري مع الريح . أركضُ كسيارةٍ مرفقة بالتيربو* ناحيته . يضحك ويظنني سأقبله . كان محقاً . قبلته بفمي المتملق الثرثار ، وغرزتُ السكين في قلبه . قتلته بحب ! .

النهاية
اشارات
التيربو : هو توربينات تضاف إلى السيارة لزيادة سرعتها

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى