بعد تفكيرٍ طويل، وخيالاتٍ مُتزاحمةٍ عن أحداثِ يومها؛ ارتمتْ بجسدها المنهكِ على الأريكة، ساندةً رأسها بوسادتين صغيرتين، مَحشوتين قُطنا بطريقةٍ تُعطي شعوراً بالرفاهية المفرطة. ومع أنَّ الأريكةَ ضَيقةُ المساحة إلا أنّها اتخذتْ وضعاً مُريحاً يُكسبها القدرةَ على الارتخاء.
تأملتْ الغُرفة؛ الظلامُ يلفُ المكان, غير متيقظٍ لِشعاعِ ضوءٍ خَافتٍ يتسللُ من شقِ البابِ السُّفلي, وآخر ينسلُ مِن ستارة فاخرة الطراز, اعتنتْ ألا تدخل أيّ ضوءٍ من خارجِ البيتِ في ساعةِ الليل المتأخرة, لكنها رَغبة الإضاءة الحديثة في الإكثارِ من مصادر الإنارة في حدائق البيوت وأفنيتها!
أثارها صوتُ عقربِ الساعةِ الجدارية المعلقة في إحدى زوايا الغرفة, حَاولتْ تَركيز النّظرِ لمعرفةِ الوقت, لكن تصميمَ الساعةِ الغريب, والأرقام التي باتتْ شارحة صغيرة تكفي للتعبير عنها لم تسمح _وظلام الغرفة_ لها بتمييز الوقت.
مع القليل من التأفف, نهضتْ من هدوئها, تَجرُ أذيالَ المللِ خلفها, لتقتربَ من الساعةِ, وتُدرك الزمن الذي يحيطُ بها. فأوقفها ألم دبَّ فجأة في قدمها بعد أن داستْ على قطعة صلبة على الأرض, ودون أنْ تحاولَ التفكير بماهية الأمر, أردفتْ تُحاور نفسها:
- إنها (ميمي) وطبيعتها التي لا تتغير أبدا, تترك جهازَ التحكمِ الخاصِ بالتلفاز دائما على الأرض!!
مع ضجرها من أفعال أختها ذاتِ الثماني سنوات, وحُبها لها في الوقت عينه, التقطتْ جهاز التحكم من تحت قدمها, وعادتْ إلى الأريكة دون أن تتذكر سبب نهوضها! قَررتْ أن تُتابع أيَّ شيءٍ على شاشةِ التلفازِ بدلاً من الغوصِ في التفكير بمزاجِ نفسها خلالَ هذا اليوم, فالغدُ يوم عُطلة.
أولُ قناة ظهرتْ عند فتحِ التلفاز كانتْ لِعالمِ الطفولة الذي طالما حَلمتْ البقاء فيه, لكنها سرعان ما غيرتْ المحطة مدركة أنّ تلك الأيام رهنٌ في الذاكرة. أبدلتْ الكثير من المحطات, وغيرتْ عدداً لا بأس به من القنوات الفضائية. وأخيراً, والحيرة مالكة لساعةِ الموقف، وعدم الرضى عن أيّ شيء سيد المكان, تَوقفتْ عند فيلمٍ بدا لها جديداً.
رتبتْ أطرافها المرمية على الأريكة، وتَمعنتْ في الأحداث.
كانتْ الأجواءُ تجلسُ في أحضانِ الواحدة ما بعد الظهر, والدخانُ المتصاعد من تلك البناية الضَّخمة مُزج بأصواتِ صُراخٍ, ونِداءاتِ استغاثة, فزادَ توتر الحديثِ ما بين السماءِ الصافية المزاج, والدخان الناتج عن الحريق الذي التهمَ الجهة اليمنى من الطابق السفلي، وتغلبَ سواد الدخان المتَجمع من أطرافِ ممرات, وغرف الطابق على نقاءِ الجو, وتناثر الغاز الأحادي الخانق بين الممرات محاولاً الخروج إلى السماء.
_بدايةٌ مقلقةٌ، لماذا تتأخرُ سيارةُ الإطفاء بالوصول دائماً في الأفلام؟
قالتْ (منال ) باهتمام, وهي تُتابع الحرائق المندلعة داخل الشاشة, بعد أن تناستْ محيطها, وركزتْ على الأحداث. ليعترض مجرى الحدث رجلٌ طويلُ القامة, في عينيه قوةٌ قادرة على اقتلاع المحيط بشتى موجوداتهِ, وهو يضربُ الطاولة بأقسى ما يملك من القوة صارخاً بالشاب الواقف بانتصاب أمامه:
- غبي. كيف يحترق المبنى؟! كيف؟! أين كنتَ؟ ها.....؟!
بدتْ علامات الانزعاج جلية على الشاب, لكنه ظل ملتزماً بالصمت. أردف الرجل الذي يرتدي زياً عسكراً يوضحُ أنه ضابطٌ أو ما شابه:
- لا تسمح لأحد بالدخول عليّ الآن, وتولّ مع الباقين مهمة إخماد النار.
صرخ الشاب:
- حاضر سيدي.
بعد ساعاتٍ متأخرة قضتْ خلالها النيرانُ على أكبر جزءٍ من البناية, وصلتْ سيارةُ الإطفاء الهاتفة بأصوات الإنقاذ المخنوقةِ, وأخمدتْ الحرائق بطريقةٍ درامية واضحة في المبالغة من خلال حركة المسعفين ورجال الإطفاء بعناية مزعومة, والخوف المصطنع يتراءى على وجوههم المليئة بمساحيقِ التجميل!!
- مُملٌ جداً.. ما هذا...؟ ألم يلحظ المخرج الأخطاء المتواترة في النص الحركي للممثلين...؟! الأمر أشبه بالكوميديا..!!
بدتْ منزعجةً من أحداثِ الفيلم, فكرتْ أن تُغير المحطة, وقبل تنفيذ الفكرة, قُطعتْ الأحداثُ بفاصلٍ إعلاني. تَنهدتْ بضجرٍ, وظلتْ تُتابعُ ما يُعرض من فواصل إعلانية على مضض. حسبتهم في خلدها, وأخذتْ تفكر:
- الأول كان عن مسحوق غسيل, والفخامةُ التي طُرحَ بها الإعلان أظنها مقنعة لآلاف الناس بأنه الأفضل. لكن ما سيترك المشاهد مرتبكاً أن الإعلان الثاني كان عن مسحوق غسيلٍ آخر, وفكرة الإعلان مقنعةٌ أكثر من السابقة. حسناً سأتخيل أنَّني ربةُ المنزل, وأفكر أيّهما أختار؟! ها هو الثالث عن مسحوقِ غسيلٍ أيضاً.. لا حل أمامي سوى أن أحمد ربي, وأدعو لأمي بطول العمر والصحة.
ظلتْ تثرثر مع نفسها, وهي تحاولُ عبثاً أن تُدرك ما بها؟ وما الذي يجعلُ قَلبها خاضعاً لشعور البؤس, والملل؟!
كانتْ تُحاولُ أن تتغلبَ على نفسها, مصطنعة كل تلك الأفكار, وماثلة جبراً لما يُعرض أمامها برجاءِ أن تجدَ شيئاً يُعيدها إلى صفائها!
تركتْ جهاز التحكم على حافة الأريكة, بعد أن أطفأتْ التلفاز الذي استسلمتْ بعدم وجود ما يسرُ الخاطر فيه.. استلقتْ بهدوءٍ محركةً إحدى الوسائد الصغيرة الموجودة بقربها, أغمضتْ عينيها, فتخلصتْ مخيلتها من بقايا الضوء المتواجد في الغرفة. وأطلقتْ العنان لمخيلتها النائمة. حاولتْ أن تُحفز مخيلتها علها تذهبُ بها إلى حيثُ تجلسُ نفسها وحيدة, منزعجة, وتعيدها إلى كيانها!
تذكرتْ كلّ أحداث يومها بأدق تفاصيلها. الوجوه هي ذاتها, المنزل لم يُحرك ساكناً لمزاجها صباحاً, وبقي كما هو! حينها آثرت الخروج للوظيفةِ, علها تُبعثرُ رُكاد أفكارها, وتخرجُ بحياة جديدة تولدُ بين طياتِ نفسها, لم يكن هُناك استعداد لأية إشارة مرور أن تغيرَ موقعها, ولم تجد حجراً على تلك الأرصفة يُحركُ ساكناً لبؤسها.
فتحتْ عينيها وهي تسأل نفسها لماذا آثرت الخضوع للذهاب إلى الوظيفة؟ أما كان من الأفضل أن تبقى في البيت؟ فلو غيرتْ ما تفعله كل يومٍ من الذهاب, لما زاد انزعاجها, ولما شعرتْ برتابة تكرار العمل, وتكرار الحياة بنمط لا جديد فيه.
أغمضتْ جفنيها من جديد, موقنةً أن الأمر فات, وأنها بعد أن عانتْ من حالةٍ مفرطةٍ من الملل من نفسها, هربتْ الأخيرة منها!!
جررتْ أفكارها بحثاً عن فكرةٍ تُخرجها مما هي فيه. سؤالٌ واحدٌ خطر لها: كيف تحاولين التفكير وأنتِ منزعجة؟! ضحكتْ من سؤالها, وهي تُتمتِم بكلماتِ أُغنيةٍ تَحفظها عن ظهر قلب مُنذ الطفولة.
لاحَ في مُخيلتها (خالد) فابتسمتْ برضى. تذكرتْ كيف أعطته اليوم خمسة ألاف دينار هدية. سألها وعلامات الفرحة تتراقصُ حولَ ملامحهِ الصغيرة:
- لمَ هذه النقود يا خالة؟!
أجابته بهدوئها المعتاد معه:
- للمرة الألف أخبرك لا تنادني بــــ (خالة). نادني باسمي (منال).
ابتسم تلك الابتسامة التي تسحرها دوماً ببراءتها, وهي تملأ ملامحه الطفولية المرهقة من كد العمل, أكملتْ حديثها:
- النقود هدية لك, اشترِ ببعضها اللعبة التي تريدها, والبعضُ الباقي للحلوى.
ابتهجتْ أساريرها وهي تتذكرُ منظرَ الولدِ (خالد) ذي العشر ة أعوام, المنظف الذي يعملُ عند بابِ الدائرة التي تعمل فيها, وهو يشكرها بصوتٍ عالٍ, فقدماه لم تبقياه لحظة أمامها بعد أن سمع كلمة الحلوى, إذ صار يركض وهو يردد (شكراً يا خالة.. شكراً).
أقنعتْ نفسها أنها فعلتْ شيئاً جميلاً في صباحها يومها المحتومِ عليه بالبؤس, والانزعاج.
ألح عليها سؤالٌ لا تدري من أين وَلِدَ. لماذا أُصابُ بالاكتئاب وأنا لا أملكُ مصيبة تقضّ مضجعي؟ أهو البطر....؟! فــ (خالد) مثلاً, ترك الدراسة لأجل أن يُعيل أمه الأرمل, وإخوته الأصغر منه. مسكين, مع مرضهِ الدائم, وسعاله المستمر الذي يُسببه مرض الربو, يعملُ ويبتسم.
مع تقريع نفسها, وتوبيخها, استسلمتْ عيناها للنوم وهي على تلكَ الأريكة دون أن تغير مكانها.
كانَ المكان يعجُ بألسنة اللهب الحامية, وشرارة النار قد غطتْ ذاك الركن من الحي. الدخان المتصاعد رسم في السماء أشكال البؤس التي تركها لأهل المنزل المحترق. الضجةُ كانتْ على أعلاها, فجميع أهالي الحي قد خرجوا ليروا السبب الذي جعل ليلتهم ضياءً ساطعاً.
هب الجيران للمساعدة, _إلا الجار منذر لم يخرج من مكانه, ولم يفتح بابه ليرى ماذا يحدث_ !
أما (منال) فوقفتْ بذهولٍ تنظر للنارِ المتصاعدة عكس الجاذبية, خارجة من نوافذ المنزل الكبيرِ القابع في آخر رُكنٍ من حيهم.
ظلتْ في ذهولها لبرهة, لكنها سرعان ما بدأتْ تركض محاولةً أن تَدخل إلى المنزل المحترق وهي تصرخ (أنقذوه, أنقذوه ). لم يوقفها أحدٌ من رجال الإطفاء المتجمعين في ساحة المنزل الخارجية, ولم ينتبه أحدٌ من الناس لنداءاتها, وصراخها. صارتْ تركضُ بسرعةٍ مقتحمةً ألسن اللهب وكأن أحداً لا يراها, وهي وحدها تجري نحو الحريق !
مرتْ من المدخل, واصلتْ سيرها. بدأتْ تُعاني من صعوبةٍ في التنفس, بعد أن استنشقتْ قدراً كافياً من الغازات المتصاعدة الطاردة لغاز الحياة. أرهقتها حرارة المكان, وسُعالُها المستمر, وتعثُرها بما أسقطته النار على الأرضية. لكنها كانتْ مُصرة على مواصلة السير .
فتحتْ باب إحدى الغرف, رأتهُ يجلسُ بهدوءٍ, وابتسامةٌ جلية على شفتيه! كان يجالسُ شاباً حول منضدةٍ مربعة, عليها لوحة شطرنج. قد تحركَ أحد جنودها عدة مربعات, وقاطع حركتهُ الوزير المنتصب بين فيلته, وأحصنتهِ, وقلاعه!!
ابتهجتْ (منال) لمنظرهِ المبتسم, صاحتْ وهي تحاول أن تتقدم إلى داخل الغرفة:
- خالد .
منعتها ألسنة اللهب, وبدأ سقف الغرفة يسقط على المنضدة وجالساها. صرختْ, بكتْ, استنجدتْ بذاك الشاب الجالس مع (خالد). ظل هو الآخر مبتسماً كابتسامة خالد. و ظلتْ هي تبكي وتسعل, حتى سقط جزءٌ من السقف أمامها, عَزل بصرها عن ابتسامة (خالد).
فزعتْ من مكانها، فاتحة عينيها. تأملتْ بدقةٍ ما يحيطها؛ كان الفجر قد أتى, والهدوءُ حولها يدلُ على أن الجميعَ مازالوا نائمين. نهضتْ من الأريكة، رأتْ جهاز التحكم بالتلفاز على الأرض، علمتْ أنه الذي أيقظها, عندما سقط على الأرض. فركتْ عينيها، ومنظرُ (خالد) المبتسم لم يفارق ذاكرتها. بدأت تسعل بقوة. إذ مازالتْ تحسُ بالدخانِ يملأ رئتيها.
داهمها منظر المنضدة, والجالسين، ولوحة الشطرنج. تذكرتْ أن من كان يجلسُ مع (خالد) هو نفسه الممثلُ في الفيلم الذي تابعتْ بعضاً منه ليلة أمس !!!
نظرتْ إلى الساعة الجدارية المعلقة, عرفتْ إنَّها السابعة صباحاً. رن محمولها، أوجستْ خيفة لسببٍ تجهله. نهضتْ إلى المنضدة حيث هاتفها، أجفلها منظر المنضدة المربعة، الذي ذكرها بمنضدة الحلم، والجالسين، ولوحة الشطرنج..
تحققتْ من الهاتف، زميلتها من العمل هي المتصلة, زادها الأمر اضطراباً، فتركتْ الهاتف ولم تجبْ. ترجتْ الواقع في سرها أن يُرسل لها فاصلاً إعلانياً قصيراً، علها تتمالكُ نفسها, وتستوعب الأمر القادم.
قُطع الاتصال، بغضون لحظات وصلتْ رسالة من الزميلة نفسها. كُـتب فيها:
(ماتَ خالد ليلة أمس).
تأملتْ الغُرفة؛ الظلامُ يلفُ المكان, غير متيقظٍ لِشعاعِ ضوءٍ خَافتٍ يتسللُ من شقِ البابِ السُّفلي, وآخر ينسلُ مِن ستارة فاخرة الطراز, اعتنتْ ألا تدخل أيّ ضوءٍ من خارجِ البيتِ في ساعةِ الليل المتأخرة, لكنها رَغبة الإضاءة الحديثة في الإكثارِ من مصادر الإنارة في حدائق البيوت وأفنيتها!
أثارها صوتُ عقربِ الساعةِ الجدارية المعلقة في إحدى زوايا الغرفة, حَاولتْ تَركيز النّظرِ لمعرفةِ الوقت, لكن تصميمَ الساعةِ الغريب, والأرقام التي باتتْ شارحة صغيرة تكفي للتعبير عنها لم تسمح _وظلام الغرفة_ لها بتمييز الوقت.
مع القليل من التأفف, نهضتْ من هدوئها, تَجرُ أذيالَ المللِ خلفها, لتقتربَ من الساعةِ, وتُدرك الزمن الذي يحيطُ بها. فأوقفها ألم دبَّ فجأة في قدمها بعد أن داستْ على قطعة صلبة على الأرض, ودون أنْ تحاولَ التفكير بماهية الأمر, أردفتْ تُحاور نفسها:
- إنها (ميمي) وطبيعتها التي لا تتغير أبدا, تترك جهازَ التحكمِ الخاصِ بالتلفاز دائما على الأرض!!
مع ضجرها من أفعال أختها ذاتِ الثماني سنوات, وحُبها لها في الوقت عينه, التقطتْ جهاز التحكم من تحت قدمها, وعادتْ إلى الأريكة دون أن تتذكر سبب نهوضها! قَررتْ أن تُتابع أيَّ شيءٍ على شاشةِ التلفازِ بدلاً من الغوصِ في التفكير بمزاجِ نفسها خلالَ هذا اليوم, فالغدُ يوم عُطلة.
أولُ قناة ظهرتْ عند فتحِ التلفاز كانتْ لِعالمِ الطفولة الذي طالما حَلمتْ البقاء فيه, لكنها سرعان ما غيرتْ المحطة مدركة أنّ تلك الأيام رهنٌ في الذاكرة. أبدلتْ الكثير من المحطات, وغيرتْ عدداً لا بأس به من القنوات الفضائية. وأخيراً, والحيرة مالكة لساعةِ الموقف، وعدم الرضى عن أيّ شيء سيد المكان, تَوقفتْ عند فيلمٍ بدا لها جديداً.
رتبتْ أطرافها المرمية على الأريكة، وتَمعنتْ في الأحداث.
كانتْ الأجواءُ تجلسُ في أحضانِ الواحدة ما بعد الظهر, والدخانُ المتصاعد من تلك البناية الضَّخمة مُزج بأصواتِ صُراخٍ, ونِداءاتِ استغاثة, فزادَ توتر الحديثِ ما بين السماءِ الصافية المزاج, والدخان الناتج عن الحريق الذي التهمَ الجهة اليمنى من الطابق السفلي، وتغلبَ سواد الدخان المتَجمع من أطرافِ ممرات, وغرف الطابق على نقاءِ الجو, وتناثر الغاز الأحادي الخانق بين الممرات محاولاً الخروج إلى السماء.
_بدايةٌ مقلقةٌ، لماذا تتأخرُ سيارةُ الإطفاء بالوصول دائماً في الأفلام؟
قالتْ (منال ) باهتمام, وهي تُتابع الحرائق المندلعة داخل الشاشة, بعد أن تناستْ محيطها, وركزتْ على الأحداث. ليعترض مجرى الحدث رجلٌ طويلُ القامة, في عينيه قوةٌ قادرة على اقتلاع المحيط بشتى موجوداتهِ, وهو يضربُ الطاولة بأقسى ما يملك من القوة صارخاً بالشاب الواقف بانتصاب أمامه:
- غبي. كيف يحترق المبنى؟! كيف؟! أين كنتَ؟ ها.....؟!
بدتْ علامات الانزعاج جلية على الشاب, لكنه ظل ملتزماً بالصمت. أردف الرجل الذي يرتدي زياً عسكراً يوضحُ أنه ضابطٌ أو ما شابه:
- لا تسمح لأحد بالدخول عليّ الآن, وتولّ مع الباقين مهمة إخماد النار.
صرخ الشاب:
- حاضر سيدي.
بعد ساعاتٍ متأخرة قضتْ خلالها النيرانُ على أكبر جزءٍ من البناية, وصلتْ سيارةُ الإطفاء الهاتفة بأصوات الإنقاذ المخنوقةِ, وأخمدتْ الحرائق بطريقةٍ درامية واضحة في المبالغة من خلال حركة المسعفين ورجال الإطفاء بعناية مزعومة, والخوف المصطنع يتراءى على وجوههم المليئة بمساحيقِ التجميل!!
- مُملٌ جداً.. ما هذا...؟ ألم يلحظ المخرج الأخطاء المتواترة في النص الحركي للممثلين...؟! الأمر أشبه بالكوميديا..!!
بدتْ منزعجةً من أحداثِ الفيلم, فكرتْ أن تُغير المحطة, وقبل تنفيذ الفكرة, قُطعتْ الأحداثُ بفاصلٍ إعلاني. تَنهدتْ بضجرٍ, وظلتْ تُتابعُ ما يُعرض من فواصل إعلانية على مضض. حسبتهم في خلدها, وأخذتْ تفكر:
- الأول كان عن مسحوق غسيل, والفخامةُ التي طُرحَ بها الإعلان أظنها مقنعة لآلاف الناس بأنه الأفضل. لكن ما سيترك المشاهد مرتبكاً أن الإعلان الثاني كان عن مسحوق غسيلٍ آخر, وفكرة الإعلان مقنعةٌ أكثر من السابقة. حسناً سأتخيل أنَّني ربةُ المنزل, وأفكر أيّهما أختار؟! ها هو الثالث عن مسحوقِ غسيلٍ أيضاً.. لا حل أمامي سوى أن أحمد ربي, وأدعو لأمي بطول العمر والصحة.
ظلتْ تثرثر مع نفسها, وهي تحاولُ عبثاً أن تُدرك ما بها؟ وما الذي يجعلُ قَلبها خاضعاً لشعور البؤس, والملل؟!
كانتْ تُحاولُ أن تتغلبَ على نفسها, مصطنعة كل تلك الأفكار, وماثلة جبراً لما يُعرض أمامها برجاءِ أن تجدَ شيئاً يُعيدها إلى صفائها!
تركتْ جهاز التحكم على حافة الأريكة, بعد أن أطفأتْ التلفاز الذي استسلمتْ بعدم وجود ما يسرُ الخاطر فيه.. استلقتْ بهدوءٍ محركةً إحدى الوسائد الصغيرة الموجودة بقربها, أغمضتْ عينيها, فتخلصتْ مخيلتها من بقايا الضوء المتواجد في الغرفة. وأطلقتْ العنان لمخيلتها النائمة. حاولتْ أن تُحفز مخيلتها علها تذهبُ بها إلى حيثُ تجلسُ نفسها وحيدة, منزعجة, وتعيدها إلى كيانها!
تذكرتْ كلّ أحداث يومها بأدق تفاصيلها. الوجوه هي ذاتها, المنزل لم يُحرك ساكناً لمزاجها صباحاً, وبقي كما هو! حينها آثرت الخروج للوظيفةِ, علها تُبعثرُ رُكاد أفكارها, وتخرجُ بحياة جديدة تولدُ بين طياتِ نفسها, لم يكن هُناك استعداد لأية إشارة مرور أن تغيرَ موقعها, ولم تجد حجراً على تلك الأرصفة يُحركُ ساكناً لبؤسها.
فتحتْ عينيها وهي تسأل نفسها لماذا آثرت الخضوع للذهاب إلى الوظيفة؟ أما كان من الأفضل أن تبقى في البيت؟ فلو غيرتْ ما تفعله كل يومٍ من الذهاب, لما زاد انزعاجها, ولما شعرتْ برتابة تكرار العمل, وتكرار الحياة بنمط لا جديد فيه.
أغمضتْ جفنيها من جديد, موقنةً أن الأمر فات, وأنها بعد أن عانتْ من حالةٍ مفرطةٍ من الملل من نفسها, هربتْ الأخيرة منها!!
جررتْ أفكارها بحثاً عن فكرةٍ تُخرجها مما هي فيه. سؤالٌ واحدٌ خطر لها: كيف تحاولين التفكير وأنتِ منزعجة؟! ضحكتْ من سؤالها, وهي تُتمتِم بكلماتِ أُغنيةٍ تَحفظها عن ظهر قلب مُنذ الطفولة.
لاحَ في مُخيلتها (خالد) فابتسمتْ برضى. تذكرتْ كيف أعطته اليوم خمسة ألاف دينار هدية. سألها وعلامات الفرحة تتراقصُ حولَ ملامحهِ الصغيرة:
- لمَ هذه النقود يا خالة؟!
أجابته بهدوئها المعتاد معه:
- للمرة الألف أخبرك لا تنادني بــــ (خالة). نادني باسمي (منال).
ابتسم تلك الابتسامة التي تسحرها دوماً ببراءتها, وهي تملأ ملامحه الطفولية المرهقة من كد العمل, أكملتْ حديثها:
- النقود هدية لك, اشترِ ببعضها اللعبة التي تريدها, والبعضُ الباقي للحلوى.
ابتهجتْ أساريرها وهي تتذكرُ منظرَ الولدِ (خالد) ذي العشر ة أعوام, المنظف الذي يعملُ عند بابِ الدائرة التي تعمل فيها, وهو يشكرها بصوتٍ عالٍ, فقدماه لم تبقياه لحظة أمامها بعد أن سمع كلمة الحلوى, إذ صار يركض وهو يردد (شكراً يا خالة.. شكراً).
أقنعتْ نفسها أنها فعلتْ شيئاً جميلاً في صباحها يومها المحتومِ عليه بالبؤس, والانزعاج.
ألح عليها سؤالٌ لا تدري من أين وَلِدَ. لماذا أُصابُ بالاكتئاب وأنا لا أملكُ مصيبة تقضّ مضجعي؟ أهو البطر....؟! فــ (خالد) مثلاً, ترك الدراسة لأجل أن يُعيل أمه الأرمل, وإخوته الأصغر منه. مسكين, مع مرضهِ الدائم, وسعاله المستمر الذي يُسببه مرض الربو, يعملُ ويبتسم.
مع تقريع نفسها, وتوبيخها, استسلمتْ عيناها للنوم وهي على تلكَ الأريكة دون أن تغير مكانها.
كانَ المكان يعجُ بألسنة اللهب الحامية, وشرارة النار قد غطتْ ذاك الركن من الحي. الدخان المتصاعد رسم في السماء أشكال البؤس التي تركها لأهل المنزل المحترق. الضجةُ كانتْ على أعلاها, فجميع أهالي الحي قد خرجوا ليروا السبب الذي جعل ليلتهم ضياءً ساطعاً.
هب الجيران للمساعدة, _إلا الجار منذر لم يخرج من مكانه, ولم يفتح بابه ليرى ماذا يحدث_ !
أما (منال) فوقفتْ بذهولٍ تنظر للنارِ المتصاعدة عكس الجاذبية, خارجة من نوافذ المنزل الكبيرِ القابع في آخر رُكنٍ من حيهم.
ظلتْ في ذهولها لبرهة, لكنها سرعان ما بدأتْ تركض محاولةً أن تَدخل إلى المنزل المحترق وهي تصرخ (أنقذوه, أنقذوه ). لم يوقفها أحدٌ من رجال الإطفاء المتجمعين في ساحة المنزل الخارجية, ولم ينتبه أحدٌ من الناس لنداءاتها, وصراخها. صارتْ تركضُ بسرعةٍ مقتحمةً ألسن اللهب وكأن أحداً لا يراها, وهي وحدها تجري نحو الحريق !
مرتْ من المدخل, واصلتْ سيرها. بدأتْ تُعاني من صعوبةٍ في التنفس, بعد أن استنشقتْ قدراً كافياً من الغازات المتصاعدة الطاردة لغاز الحياة. أرهقتها حرارة المكان, وسُعالُها المستمر, وتعثُرها بما أسقطته النار على الأرضية. لكنها كانتْ مُصرة على مواصلة السير .
فتحتْ باب إحدى الغرف, رأتهُ يجلسُ بهدوءٍ, وابتسامةٌ جلية على شفتيه! كان يجالسُ شاباً حول منضدةٍ مربعة, عليها لوحة شطرنج. قد تحركَ أحد جنودها عدة مربعات, وقاطع حركتهُ الوزير المنتصب بين فيلته, وأحصنتهِ, وقلاعه!!
ابتهجتْ (منال) لمنظرهِ المبتسم, صاحتْ وهي تحاول أن تتقدم إلى داخل الغرفة:
- خالد .
منعتها ألسنة اللهب, وبدأ سقف الغرفة يسقط على المنضدة وجالساها. صرختْ, بكتْ, استنجدتْ بذاك الشاب الجالس مع (خالد). ظل هو الآخر مبتسماً كابتسامة خالد. و ظلتْ هي تبكي وتسعل, حتى سقط جزءٌ من السقف أمامها, عَزل بصرها عن ابتسامة (خالد).
فزعتْ من مكانها، فاتحة عينيها. تأملتْ بدقةٍ ما يحيطها؛ كان الفجر قد أتى, والهدوءُ حولها يدلُ على أن الجميعَ مازالوا نائمين. نهضتْ من الأريكة، رأتْ جهاز التحكم بالتلفاز على الأرض، علمتْ أنه الذي أيقظها, عندما سقط على الأرض. فركتْ عينيها، ومنظرُ (خالد) المبتسم لم يفارق ذاكرتها. بدأت تسعل بقوة. إذ مازالتْ تحسُ بالدخانِ يملأ رئتيها.
داهمها منظر المنضدة, والجالسين، ولوحة الشطرنج. تذكرتْ أن من كان يجلسُ مع (خالد) هو نفسه الممثلُ في الفيلم الذي تابعتْ بعضاً منه ليلة أمس !!!
نظرتْ إلى الساعة الجدارية المعلقة, عرفتْ إنَّها السابعة صباحاً. رن محمولها، أوجستْ خيفة لسببٍ تجهله. نهضتْ إلى المنضدة حيث هاتفها، أجفلها منظر المنضدة المربعة، الذي ذكرها بمنضدة الحلم، والجالسين، ولوحة الشطرنج..
تحققتْ من الهاتف، زميلتها من العمل هي المتصلة, زادها الأمر اضطراباً، فتركتْ الهاتف ولم تجبْ. ترجتْ الواقع في سرها أن يُرسل لها فاصلاً إعلانياً قصيراً، علها تتمالكُ نفسها, وتستوعب الأمر القادم.
قُطع الاتصال، بغضون لحظات وصلتْ رسالة من الزميلة نفسها. كُـتب فيها:
(ماتَ خالد ليلة أمس).