فنون بصرية سعيد فرحاوي - الحرية المخنوقة في لوحة عبدالاله الشاهيدي

العالم في الكتابة والعالم من خلال التشكيل؛ موضوعان يطرحان بصيغ متفاوتة. العالم في الكتابة تحركه الكلمات فتحوله الى تمثلات جد مرتبة كلما حاول المبدع أن يقربنا منه ويدخلنا في ضجيج الصياغات التي يراها ممكنة ومقبولة لإقناعنا بأن الصور والكائنات والأزقة والشوارع والمدن والقرى؛ تشكل مواضيع قريبة جدا من الواقع الذي نعيش فيه؛، فيكون بذلك قد مارس لعبة الخداع والمكر؛ فتتحول عملية التلقي لتصبح عمليات يتحكم فيها المبدع بالصيغة التي يراها في محتوى إدراكه وانفلاته أحيانا لغة خاصة به ؛ كما يتحول الواقع في الابداع من خلال الكلمات لينقل صورا غرائبية تحرك وعينا؛ فيتخبط كل ما نراه في النص مع مانراه في الواقع كمرجع أو سياق. كل ذلك يبنى الحياة في لعبة التضادات والانسجامات؛ فتصبح العلاقة بين مايكتب ككلمات وما يلمس في الواقع تتحكم فيه المقولة المشهورة التي تكلم عنها فيردينون دي سوسيير بأنها علاقة اعتباطية؛ اما في مجال الصورة فالعكس هو الصحيح مادامت العلاقة تتحكم فيها قيمة المشابهة بين الصورة والواقع؛ لهذا يجعلنا التشكيل نعيش في عالم مغاير كليا عن عالم البناء بالكلمات.
على ضوء هذه الرؤية سأرى مع عبدالاله الشاهيدي ماهية الوجه المتخلي عن جسده؛ كما سأرى معه عمق الجسد غير المنظم الدال عن فوضى ترتيب مكونات الوجود.
يقول عنه عزالدين بورجا:
(ما الذي يعلمنا الفن؟ إنه يعلمنا العزلة والانعتاق منها!
ونحن في هذه العزلة الإجبارية، عزلة الكائن الخفي، نجد أنفسنا إزاء العودة إلى الذات، العودة إلى الأعماق، الغوص بعيدا بعيدا في عزلتنا السرية، مشدودين ومنذورين إلى الصراع القائم بين الداخل والخارج، بين الصمت والصخب، بين الأنا والنحن/ال"هُم...).
لوحة تنجلي بعدة أسئلة كلها مشروعة؛ لأنها تكتسب قوة مصداقيتها من الأبواب المفتوحة التي تركها المبدع وراءه ليعطي لكل متأمل في لوحته الحق في ان يرى وجهه المختفي أو الهارب منه بطرق متعددة ؛ لذلك اعتمد عدة رموز؛ كل رمز له دلالة في صناعة الفكرة بتأويل ممكن. لهذا فأول عمل يطلب منا هو تحديد خطوط كل رمز وطريقة تمفصلاته البنائية؛ على كافة المستويات؛ منها السطحية و الأخرى العميقة. سنقرأ الدلالة وطبيعة بنائها بناء على تفكيك الأنساق السطحية؛ كما سنحدد أشكال بناء الألوان لصياغة المعاني بتناسق محكم؛ ثم نتحول الى الأنساق العميقة؛ واخيرا نخرج بتأويلات على ضوء المعطيات المفككة؛ لنقوم بجمعها ؛ لعلنا نتمكن من فهم مايريد ؛ حسب رؤيتنا لعوالم عبدالاله الشاهيدي المؤسسة على مجموع التمظهرات المركبة تركيبيا؛ توليديا؛ تحويليا واخيرا تتمازج كل عناصره المركبة بحركية داخلية خاصة؛ لتنتج ما نسميه النص الدلالي الموضوع أو الهدف؛ لإدراك النص الخفي او الغامض في اللوحة.
قبل الدخول في عالم الصورة سنتكلم عن دلالة الوجه بشكل عام؛ ولحسن حظي أن صادفت مقالا للأستاذ مولاي علي ادرار يتكلم فيه عن صيغ وتعدد دلالات توظيف الوجه في اللغة العربية؛ كما يشير هناك عدة تجليات لمفهوم الوجه؛ فهو الوجه المعروف؛ اي الوجه البيولوجي(الرأس بعينين وأنف وفم...) ومنه كما جاء في صورة ال عمران( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار..)؛ هنا بمعنى أول النهار؛ هناك الوجه القصد بالفعل؛ ثم الوجه الاحتيال ؛كما يقال(ما الوجه فيه) أي ما الحيلة؟؛ ثم الوجه المذهب والجهة والناحية؛ والوجه القدر والمنزلة(لفلان وجه غليظ)؛ اي أعظم قدرا وجاها؛ والوجه الرئيس المنظور له (فلان وجه عشيرته) ويعبر بالوجه عن الذات(وجوه يومئد ناظرة..). كلها معان متعددة تحدد طبيعة الوجه ودلالته حسب التداول والصيغ المستعملة. السؤال هنا أي وجه يريد التكلم عنه عبدالاله الشاهيدي في لوحة جاءت بسياق خاص يحدد ماهيتها وأشكال بناء عالمعا ؟ما دلالته في الموقع والوضع داخل اللوحة ؟. وما وظيفته في علاقته بباقي الرموز. ؟..
لمعرفة وظيفة الوجه سنكون مجبرين تفكيك البنيات السطحية لتحديد عناصر اللوحة ومكوناتها ؛ لنعرف طبيعة العلاقات التي تقود إلى بناء الدلالة.
البنيات السطحية للوحة الحرية المخنوقة:
لوحة بوجوه متعددة؛ ابرز الوجوه فيها وجه امرأة يتموضع بشكل غرائبي مثير؛ بين يدين؛ في الاعلى يوجد راس مقلوب؛ الشعر يتجه نحو الأسفل واليد الأولى متمكنة من احتضانه والأخرى نصفها مختف والطرف الآخر متصل بفضاء طغى عليه الأزرق السماوي. وجوه مشتتة بشكل باهت بأشكال غير عادية منها ماهو حيواني وشيطاني وآخر قادم من عالم مغاير عن عالمنا؛ زاد من غموض الصور وجود طائر مقيد بحبل قيد جناحيه ومنعه من الطيران. زاد من تماسك هذه الصور وتقاربها هيمنة اللون الازرق وامتزاجه بالأبيض؛ رغم أن اللونين معا يوحيان إلى الايجاب إلا أنهما في اللوحة غيرا وظيفتهما العادية ليؤديا وظيفة نقيض؛ لأنهما جاءتا محددتين بهيجان يحيل على تلولب الأمواج مما جعل منهما في وضع هيجان و قلق.
البنيات العميقة في لوحة الحرية المخنوقة.
السؤال المحوري هنا :
ما دلالة الوجوه في لوحة عبدالاله الشاهيدي؟بشكل آخر ماذا تريد ان تقول اللوحة؟ هل الوجه هنا له دلالة بمعنى القصد؛ ام الإحالة على الذات ام يريد ان تكون عاملا تشويريا تفيد الوجه الاحتيال ام الوجه الجهة والناحية ام الوجه القدر والمنزلة؛ ام الوجه الإحالة على الرئيس؟ ام الوجه المقصود في اللوحة ماهو لا هذا ولا ذاك وإنما يريد وجها آخر لا يعرفه إلا هو؟..
وانا اتساءل معه وجدت نفسي أمام صورة اشار إليها الباحث عزالدين بورجا ؛ الذي وجد نفسه هو الآخر منبهرا بوجوه الشاهيدي؛ مما جعله يقول :
"..
وهذا ما نقرأه في هذا العمل الفني [الحرية المنتهكة؛ ] الذي يجمع بين الواقعية المفرطة والسوريالية المتجددة، حساسية توضب فوضاها المبعثرة في كون القماشة لتخبرنا بأننا سرنا سجناء هذا العالم المعاصر، الذي يصعب فهمه، عالم سائل وغازي.. عصي على إدراك تفاصيله، عالم بقدر ما ينتقد الميتافيزيقا فهو يشيد ميتافيزيقاه الجديدة، لكننا غير قادرين على الهروب منه؛ كذلك العصفور الذي يفضل الموت على أن يسجن في عزلة القفص.. هذا ما يخبرنا به عبد الإله الشاهدي، وهو يجعل من نفسه طائرا سجين العزلة القسرية بفعل هذا الوباء الخفي، كأننا "نطارد شبحا يطاردنا"، لا حل لدينا إما أن نواجهه أو نموت منعزلين غرباء.. إننا إذن، ذلك الطائر ونحن تلك الفتاة التي انقلب رأسها وباتت تنظر إلى العالم من الأسفل لعله يعتدل ويعدل عما آل إليه.)..
على ضوء ما أشرنا إليه سابقا؛ ومن خلال مقاربة الباحث عزالدين بورجا فإن وجوه اللوحة تشكل رؤية لواقع آخر بوجه سوريالي يرفض الواقع الغارق في غيبوبته؛ القابع في سرابه. وجوه الشاهيدي مشتتة وفي تشتتها تعيد النظر في كل ماهو معاش ترسل الفوضى بنظام التفاهة؛ كما تعري عن الحرية الساذجة التي تخفي الاشباح اللامحصورة التي تعيش فينا؛ لا تحترمنا رغم ذلك نقبلها لأنها لا تشكل سوى مجرات الغضب تحتوي الغياب والقهر؛ تجترنا في انظمة تعطي القرار للتافهين المتسكعين في سياسة غير عادلة تسلعن الانسان وتسلب حريته بقانون صنعته بإرادته لتحكم به كل من يخالف زعامتها ومتاهاتها المضللة والمضبعة. وجوه بألوان مختلفة تعري عن العزلة وتكشف عن ألوان الحمق المختفي فينا ؛ كما تكشف عن السجون التي نعيش فيها باعتقاد مغلوط؛ لأننا نظن فقط الحكايات بعناوين ماكرة وخادعة ؛ كلماتها :
الوضع مريح


1663671954352.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى