1
رجل واحد يحكم المدينة،
رجل واحد يريد أن يحكم المدينة من دكانه المزدحم بالهواء الفاسد.
رجل واحد يعتقد أنه يحكم المدينة، فقط لأن أشخاصا عابسين، صدمهم قطار الحياة السريع، وخلف فيهم أعطابا يجتمعون حول "كونطوار" حانوته ويسدون بوابته الضيقة في وجه الزبناء... ويعتقدون أنهم يملكون مفاتيح كل الأبواب... الزبناء الحقيقيون قدموا استقالاتهم تباعا منذ مدة، ولم يعد هناك إلا الكساد.
رجل واحد يقول أنه لا يحكم المدينة ولا يريد أن يحكمها، فقط يريد أن يوجه رأيها العام.... لا لشئ سوى لأن له شاربا دقيقا وقامة مديدة.
الرجل الذي يحب أن يملك الحقيقة لوحده لأنه ترك مقاعد الدراسة مبكرا، ولم تطأ قدماه مدرسة أو معهدا آخر.. بقي كذلك بحقائقه المغلقة المغلوطة.. كانت حقائقه ـ تلك ـ مقصَّه الذي يفصل به ملابس المدينة.. مرة يفصل لها سروالا قصيرا، ومرة يتركها بدونه. قدرته على اشعال الحروب لا تضاهى، ولكنه للأسف أو لحسن الحظ ـ لست أدري ـ يستسلم سريعا لما يسمى "المساعي الحميدة"...
في المدينة التي يريد الرجل أن يحكمها ويوجه رأيها العام، يوجد مراسلون صحفيون معتمدون يشوهون الحقائق لأنهم لا يذكرون مناقب الرجل الذي يريد أن يكون أهم رجل في المدينة... لذلك أنشأ جريدته الخاصة، وشرع يكتب عن نفسه وعائلته وذويه...، ولأن جريده لا تباع بالشكل المطلوب، فإنه في الغالب يحمل نسخا عديدة تحت معطفه الرمادي... ويشرع في توزيعها على المارة.. تسبقه في الغالب ابتسامته الحامضة مثل عشاء بائت.. المارة الذين يعرفونه، وفي أحيان كثيرة يخافون تشهيره، والذين مازال فيهم شئ من حياء البداوة الجميل، يلقون جريدته عند أول منعطف، وفي أقرب صندوق للقمامة ليس نكاية بالجريدة ذاتها، وإنما نكاية بصاحبها..
في البداية عندما كان مراسلا معتمدا لدى جريدة أسبوعية، كان يصر على نسج مقالاته وتوزيعها كمناشير أو بلاغات حربية.. الكتاب والصحفيون الكبار يستحون دائما من الإشارة إلى كتابتاتهم، يستكينون إلى تواضع العلماء لأنهم يعرفون أن الكتابة نوع من اللعنة التي لا تجلب الجاه بقدر ما تجلب المتاعب. ولكن الرجل الذي يريد أن يحكم المدينة... وينقذها من براثن الفساد يقر أن الناس في المدينة لا يملكون القدرات التي تمكنهم من اختيار مقروءاتهم، لذلك آل الرجل على نفسه أن يزودهم بمقالاته النيرة ـ كما يحب أن يصفها ـ.... هم يعرفون مسبقا أنها مقالات لا امتداد لها.. ولادتها موتها حتى لكأنها تشبه رعشة جنسية خائبة..!!
2
للرجل أحزانه... أيضا.
مساء، عندما ينعزل في غرفته، تاركا العائلة كاملة تتابع حقائق التلفزيون، ويجلس إلى طاولته ولا يجد ما يكتب... لا مشكلة في المدينة ولا في الضواحي القريبة.. يشرب كأس ماء كامل دفعة واحدة، ويحاول إقناع نفسه بأن المدينة لم تستقم بعد.. وأن هناك خللا ما في مكان ما منها، وعليه شحذ همته وقلمه للبحث وتسويد مقال ناري.
لاشئ....!!
استقامت المدينة، طرقها صالحة وفي حالة جيدة، الأزقة نظيفة والناس سعداء.. التعليم والصحة وباقي الخدمات متوفرة... مصالح الناس تسير بشكل عادي..
على المراسل الآن أن يستقيل أو يتقاعد.. فلا حاجة للمدينة الآن بمراسل يغطي حروبها الصغيرة، السرية والعلنية... الحقائق كلها على السطح، ولا حاجة إلى مراسل غواص يبحث في أعماقها عن محار الحقائق...
ولكن الرجل لا يريد أن يستقيل،
زوجته ترى أن صفة المراسل هي رأسماله به يؤدي فاتورة الماء والكهرباء والهاتف وخروف العيد، ونفقات رمضان والدخول المدرسي، وابنه البكر يرى أن تقاعد الوالد يقلل من فرصه في الحصول على وظيفة محترمة حتى بدون كفاءات معروفة. أما ابنته العانس الطويلة مثل ساعة انتظار حرجة فكانت ترى أن استمرار أبيها يعني استمرار الحفاوة التي تلقاها في حمام الحي، حيث تتسارع النساء في حجز مكان لائق لها، وفي تزويدها بالماء الساخن.. مما يجنبها الزحام القيامي أمام صهريج الماء المغلى، والعائلة كانت ترى... والأصدقاء كانوا يرون... والأشقاء والأصدقاء والمقربون أيضا...
ولكن... كيف يستمر المراسل؟
لم تعد هناك حرب يغطيها، لم يعد هناك قصف في المدينة. الجنود ألقوا أسلحتهم وعادوا إلى ثكناتهم، والأحذية الغليظة والبنادق والذخيرة الحية وصفارات الإنذار والبلاغات أصبحت جزءا من الماضي.
الناس يعيشون في سلام، يحتسون فناجين قهوتهم في دعة ويقرأ ون صحفهم في هدوء وطمأنينة، والحياة تسير بشكل عادي رتيب مثل مياه نهر قديم... لم تعد الطبيعة قاسية كي يكتب عن ضياع المحاصيل والمنازل والدكاكين وتشرد العائلات وانهيار شبكة تصريف المياه العادمة وانقطاع التيار الكهربائي.... لذلك فالمراسل حزين للغاية، حتى أنه أهمل تشذيب شاربه الكث وأرسل لحية شعثاء. أفكاره العجوزة لم تعد واضحة وموقفه من العالم تذبذب بشكل غير مفهوم تماما.
لم يعد أحد يدفع ثمن قهوة الصباح في فندق العرفاء، ولم تعد السيارات الفارهة تقف له في ناصية الشارع، جف قلمه المر مثل زهرة دفلى.... بقيت أوراقه بيضاء قاحلة مثل صحراء في صيف قائظ... بقي يقينه هناك متروكا لرياح المذلة... لذلك فالمراسل حزين لأن الحرب انتهت، والأحذية الغليظة والبنادق والذخيرة الحية وصفارات الإنذار والبلاغات المكررة أصبحت مجرد ذكرى.... مجرد طنين خافت يصمّ الآذان.
(*) قاص من المغرب يقيم في بروكسيل.
رجل واحد يحكم المدينة،
رجل واحد يريد أن يحكم المدينة من دكانه المزدحم بالهواء الفاسد.
رجل واحد يعتقد أنه يحكم المدينة، فقط لأن أشخاصا عابسين، صدمهم قطار الحياة السريع، وخلف فيهم أعطابا يجتمعون حول "كونطوار" حانوته ويسدون بوابته الضيقة في وجه الزبناء... ويعتقدون أنهم يملكون مفاتيح كل الأبواب... الزبناء الحقيقيون قدموا استقالاتهم تباعا منذ مدة، ولم يعد هناك إلا الكساد.
رجل واحد يقول أنه لا يحكم المدينة ولا يريد أن يحكمها، فقط يريد أن يوجه رأيها العام.... لا لشئ سوى لأن له شاربا دقيقا وقامة مديدة.
الرجل الذي يحب أن يملك الحقيقة لوحده لأنه ترك مقاعد الدراسة مبكرا، ولم تطأ قدماه مدرسة أو معهدا آخر.. بقي كذلك بحقائقه المغلقة المغلوطة.. كانت حقائقه ـ تلك ـ مقصَّه الذي يفصل به ملابس المدينة.. مرة يفصل لها سروالا قصيرا، ومرة يتركها بدونه. قدرته على اشعال الحروب لا تضاهى، ولكنه للأسف أو لحسن الحظ ـ لست أدري ـ يستسلم سريعا لما يسمى "المساعي الحميدة"...
في المدينة التي يريد الرجل أن يحكمها ويوجه رأيها العام، يوجد مراسلون صحفيون معتمدون يشوهون الحقائق لأنهم لا يذكرون مناقب الرجل الذي يريد أن يكون أهم رجل في المدينة... لذلك أنشأ جريدته الخاصة، وشرع يكتب عن نفسه وعائلته وذويه...، ولأن جريده لا تباع بالشكل المطلوب، فإنه في الغالب يحمل نسخا عديدة تحت معطفه الرمادي... ويشرع في توزيعها على المارة.. تسبقه في الغالب ابتسامته الحامضة مثل عشاء بائت.. المارة الذين يعرفونه، وفي أحيان كثيرة يخافون تشهيره، والذين مازال فيهم شئ من حياء البداوة الجميل، يلقون جريدته عند أول منعطف، وفي أقرب صندوق للقمامة ليس نكاية بالجريدة ذاتها، وإنما نكاية بصاحبها..
في البداية عندما كان مراسلا معتمدا لدى جريدة أسبوعية، كان يصر على نسج مقالاته وتوزيعها كمناشير أو بلاغات حربية.. الكتاب والصحفيون الكبار يستحون دائما من الإشارة إلى كتابتاتهم، يستكينون إلى تواضع العلماء لأنهم يعرفون أن الكتابة نوع من اللعنة التي لا تجلب الجاه بقدر ما تجلب المتاعب. ولكن الرجل الذي يريد أن يحكم المدينة... وينقذها من براثن الفساد يقر أن الناس في المدينة لا يملكون القدرات التي تمكنهم من اختيار مقروءاتهم، لذلك آل الرجل على نفسه أن يزودهم بمقالاته النيرة ـ كما يحب أن يصفها ـ.... هم يعرفون مسبقا أنها مقالات لا امتداد لها.. ولادتها موتها حتى لكأنها تشبه رعشة جنسية خائبة..!!
2
للرجل أحزانه... أيضا.
مساء، عندما ينعزل في غرفته، تاركا العائلة كاملة تتابع حقائق التلفزيون، ويجلس إلى طاولته ولا يجد ما يكتب... لا مشكلة في المدينة ولا في الضواحي القريبة.. يشرب كأس ماء كامل دفعة واحدة، ويحاول إقناع نفسه بأن المدينة لم تستقم بعد.. وأن هناك خللا ما في مكان ما منها، وعليه شحذ همته وقلمه للبحث وتسويد مقال ناري.
لاشئ....!!
استقامت المدينة، طرقها صالحة وفي حالة جيدة، الأزقة نظيفة والناس سعداء.. التعليم والصحة وباقي الخدمات متوفرة... مصالح الناس تسير بشكل عادي..
على المراسل الآن أن يستقيل أو يتقاعد.. فلا حاجة للمدينة الآن بمراسل يغطي حروبها الصغيرة، السرية والعلنية... الحقائق كلها على السطح، ولا حاجة إلى مراسل غواص يبحث في أعماقها عن محار الحقائق...
ولكن الرجل لا يريد أن يستقيل،
زوجته ترى أن صفة المراسل هي رأسماله به يؤدي فاتورة الماء والكهرباء والهاتف وخروف العيد، ونفقات رمضان والدخول المدرسي، وابنه البكر يرى أن تقاعد الوالد يقلل من فرصه في الحصول على وظيفة محترمة حتى بدون كفاءات معروفة. أما ابنته العانس الطويلة مثل ساعة انتظار حرجة فكانت ترى أن استمرار أبيها يعني استمرار الحفاوة التي تلقاها في حمام الحي، حيث تتسارع النساء في حجز مكان لائق لها، وفي تزويدها بالماء الساخن.. مما يجنبها الزحام القيامي أمام صهريج الماء المغلى، والعائلة كانت ترى... والأصدقاء كانوا يرون... والأشقاء والأصدقاء والمقربون أيضا...
ولكن... كيف يستمر المراسل؟
لم تعد هناك حرب يغطيها، لم يعد هناك قصف في المدينة. الجنود ألقوا أسلحتهم وعادوا إلى ثكناتهم، والأحذية الغليظة والبنادق والذخيرة الحية وصفارات الإنذار والبلاغات أصبحت جزءا من الماضي.
الناس يعيشون في سلام، يحتسون فناجين قهوتهم في دعة ويقرأ ون صحفهم في هدوء وطمأنينة، والحياة تسير بشكل عادي رتيب مثل مياه نهر قديم... لم تعد الطبيعة قاسية كي يكتب عن ضياع المحاصيل والمنازل والدكاكين وتشرد العائلات وانهيار شبكة تصريف المياه العادمة وانقطاع التيار الكهربائي.... لذلك فالمراسل حزين للغاية، حتى أنه أهمل تشذيب شاربه الكث وأرسل لحية شعثاء. أفكاره العجوزة لم تعد واضحة وموقفه من العالم تذبذب بشكل غير مفهوم تماما.
لم يعد أحد يدفع ثمن قهوة الصباح في فندق العرفاء، ولم تعد السيارات الفارهة تقف له في ناصية الشارع، جف قلمه المر مثل زهرة دفلى.... بقيت أوراقه بيضاء قاحلة مثل صحراء في صيف قائظ... بقي يقينه هناك متروكا لرياح المذلة... لذلك فالمراسل حزين لأن الحرب انتهت، والأحذية الغليظة والبنادق والذخيرة الحية وصفارات الإنذار والبلاغات المكررة أصبحت مجرد ذكرى.... مجرد طنين خافت يصمّ الآذان.
(*) قاص من المغرب يقيم في بروكسيل.