الحسين بوخرطة - كنوز الحياة الشعبية قراءة في القصة القصيرة "لفحات أغسطس" لسيف بدوي

تطرقت هذه القصة الرائعة بكل المقاييس إلى موضوع شائك وحساس وواقعي. إنه إشكال علاقة التموقع الطبقى ومتعة المعيش في دول الجنوب عامة والعالم العربي خاصة ومنطق آليات الصعود إلى الأعلى التي لا تستوي في الأذهان. العديد من النخب والطاقات تشتغل وتستثمر بكل ما لديها من جهد في الفضاء المشروع الممكن، لكنها لا تتمكن من تحقيق الارتقاء الطبقي المستحق. في نفس الآن، تينع ثروات آخرين بسرعة فائقة ويندمجون في الرفاه السكني والترفيهي مجتمعين في الأحياء الراقية في المدن أو يختارون سكنا قرويا راقيا باللوازم الأمنية الضرورية. هناك من تجاوز بنجاح كل المستويات التعليمية الموجودة في بلاده وتوفق بامتياز في قمتها، لكنه يبقى ملتصقا متعايشا مع ناس الطبقة الشعبية. وهناك من ينخرط بدون أي انشغال أو قلق أو معاتبة للنفس في منظومات المجالات الحيوية في بلاده، فتترعرع ثروته ضامنا حمايته من ضجيج العامة.

أبرز لنا الكاتب بتوالي مجريات أحداث هذه القصة أن فضاء عيش القوات الشعبية يختزن ثروات متعة لا تقارن. فضاء جمال وبهاء ودفء ورغبات تتجدد على مدى الساعة. لقد تم خلق منظومات إدماجية في عالم الفساد لا يقاومها إلا الأبرار الراضين بالعيش جنبا إلى جنب وكيف ما كانت الظروف والمخاطر مع القوات الشعبية. إنه فضاء ممتع قد يخفي مغرياته الأخاذة وأسراره الماتعة ما يروج في شأنه من توصيفات توهم المطلع عليها أنه فضاء ينعق في سماه شبح موت غادر لا يؤتمن.

تلكم الوضعية التي يعيشها بطل قصة "لفحات أغسطس". المكان شقة في عمارة شعبية، والزمن شهر أغسطس الذي لا يحتمل بحرارته المشؤومة (السرير يبخ صهدا). البطل في وضعية منهكة، يتحمل حزنا مضنيا. هواجس تتحكم بغطرسة مستبدة على لحظات حياته. يغادر النوم جفونه ويصبح خفيفا وائدا أمله في تحقيق إشباع وجوده بقدر كاف من الراحة. إنه وحيد في شقته. تقطن في الشقة فوقه امرأة تتلذذ الدق على الهون النحاسي. اعتبر صادقا طنين الدقات على الهون أرحم مما يخالجه من ذكريات مؤلمة. تاه بين الدقات الطنانة والذكريات الحزينة إلى درجة عجز عن التمييز هل هو في لحظات نوم أم يقظة.

طمح الراوي تحليل معاناة ذكرياته، لكنه يرى التخلص من الطنين أولوية لا تترك له مجالا للتماهي أو الحياد. بوادر التعب بادية عليه. نزل من سريره وتشبثت يده بدرج التسريحة ونهض. بقواه المنهكة صعد السلالم مشرئبا فكرة التخلص النهائي من دقات الهون. عزم على تحقيق هدفه ولو اضطره ذلك لأن يُمسك بيده الثقيلة و يهبدها- ولو مرة واحدة - في رأس الست. اسمها امتياز وللاسم دلالة. إضافة لكونها امرأة، فهي فوقه وليست تحته. رآها فتجمد أمام باب شقتها المفتوح. كانت امتياز تجلس وسط الصالة شبه الفارغة في فضاء زادها بهاء وجاذبية. فراش بورود حمراء كبيرة وأوراق خضراء مفلطحة. يتوسط الفضاء منظرا مغريا أربك نفسية الرجل الوحيد المثقل بالهموم.

لم يرتقي اجتماعيا ولم يتمكن من الإقامة في حي ومسكن راقيين، لكنه وجد نفسه أمام صعقات ولع أحيت أوصاله تماما. لا يمكن له أن يعيش هذا الإحساس في مكان آخر مهما بلغ رقيه. لقد اختفى كرسي الحمام تحت امتياز اختفاءً مريباً. انتفض على واقعه المهموم وحملق بعينين واسعتين في جلوس لم يصادف مثيله أبدا. امتياز مُحْكِمَة على طرف جلابيتها ما بين سمانة ساقها وأول فخذها... ويدها ذات الأصابع المكتنزة المبرومة قابضة بعنفوان أنثوي على يد (الهون) الذي تهوي به فيرتج كل هذا الجسد تباعاً في ارتدادات تُسلِم بعضها إلى بعض ابتداءً من ساعدها فصدرها فبطنها فجذعها فساقيها .. لتستقر في نهاية المطاف إلى بلاط الصالة تحول طنين الدقات إلى موسيقى دافئة وكأن السارد جالس يستمتع بعرض لوحات فنية جذابة ومغرية. انتعشت كل أعضاء جسمه عندما رفعت رأسها و قابلته بابتسامة زادت وجهها ـ المتوقد ـ حُسناً. ارتعد من الداخل بمعنويات الفيلة عندما هَبَّت واقفة حين رأته. ازداد هيجانه الصامت وبلغ مستويات لا توصف عندما أسرعت نحوه بقدمين حافيتين. وهو لا محالة ابن الطبقة الوسطى الملم بسر وجودها، داعبته تراكمات خبرته واستعد لاستقبال فتنة خطو امرأة بقدم حافية.

وقفت امتياز أمامه بجسدها الذي ينز عرقاً تحت جلابيتها التي لم تعد صالحة لستر أي شيء. دخل عالما جديدا وتمنى ديمومته، ديمومة طنين دقات على الهون تليها دقات لهفة على باب شقته. استحضر القيم وحرمات البيوت، ثم طلب منها معتذراً "تلقيمة بن". زادت حركاتها الفنية روعة. خبطت بكفها على لحم صدرها ثم أشارت بسبابتها إلى عينها "من عيني .. حاضر". اشتعلت نار الولع في صدره ومنتصف جسمه عندما استدارت تخطو بقدميها الحافيتين خطوات متعجلة نحو المطبخ. لم يستحمل وغادر غالقا باب شقته لكونه شعر أنه لا يتحكم لوحده في المآل. تعمد ترك فراغ تواصلي آملا تحقيق المآل المرغوب.

عادت ولم تجده. عاد مسحورا تائها. نسى كل همومه لتشتد عليه وطأة هم واحد وجديد. عاد إلى سريره وجلس على طرف السرير بلا حركة منذ نزوله من شقة الست. غاص في سهاد عميق لا يخالجه إلا صورتها ومشيتها وعرق جسدها. تحولت حياته سعادة في لحظات. تمدد جسده على السرير. استسلم لكل شيء بلا قيد أو شرط، فغفا.

تذكر معشوقته وهي تهويه بورقة من الكرتون لتلطيف لفحات أغسطس. داهمته رائحة البن المعطرة من الدكان المجاور. عاش ذكريات مشابهة لقصة روميو وجولييت. معشوقته ليست هنا. ومنظر امتياز ولحظات تأمله بنعومةعارمة جعلاه في حيص بيص. إنه في وضعية لا تحتمل. مثانته ستنفجر خلال دقيقة أو دقيقتين .. نسى قضية المثانة وانجذب إلى طرقات لحوحة على الباب يبدو له من وقعها أنها لم تكن لأول مرة .. كانت الست امتياز تكررت في حياته عيشة الكرماء التي يعتبرها تجاوزت عيشة الأمراء متعة. أمامه عالم البهاء من جديد.

امتياز تسد ضلفة الباب المفتوحة وبيدها صينية من الألمونيوم، وقد استقر فوقها طبق تراصت به أصابع كفتة الجمبري المحمرة، وبجواره فنجان أبيض برسوم دقيقة لروميو و جوليت، وكنكة نحاسية يتصاعد منها بخار لطيف عَبِقَ برائحة بن ممتزجة برائحة جسدها أطنبت امتياز في دقاتها الطنانة على الهون النحاسي. تحولت الدقات من الهون إلى الباب، فأحدثت سنفونية موسيقية بهية استرجعا بها سويا معنى الحياة في أوساط الطبقات الشعبية.

النص الكامل للقصة :لفحات أغسطس للكاتب سيف بدوي

دماغه ثقيلة ثقل ذاك (الهون) النحاسي الذي لم تكف جارته عن الدق به فوق راسه حتى هرست مخه .. لم يكن مدركاً لحقيقة ما هو عليه ، أكان نوماً أم يقظة ! .. كل ما يدركه أنه حزين، وأن هذا (الهون ) الذي يهبد السقف فوقه .. أرحم من تلك الذكرىٰ التي تتسكع داخل روحه بخطواتها الثقيلة بلا توقف . كمن ضل طريقه في متاهة .

عليه إذن أن يتخلص من طرقات (الهون) في جمجمته أولاً .. ثم يفرغ لتلك الخطوات التائهة في مسارب روحه . أنزَلَ ساقيه عن السرير الذي يبخ صهداً .. باسطاً صفحة قدميه على البلاط الرحيم، ثم تشبثت يده بدُرج التسريحة الذي صار من الصعب إغلاقه منذ سنوات .. ونهض . لم يَدَعْ لنفسه فرصة لأي تفكير أو تدبر أمر .. فتح باب شقته، ثم تشبثت يده بعود الخشب الذي يكتسي به الدرابزين المعدني للدَّرَج .. وصعد لينهي أمر (الهون)، حتى لو اضطره ذلك لأن يُمسك بيده الثقيلة و يهبدها- ولو مرة واحدة - في رأس الست ( امتياز).

تجمد أمام باب شقتها المفتوح ، بينما كانت تجلس وسط الصالة شبه الفارغة، المفروشة بمشمع ذو وردات حمراء كبيرة وأوراق خضراء مفلطحة، وقد اختفى كرسي الحمام تحتها اختفاءً مريباً ..مُحْكِمَة على طرف جلابيتها ما بين سمانة ساقها و أول فخذها .. ويدها ذات الأصابع المكتنزة المبرومة قابضة بعنفوان أنثوي على يد (الهون) الذي تهوي به فيرتج كل هذا الجسد تباعاً في ارتدادات تُسلِم بعضها إلى بعض ابتداءً من ساعدها فصدرها فبطنها فجذعها فساقيها .. لتستقر في نهاية المطاف إلى بلاط الصالة.

رفعت رأسها و قابلته بابتسامة زادت وجهها ـ المتوقد ـ حُسناً ، وأفسدت ما انتواه وعزم عليه عزماً حين قرر الصعود إليها ! كانت قد هَبَّت واقفة حين رأته ، وأسرعت نحوه بقدمين حافيتين مستدقتين، أما هو – والذي خَبِرَ فتنة خطو امرأة بقدم حافية - كان قد أُسقط في يديه حين استقرت أمامه بجسدها الذي ينز عرقاً تحت جلابيتها التي لم تعد صالحة لستر أي شيء ! كان لا بد أن يقول شيئاً .. أي شيء .. وإلا فلم يجرح ستر بيوت الناس في نهارٍ حارٍ كهذا .. تلجلج قليلا .. ثم طلب منها معتذراً (تلقيمة بن )، فخبطت بكفها على لحم صدرها ثم أشارت بسبابتها إلى عينها ( من عيني .. حاضر) كان يتفادى النظر إليها بعد أن استدارت تخطو بقدميها الحافيتين خطوات متعجلة نحو المطبخ ، لكنه نظر .. ورأي .. حتى اختفت .. ولم يبق سوى هو و ( الهون ) الذي يستقر في منتصف الصالة صامتاً ثقيلاً.

حين عادت لم تجده، فَخَطَت على البسطة ونزلت درجتين ونظرت من بين قضبان الدرابزين الحديدية لتجد بابه مغلقاً. كانت ساعة العصر قد انقضت .. وهو يجلس على طرف السرير بلا حركة منذ نزوله من شقة الست ( امتياز) ، تطارده صورتها و مشيتها وعرق جسدها، ثم مدد جسده على السرير .. مستسلماً لكل شيء بلا قيد أو شرط، حتى غفا . ربما لم تكن سوى غفوة استغرقت دقائق معدودة .. أفاق منها على رائحة البن التي تتماوج من دكان "ابراهيم الجمل" تخترم جمجمته ونخاشيشه ممتزجة برائحة العطارة المعتقة المنبعثة من تلك الدكاكين الصغيرة كعلب الكبريت بسوق العطارين

كان حزيناً .. وحيداً ..و جائعاً .. انفردت به ذكريات تلك الأيام حين كان يتململ من نومة العصاري فيجدها جالسة بجواره وبيدها ورقة من الكرتون ( تُهَوِّي ) على جسده المدد وقد لوحته لفحات اغسطس .. ثم تبتسم له واضعة يدها تحت ظهره فيعتدل، فتناوله كسرة الخبز الناشف، المبلول بالماء، وقد (حَنَّته) بطبقة رقيقة من الجبن الأبيض المالح، وعلى صينية المونيوم يقف منتصباً كوب الماء البارد، وبجواره قهوته المرة في الفنجان الأبيض برسمة دقيقة لروميو وجوليت.

يدرك أنها ليست هنا، وان مثانته ستنفجر خلال دقيقة أو دقيقتين .. وأن عليه النهوض وحيداً بلا يدها .. والمرور عبر تلك الصالة الساكنة ، شبه المظلمة، نحو الحمام .. ليفك حسرته ، لكنه لم يفعل ، ولم يحركه إلا طرقات لحوحة على الباب يبدو له من وقعها أنها لم تكن لأول مرة .. كانت الست ( امتياز ) تسد ضلفة الباب المفتوحة وبيدها صينية من الألمونيوم ، وقد استقر فوقها طبق تراصت به أصابع كفتة الجمبري المحمرة ، وبجواره فنجان أبيض برسوم دقيقة لروميو و جوليت ، و كنكة نحاسية يتصاعد منها بخار لطيف عَبِقَ برائحة بن ممتزجة برائحة جسدها .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى