عبد علي حسن - تحولات المكان الثالث

لا شك بأن انتاج المفاهيم والمقولات يخضع لجملة من العلائق والتصورات عن المسميات التي يولّدها المخيال الفردي والجمعي ، فتصبح شائعة ملكاً للجميع حتىٰ في تلك التجارب الشخصية التي ستظهر بوصفها خبرات إنسانية تمتلك وصفاً شمولياً يشكّله المنظومة القيمية الخاصة فتحوز على المقبولية والمواضعة ، فتصبح تلك التجارب ذات منفعة ومنتجة لمعرفة إنسانية شاملة ، وفي هكذا توصيف تحرص النصوص الكبيرة علىٰ استثمار الجمالي / الفني الذي تختصُّ به خبرة إنتاج النصوص عبر الأسلوب والطريقة صوب إنتاج المعرفة وهو المقصود والمركزي في جدوىٰ إنتاج النصوص الأدبية ، ولو تقصّينا ظاهرة المكان بعدّها ركناً مهماً في إنتاج النصوص السردية ، الروائية منها والقصصية ، لوجدنا قيمة المكان الذي يُعدّ الفضاء الذي تتحرك وتوجد فيه الشخصيات وتكشف عن علائقها المنظورة وغير المنظورة بالمكان الذي يكتسب صفةً تتجاوز الوصف الفيزيقي المحسوس الىٰ ظاهرة فينومولوجية تتضمن الكثير من المنظومات القيمية التي تنتجها علاقات الشخصيات به ، فقد تمكنت النصوص السردية عن وجود مكانين ، الأول هو العائلة/ البيت ، والثاني هو مكان العمل ، ويمتاز هذين المكانين بالثبات النسبي ، إلّا أن هنالك مكاناً ثالثاً صاغه عالم الاجتماع الأمريكي (راي اولتنبرغ) تولد 1932 في كتابه ( The Great Good Place /1989، وهو الشارع / المقهى / الحانات / النوادي / الأسواق / صالونات الحلاقة / المكتبات العامة/ المتنزهات/ التجمعات الثقافية وسواها من الأماكن التي توصف بأنها أماكن عامة والتي اهتمّ بها اولدنبورغ بعدّها مكانا يجد فيه الفرد حرية في ممارسة نشاطه المعرفي ، وتمتاز بالتحول والمتغير والحيادية ، وكلٌ من هذه الأمكنة الثلاثة تنتج قيماً ثابتاً ومستقرة وأخرى متغيرة تبعاً لتغير الأمكنة ، ففي الوقت الذي يخضع فيه الفرد لسلطة العائلة / الأب/ الأخ الأكبر في المكان الأول / المنزل ، فإنه يخضع لسلطة رئيس العمل في المكان الثاني ، في حين تنهار السلطة في المكان الثالث وهو ما أشرنا إليه في حيادية هذا المكان الذي تغلب فيه صفة التحدث وتبادل الخبرات والطرائف والمرح والمعارف ، لذلك فإن الفرد يميلُ إلى التواجد في هذا المكان الذي يجسد حريته واستقلالية أفكاره وتوفر إمكانية التبادل في الخبرات والأفكار والمعارف بشتىٰ صورها مع بقية أفراد الحيز الذي يضمّ مجموعة الأفراد الذين اختاروا هذا المكان أو ذاك لتخليق نوع من العلاقة اجتماعية كانت أو ثقافية أو سياسية وحتى عاطفية ، وإذا كان هذا الوضع الذي أشار إليه لوتنبرغ قبل التحولات الكبيرة والثورية في وسائل الاتصال الحديثة ، فإن تحوّلاً في الطبيعة الموضوعية لهذا المكان الثالث قد حصل باختيار الأفراد والانخراط في تواصل الكتروني حاز على صفته السابقة وهي الاجتماعية والثقافية والسياسية والعافية ، اذتشكلت مجموعات تواصلية وجد الفرد فيها حرية في الانتساب لهذه المجموعة أو تلك وفقاً لرغباته واهتماماته ، وعليه فقد تحوّل هذا المكان من المنظور والمحسوس والمعيش إلى مكان الكتروني / افتراضي ينتج ذات القيم التي ينتجها المكان الثالث في الواقع الموضوعي فضلاً عن الاتساع في شموليته التي تتجاوز الحدود الجغرافية والإجتماعية ، كما أن الحرية في مغادرة هذا المكان الذي شكّلته المجموعات أو البقاء فيها أمر متحقق ولايعود إلى سلطة أحد غير سلطة الفرد ذاته ، وهو مالم يحصل في المكانين الأول والثاني ، علىٰ أن وجود هذا البديل الافتراضي للمكان الثالث لم يلغِ العلاقات التي يكونها هذا المكان على صعيد الواقع الموضوعي المتحقق ، إلّا أن ماحققه المكان الثالث الافتراضي هو سهولة واتساع الانتماء للمجموعات ذات الاختصاص الواحد الذي وفّره الاتصال الافتراضي الذي شهد ويشهد اتساعاً في شمولية المعارف والخبرات التي يكتسبها الفرد , وتتبدىٰ أهمية وتأثير التواصل عبر المكان الافتراضي في مايحصل في زمن الأوبئة الفتّاكة التي تستدعي تجنب التواجد في التجمعات والأمكنة العامة خشية التعرض للإصابة بالوباء ، وهو مايحصل الٱن إذ تشهد كلُّ المجتمعات تفشياً خطراً لجائحة كورونا منذ سنة أو أكثر ، الأمر الذي أصبحت فيه العزلة دريئةً لتجنب الإصابة بالفيروس ، ولم يعد المكان الثالث الموضوعي متحققاً ، بل من الممكن القول إن هذا المكان قد انهار بفعل الحرص على تجنب كل شكل من أشكال الاتصال الاجتماعي خارج المكانين الأول والثاني ، بل وتعدىٰ الأمر إلى محدودية أو غياب المكان الثاني / العمل /المدرسة/ الجامعات وسواها من أمكنة العمل ، وفي هكذا ظروف فإن المكان الأول/ البيت سيحقق تفاعلاً جديدا بين أفراد الأسرة الواحدة الذين شهدوا
تشكل الذاكرة الأولىٰ إذ يقضي الفرد شطراً كبيراً من حياته فيه ، وماينتج من منظومات أخلاقية ومعرفية وفكرية في هذا المكان يصبح المدلول الظاهراتي لدالة البيت ، إذ أن أكثر البيوت حائزة علىٰ مواصفات مشتركة من حيث مكوناتها البنائية والبيئية ، إلّا أن اختلاف المنظومات القيمية يتبع الاختلاف في طبيعة العلاقات المتكونة بين أفراد الأسرة الواحدة ، تلك العلاقات التي تحتضنها وتتشكّل في فضاءها الفيزيقي مكونات البيت ، وكذلك الفضاء المكاني الذي يحققه المكان الثاني / العمل الذي شهد انهيارات في ظروف تفشي الوباء وتوقف المصالح الاقتصادية في الكثير من مفاصل العمل , وبذا فقد حصل تحولٌ جديد في المكان الثالث الذي أناب عنه انابةً كاملة المكان الثالث الالكتروني/ الإفتراضي ، الذي يملأ الفراغ الذي خلقته ظروف جائحة كورونا ، وصار هو البديل الافتراضي لهذا المكان ، وذلك لإنعدام إمكانية تحقيق التواجد الجمعي على أرض الواقع ، ولعل إقامة المنصات الثقافية والمحاضرات الافتراضية من وسائل الاتصال في هذا المكان الافتراضي ، كما اتجهت الرواية مثلاً إلى الدخول هذا المكان الافتراضي الجديد لأن المكان واحدا من أركان السرد المهمة ، سواء على المستوىٖ العالمي أو العربي أو العراقي ، وقد تمثل ذلك في مجموعة من الروايات التي عالجت فيه طبيعة العلاقة التواصلية الجديدة بين الفرد والمجموعات ذات الاهتمام المشترك .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى