حسن إمامي - ساحة الهديم..

مشاهد جمالية، تجمعات بشرية. ساحة الهديم، فضاء الغنى الثقافي والتنوع الفني وألحان الحركة الإنسانية. سياح أجانب وشغف بالحلول تحت سماء الساحة. عشق سفر واحتراق الزمن التاريخي. دخول في قرون ماضية. أسوار إسماعيلية تخلد الذكرى والحدث والحياة المغربية الغابرة، وتسجل لقب التاريخ كما سجلته الظاهرة الفرعونية.
يذهب الجبابرة وتبقى الحياة للبسطاء بدون مذاق. في السماء، بعد العصر الذي لم يأت بعد، فنحن لا زلنا في الصباح، حلقات احتفالية، دوائر جاذبية، كلٌ له لحن وأغنية. هؤلاء ورثة ناس الغيوان وجيلالة، وكل المغاربة سجلوا الانتماء لجيل الغيوان. كيف لا وحال المجذوب في الكلام، يهذي بما جاد به اللسان، ينطق حكمة بقافية، ويدق طبلة وبنديرا وصينية. رنين الكؤوس التي يراد لها أن تكون سواسية. لكن يبدو أن حال الزمن أراد لها أن تبقى متفاوتة. بعضها مملوء يفيض على جنباته، غارق في نعمه، وبعضها أنصاف أنصاف، أو شبه خاوية... ليست "الكبة" بعادلة. ليست كلها بدرجة طعم الحلاوة. فبعضها مُرة. هذه هي الصينية، مجتمع بفرزية. ولكن، لابأس، نجتمع حول الصينية. على الأقل كؤوس شاي سواسية. وهذا أضعف الإيمان هدية، وكرم الضيافة المغربية. الهموم الغيوانية تتوزع بين النفوس طلبا في كل أغنية. فكل له قضية: مهمومة،
أهل الحال،
شمعة جيلالة،
الصينية
...
ثلاثة شيوخ مسنين وامراة عجوز. من المتقادم؟ العمر الذي ولى أم مآسي المعيش الذي فرغ هموم قرون في رحلة حياة فرد في عقود؟ حال اللباس والتجاعيد والأسنان التي قاومت عوامل التعرية فلم يبق منها إلا ناب، حوادث مأساوية تركت الجرح بصمة على الخد أو العين أو الأنف أو الجسد... إذا كان أولئك جيل الغيوان، فهؤلاء جيلالة وكناوة وهداوة... ولفظ الحال دلالة... أصبح الفن خيط سراب، يتعلق بأمله هؤلاء المساكين. يوم جديد نبحث عن لقمة عيش لغد بعيد. أمسية تسول وتوسل، مرفوقة بخبط بندير وإيقاع يخترق عوالم الإنس والجن، الحاضر والماضي، يسجل لمسات وقافية، ناي عجيب أفضل في سماعه من المصباح السحري. يجعلك تتذكر أصحاب الحال. والحال من الحال. هناك أصحاب الحال الذين تجذبهم الجذبة ويرقصون حضرة. وهناك أصحاب الحال الذين يأتون خفية. وإياك أن تكون قد خالفت عنوة...
ماذا عن بائعي الأعشاب والبخور وبيض النعام؟ أي سجل يجتره هذا السوسي أو الصحراوي بلباسه الأزرق والأسود؟ كيف اصطاد السنجاب وحنطه؟ وكيف له الحنش لبى واستجاب؟ نقطة الحضور وعرض البضاعة بكلام مسحور. إغراء العليل في الصحة والعاجز عن معاشرة المرأة ومقاومة البرد العدو الذي رغم الاستعداد لمواجهته يتغلب على بعضنا مثل المتورط سباحة في مواجهة ملوحة وبرودة ماء محيط...
كل له زبائنه. وأنت قد تنتقل من حلقة إلى أخرى باحثا عن فرجة، ترحل معك فكرة أو نغمة. تسجل انغراسها في الذاكرة وتسافر معك إلى أي قطر أنت أتيت منه راجعا له. ساحة الهديم ذاكرة جماعية إنسانية بالعبارة والصورة واللحن، ترسم حضارة وتنشر ثقافة. أقترح أن تجعل لها قناة بكاميرات في بث مباشر عبر الفضائيات والأقمار الاصطناعية.
ساحة الهديم، محور تستسلم فيه الحداثة في اعتراف بعبق التاريخ وجمال الحضارة. تودع فيها الحذاء الإيطالي الصنع، وتتبنى ارتداء الجلباب أو الدراعية مع بلغة أو شربيل أو قبقاب، ونقش حناء، وبخور ند أو شبة وحرمل، تسترخي لكل دخان فتنشرح الأذهان ويذهب ضغط الزمان. هو محور الأصالة المتزاوجة مع المعاصرة، دونما حاجة إلى أغلفة سياسية.
هناك بساطة زئبقية مفقودة بين فضاءات ساحة الهديم، بأسوارها وأقواسها ودروبها المؤدية منها وإليها. كلنا نبحث عن هذه البساطة في لعبة كبرى. كلنا يأخذ حظه منها ليحمله معه كمتاع، يحل بحلة لغات البشرية... لباس البساطة إكسير سعادة مطلوبة في كل حين. ويستمر الحكي عن ساحة الهديم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى