أحمد عبدالله إسماعيل - جزاء سنمار

في السابعة صباحًا تبدأ رحلة البحث عن عمل، نعم، تقول لى :
إنني كنت أعمل في وظيفة يحلم بها كل شاب فأقول لك إنني الآن بلا عمل، ولم أفقد الوظيفة فحسب بل فقدت كل شيء، لم أقصر لحظة إلى أن تعرفت إلى أحد الكبار مصادفة قبل أربع سنوات، كما أن هذا الرجل قربني منه حتى أحببته، فما هي المشكلة إذن ؟
في مكتبه، يجلسون ويتهامسون، ثم أدخل أنا مرتدياً البدلة الأنيقة، وتحت إبطي الجريدة التي طلبها، وفي يدي فطوره فيصمتون، ويأبى الكلام أن يخرج.
يمر الوقت ببطء شديد، نفوس تتبدل، وجوه ساحرة في كامل زينتها، ووجوه كالحة، وتستمر الدوامة، تستمر كاليوم السابق حتى المساء، فأنا كما ترى يا أسطى (حمدي) إنسان فاضي وفاشل؛ فلا أملك سوى الوقت كي أتساءل عن أسباب خسارة وظيفتي، وحين ينصرف آخر صاحب خدمة من غرفته هذه، أكون قد تحولت إلى خرقة بالية؛ أعددت المئات من أكواب الشاي، وقتلني الانتظار فيتلاعب بي معتذرًا:
ولا حتى دقيقة واحدة بعدما أنهكني الجميع!
أرمق وجهه الأسود، وعينه المفعمة بالمراوغة، ونبرات صوته المغلفة بالخداع، وأتركه رافضًا تصديق ظنون أمي التي أعود إليها لأجدها عاكفة على إعداد العشاء، تتردد من الباب إلى الشباك تتصفح وجوه المارة بحثًا عني!
تقول لي وهي تضع الطعام أمامي :
- «أنت بحاجة إلى أن تعود لوظيفتك، كلما كان سريعًا كلما كان أفضل، هذا الرجل المستغل لا يشغله ما تكنه له، هو ملء السمع والبصر بما يتنعم به من مال وسلطان لكنك أنت الخاسر الوحيد».
فأقول وأنا أترك اللقمة من يدي محتجًّا :
«ماذا سيفعل أكثر مما فعل؟ قابل صاحب العمل وقد كنت بصحبته، كوني مطمئنة؛ سأعود قريبًا».
-«أخاف أن أموت قبل أن يفي بوعده».
-«لم يطلب مني سوى الانتظار، وعلى كل حال أنا لا أترك فرصة إلا وطرقت بابها؛ إنني لا أحب ما أصبحت فيه كثيراً».
تقول وهي تصب الماء في الكوب :
- «أنا بحاجة إلى ابني، وإلى وظيفته التي ضاعت بسبب هذا الطاغية، لقد فعلت كل شيء من أجله بينما هو لم يحرك ساكنًا لمساعدتك».
-«أنتِ بحاجة إلى أن تحبي هذا الرجل».
تثور في وجهي، وتدير ظهرها لي، وهي حيلة لا بأس بها تمارسها معي كثيراً: التظاهر بأنها مستاءة مني؛ فأنا لا أقوى على رؤيتها حزينة، وهي تعلم ذلك؛ لذا أتجنب التلميح إلى أي موضوع يضايقها، وتجدها وسيلة فعالة في أي مشاجرة، تعلن لي أن مشكلتها هي الحاجة إلى رؤيتي سعيدًا مستقرًا مع زوجة وولد، من ثم أغير الموضوع فوراً وأكف عن جدالها.
لقد طلبت مني الابتعاد عن هذا الورم السرطاني مراراً لكن قلبي لا يطاوعني، وبحب غير مفتعل يأبى ذلك، وهي تمقت أن يقترب أحد شبرًا ممن لا يبادله الحب الصادق بحب أخلص؛ لهذا لم تسعدها محبتي له، بل وينقبض قلبها كلما سمعتني أنطق اسمه.
إنها لا تحب أن أُلقي بنفسي في أحضان من يمسك بيده خنجر يطعنني بينما يبدو أمام الجميع يفتح لي ذراعيه، وهذا الرجل خائن، خائن من طراز خاص لا يمكن أن يجود الزمن بمثله!
وفي ساعة متأخرة من الليل، أمسك بالمسدس المائي الذي اشتريته هدية عيد ميلاد لأقدمها لحفيده، الذي أشعر معه أني أمتلك الدنيا بحذافيرها، أنفاس متقطعة تخرج من صدري المضطرب، العرق يتصبب من منبت شعري حتى أصابع قدمي، جفاف الريق يُشعرني بالاختناق، سبابتي تتحرك بطريقة لاإرادية صعودًا وهبوطًا على الزناد!
ألقيت المسدس، الذي لم أعد أقوى على حمله -رغم خفته- من يدي وأنا أخاطبها:
"ماذا دهاكِ أيُّتها اليد؟! وددت لو قطعتك؛ أليس هو من حطم مستقبلي ؟!!!"
صرفت بصري عن صورة ذلك الطاغية المعلقة على جدار قلبي، وأطفأت الضوء الكهربائي على أمل أن أخلد إلى الراحة تلك الليلة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى