سعد عبد الرحمن - عن التزمت والمتزمتين

عندما أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة كتاب "ألف ليلة وليلة" في مجلدين أوائل عام 2010 وكان رئيس الهيئة آنذاك الدكتور أحمد مجاهد بينما كنت أنا رئيس الإدارة المركزية للشؤون الثقافية وأمين عام النشر بالهيئة أي المسؤول الأول عنه، كما كان الكاتب الراحل جمال الغيطاني رئيس تحرير سلسلة "الذخائر" التي صدر الكتاب من خلالها تقدم مجموعة من المحامين السلفيين يحملون اسم "محامون بلا قيود" ببلاغ إلى النائب العام يتهمون فيه الهيئة والمسؤولين عن النشر فيها بإصدار كتاب يروج للإباحية والفسق والفجور وتزخر صفحاته بالألفاظ الخادشة للحياء وطالبوا بمنع تداوله والتحقيق مع المسؤولين عن إصداره وكأن هذه أول مرة ينشر فيها كتاب "ألف ليلة وليلة"، وفي سياق اعتبار ما حدث أزمة أو بتعبير أدق مشكلة يمكن أن تتحول إلى أزمة احتشدنا في الهيئة نفسيا وقانونيا وإداريا ورحنا نتأهب لمواجهة أسئلة من المؤكد أنها ستطرح علينا من جهات شتى بخصوص الكتاب ولا أكتمكم أننا جميعا كنا قلقين فقد عصفت أزمة مماثلة عام 2002 (أزمة الروايات الثلاث) برئيس الهيئة آنذاك أ. علي أبو شادي - رحمة الله عليه - وأضير فيها أيضا عدد من الزملاء العاملين بالنشر في الهيئة منهم الصديقان: الشاعر محمد كشيك - رحمة الله عليه - والناقد المسرحي أحمد أبو العلا وغيرهم فقد استبعدوا من إدارتهم، وفي أثناء بحثي عن أسانيد تراثية لتعزيز موقف الهيئة من نشر الكتاب على وجه الخصوص والدفاع عن مبدأ حرية الكتابة والإبداع بشكل عام مرت بذاكرتي أمشاج فقرة كنت قد حفظتها ثم نسيتها إبان قراءاتي التراثية الأولى في المرحلة الثانوية تصلح للاعتماد عليها في محاججة المحامين المذكورين (فالسلفيون لا يؤثر فيهم ولا يقنعهم إلا كلام السلف) فأخذت أعيد قراءة مقدمات بعض أمهات كتب الأدب ومصادره الموجودة بمكتبتي والتي رجحت أن إحداها (أي المقدمات) تتضمن تلك الفقرة المنشودة مثل "البيان والتبيين" للجاحظ و"الكامل" للمبرد و"الأغاني" للأصفهاني و"الأمالي" لأبي علي القالي و"العقد الفريد" لابن عبد ربه و"ثمرات الأوراق" لابن حجة الحموي و"أدب الكاتب" و"عيون الأخبار" لابن قتيبة و"المستطرف من كل فن مستظرف" للأبشيهي و"الكشكول" لبهاء الدين العاملي و"الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيان التوحيدي و"أدب الدنيا والدين" لأبي الحسن البصري وغيرها حتى عثرت عليها في مقدمة كتاب "عيون الأخبار"، يقول أبو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري - رحمة الله عليه - مخاطبا في هذه الفقرة العبقرية قراء كتابه من المتزمتين:

(وسينتهي بك كتابنا هذا إلى باب المزاح والفكاهة وماروي عن الأئمة والأشراف فيهما، فإذا مر بك أيها المتزمت حديث تستخفه أو تستحسنه أو تعجب منه أو تضحك له فاعرف المذهب فيه وما أردنا، واعلم أنك إن كنت مستغنيا عنه بتنسكك فإن غيرك ممن يترخص فيما تشددت فيه محتاج إليه، و إن الكتاب لم يعمل لك دون غيرك فيهيأ على ظاهر محبتك، ولو وقع فيه توقي المتزمتين لذهب شطر بهائه وشطر مائه و لأعرض عنه من أحببنا أن يقبل إليه معك. وإنما مثل هذا الكتاب مثل المائدة تختلف فيها مذاقات الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين، وإذا مر بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو فرج أو وصف فاحشة فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع على أن تصعر خدك وتعرض بوجهك فإن أسماء الأعضاء لا تؤثم وإنما المأثم في شتم الأعراض وقول الزور والكذب وأكل لحوم الناس بالغيب).
كتب هذا الكلام ابن قتيبة ( ت تقريبا 276 هـ ) في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري ومازال التزمت ميراثا قبيحا لدى البعض نصيب كبير منه حتى اليوم، وقانا الله شر التزمت والمتزمتين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى