د. سيد شعبان - طعم الكتابة

قد يبدو العنوان مختلفا بعض الشيء وهذا ما أردت الحديث عنه؛ في عالمنا ما يدعو للحياة؛ يقهرنا الواقع ويخيم علينا اليأس؛ تتحطم أحلامنا تحت قيود الجهل والفقر والسوط، يتفشى المرض ويتعالن القبح؛ نجري ونلهث لكننا نفقد البوصلة؛ إنه شتات يتسع بحجم الوطن ومن ثم نلعق جراحنا، في ألفية جديدة تقتلنا نفس الأدواء ويطاردنا بنو جلدتنا فتهرب الآمال التي تعلقنا بها في عالم نختلف عنه، لذا كانت اللغة الحصن الأخير الذي نحتمي به، نسرد حكايات وندون تاريخا أهمله من عاشوا في بلاد العرب.
أجدني أبتعد عن المكرر والمألوف من حياتي، أعدو وراء ما يثير الحكي وينير العتمة، فالغيلان تملأ الحارة وتبحث عن فريسة ولا أملك إلا ذلك القلم أطاردها به، تتجمع من نتف واقعنا وفسيفسائه أخلاط للسرد، عرق السائرين في الدروب والمنفيين في جلودهم، يقف النهر حائرا والليل يظلم من يا ترى يرصد النجم؟
يعجبني أدب الواقعية السحرية سيما كتابات جارثيا ماركيز، أتتبع سرده وأجتهد أن أرى متاهة الجنرال كما يحلو لي قلم نجيب محفوظ وبلاغة حكيه؛ أنا عاشق القمر الذي رأه الحالمون ولما يظفروا بلقاء من يحبون، فالآمال تغدو ثياب العيد المنتظر، تهزني القصيدة المتلهفة على عيون الحبيبية وتترصدني أبياتها.
في بلادنا ما يستحق الحياة؛ نهرها ومساجدها ونساؤها وحاراتها وحكاياتها التي يناغم بها العاشقون؛ مقامات الأولياء وعبق آل البيت!
من بقايا العطر ننتشي ومن دروب العتمة تضاء لنا الشموع، لعلي أحد الذين كتبوا الحرف بحرقة اللهيب، جنبت الأشواك عن طريقي حتى أجد لقلمي موضعا؛ كثيرون رأوني ساحرا وتلك جناية الفن وما يتلبس به متعاطوه من حروف؟
حكاية وراء أخرى وحرف من بعد حرف وما أزال أسرج مصباحي، فمن قصاصات الرواة ومما اختزنته من الأجداد ومن غبار الطريق وخيبة الحلم أسرد قصة أو أغمز قلمي في عقلي فآتي بنقد.
لست مدرسيا أقبع وراء النصوص أقومها ولا أنا جراح أمسك بالمشرط فأتعالى على النص.
لكنني محب لفنه متيم بحرفه؛ حتى إذا ما جاء القادمون من بعيد رأوا في مسيرة الحياة من لونوا لوحاتهم بتلك الألوان، لن تكون براقة كما أظن؛ لكنها وبكل تأكيد ستكون صادقة امتلكت الخيال وزاوجت به واقعا مرا.
اللاهثون وراء الأضواء يصابون بالعمى وإن تراقصت حولهم عرائس الشمع، حين طالعت أدب الرائع الطيب صالح وجدت طعما للكتابة يختلف ومردة يتراقصون فوق صفحة النهر، طعامي احتوى من يومها وجبة من ماركيز ومنيف ونزار والكوني والبردوني وطه حسين والرافعي وشاكر والمتنبي وشوقي.
طعوم شتى وسرد يزاوج، مايزال في ديوان الكتابة سطرا لم يدون وقصيدة لم تغن وقلما يبحث عن صفحة بيضاء.
الكتابة مرآة عصرها؛ فحديث الجاحظ عن الشطار والعيارين ووصفه لأحوالهم وكتابات الرحالة والفقهاء والأدباء؛ صور لما رأوا؛ وهل كان المتنبي إلا رصدا لطموح نفسه وترفعها وتطلعها للمجد الذي انساق وراءه، هكذا صاحبت اللغة الرحالة والمعجميين والفلاسفة والمؤرخين؛ والآن تنظرها عند العقاد والمازني ونجيب محفوظ وفاروق شوشة فتخال البون يتسع والمربد أعجمي الوجهة، هل أجدني كل هؤلاء أم أباينهم بما أنطوي عليه من أسى؟
ربما كنت هذا أو غيره لكنني ساحر يحلو له أن يسخر من واقعه فيرصده، ويذره وقد اعتاد الخمول وسكن إلى العجز.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى