عزيز تبسي - إقبال على ناظم حكمت.. قصة قصيرة

-1-

في الطريق إليه، نعبر بأناة على الجد محمد ناظم باشا، الذي عين والياً على ولاية حلب، بين عامي 1905-1908، الرجل الذي عُرف بنزعته الصوفية، وكتابة الشعر بالتركية والفارسية، وعلى نجله حكمت ناظم بك، الذي عمل في عام 1908، على إصدار صحيفة "صدى الشهباء" باللغتين العربية والتركية، الصحيفة التي أتت كإحدى ثمار إعادة العمل بالدستور، وإطلاق حرية الصحافة بعد ثورة "الاتحاد والترقي" 1908، وقد وقع اختياره على مؤرخ حلب الشيخ كامل الغزي، ليتولى رئاسة تحريرها. نعبر قرب الأم المثقفة، المتقنة للفرنسية والرسم والعزف على البيانو، المنحدرة من هجرات ومزيج من أعراق بولونية وألمانية، التي وجدت أسرتها في أرض الدولة العثمانية، أفقاً لطموحاتها وأحلامها.

لا بدّ من الثناء على الإمبراطوريات التي تبقي لشعوبها، أي الشعوب التي تستعبدها، بعد سلبهم كل حقوقهم، حقاً واحداً: حرية التخيُل. يمنحهم متعة التجول على الورق، بين الأندلس وسمرقند، كما التسلل المذعور إلى قصورها وحدائقها، وتناول الأطعمة على موائدها، والتغني، بعد تجرع كؤوس الخمر، بأمجاد السادة.

عناصر عديدة هاجعة في التكوين العميق لشاعر تركيا والعالم، يبقى معها التاريخ الثقيل للإمبراطورية العثمانية الذي تهاوى بهزيمتها المدوية في الحرب العالمية الأولى، بالتزامن مع تهاوي الإمبراطوريتين الملاصقتين لها، الروسية والنمساوية - الهنغارية. أتت هزيمتها كخاتمة لهزائم عسكرية، وفشل في اختبارات إصلاحية متراكمة. بدأت قبل أكثر من قرن، وتبدى عجز الجماعة الحاكمة عن تلافيها.

اقتسمت ولاياتها العربية في شمال أفريقيا أواسط القرن التاسع عشر، وهبّت حركات تحرر شعوب البلقان واليونان، خرجت مصر والسودان من تابعيتها، عجزت أحجار كلس الإمبراطوريات، الصمود أمام أحماض الاستحقاقات التاريخية.

اختتمها خيار قادة حزب "الاتحاد والترقي" بالانضمام للحليف الألماني - النمساوي في الحرب العالمية الأولى. إذ بينت الوقائع أن الانتصار على شعوب عُزّل كالأرمن والسريان، ليس بسهولة الانتصار على جيوش الحلفاء المتطورة والمسلحة حتى أفكاكها.

كافح الضباط الشباب مع من تبقى سالماً من الجيش العثماني، تقدموا نحو تحالفات جديدة، مع أعداء سنوات الحرب للحفاظ على ما بقي سالماً من الإمبراطورية، جنباً إلى جنب مع دفع المجتمع والدولة إلى النسق التحديثي، الذي سيلفظ معه الماضي السياسي الملفوظ تاريخياً، ويستولد الجمهورية التركية، من رحم صراعات دموية سياسية - عسكرية ارتبطت بقواها المحلية وحزمة من المساومات والتسويات الدولية، عملت على الجمع بين النقائض السياسية، من الإمبرياليتين البريطانية والفرنسية، إلى اليسار البلشفي، المسكون بفائض الآمال والرهانات، التي عقدها قادة الثورة الروسية، على كفاح الشعوب المضطهدة لانتزاع تحررها وحريتها: يقظة شعوب آسيا.

قاتل الضباط الأتراك الشبان بضراوة وبسالة، لتثبيت ما يمكن انتزاعه من قلب الصراعات العالمية الدامية، وتشييد وطن غُمس رغماً عنه، بماء الذكريات التاريخية، والحسرات على تحرر العبيد وفرار الخدم، بعدما تبين لهم أن حجز مكان في عربات التاريخ المسرعة، ليس بسهولة حجز مقعد في حافلة ركاب.


-2-

قبل مصطفى كمال ورفيقه عصمت إينونو وعموم المجموعة العسكرية، الدعم البلشفي اللامحدود، بالذهب والسلاح والذخيرة والمواقف السياسية، ولم يقبلوا أي تحالف أو مهادنة أو تسوية مع الشيوعيين الأتراك. أتقنوا فنون المناورة من خلفيتهم العسكرية، والمكر من تجارب التاريخ وأروقة القصور العثمانية، مدوا يدهم اليمنى إلى الإمبرياليتين البريطانية والفرنسية المنتصرتين في الحرب العالمية الأولى، واليسرى إلى الاندفاعة العاصفة للثوار البلاشفة. ليقووا فرصتهم، ويشدوا عزيمتهم بآمال الحفاظ على البلاد والدولة والجيش. في هذه الشروط التاريخية المصيرية شبّ ناظم حكمت، الذي كان أحد العسكريين على متن الزورق الحربي "الأحمدية"، قبل أن يغادره إلى غير رجعة، ويلتحق بالخيار البازغ مع إشراقة البلاشفة.

شقت الجمهورية التركية، كتعبير سياسي عن البورجوازية التركية الجديدة، مسارها بعِداءَين الأول مع الرجعية الإسلامية المتبقية من الميراث العثماني، الذي سرعان ما جرى تداركه فيما بعد، بالعمل على تفاهمات وتسويات معها، والثاني مع الجماعات القومية غير التركية والجماعات الدينية غير الإسلامية، والحركة العمالية والنقابات واليسار التركي بكافة مقارباته، عداء لم ينته إلا باستكمال حرب الإبادة والتهجير، وفق استراتيجية دموية محكمة، للجماعات غير الإسلامية، وتهميش للجماعات الإسلامية غير التركية، وسلبها حقوقها، وتصفية لليسار وحصار للنقابات.


-3-

أمر العسكريون، بقتل القادة الشيوعيين، وإغراقهم في مياه البحر الأسود، بمواكب زوارق لا تنتهي، ورميهم في غياهب سجون لا ينفتح زمنها، كما لا ينتهي البطش والتنكيل بهم في أقبيتها، إلا وقد تحولوا إلى هياكل بشرية.

"أيها العالم القديم، اركع أمام العالم الجديد، فمهما فعلت، إضافة إلى قضائك على عدد من رفاقنا، نحن سنصل إلى تحقيق آمالنا بكل تأكيد! أيها البحر الأسود.. لتسمع أعماقك: إننا سنمسك بقبضة ذلك الخنجر، الذي توغل في تلك القلوب المتقدة!" من قصيدة إلى شهدائنا الخمسة عشر.

لم يكن مسار شاعر تركيا، في السجن المديد والهجرة والمنفى، مساراً مفرداً، كان بمثابة قدر حكم مسار الآلاف من اليساريين والثوريين الأتراك، الذين بقوا على قيد الحياة. أي الذين واللواتي لم تنه حياتهم طلقات غادرة في الشوارع، أو بموت مجهول الأسباب في السجون، أو بإغراق جماعي في البحر الأسود، أو الإهمال في المصحات الطبية والعقلية، أو بحصارات اقتصادية، تحول دون تمكنهم إعالة أنفسهم وأسرهم.

"لماذا يكون الناس حزانى، مثل فرخ السمك الصغير في هذا الصحن؟" من قصيدة كاتب قلم السجن.

ذهب بالعديد من قصائده إلى مقاصد تعليمية وتثقيفية، وصلت إلى حدود الوعظية، كما مضى بقصائد أخرى إلى مواجهات باترة مع الرجعية الفكرية، القناع الرقيق للرجعية السياسية الحاكمة بقوة الجيش، وإلى نهج لم يهدأ ولم يذبل: زراعة الأمل بالمستقبل، والحث على التعويل عليه. لتبقى أمامه الوقائع السياسية الثقيلة، التي عجزت الكلمات عن تقويضها أو إزاحتها. لم تجد معها مدائح القوة العضلية للشعوب، بعد إدراك أن العضلات التي لا تستعمل تتماوت، والتي تستعمل بغير تبصر ووعي تقطع بالبلطات، ولا تلك التفاؤلية التاريخية المتطامنة، التي تترقب مكافأة الشعوب المضطهدة، بتزيين صدورها بالأوسمة، كما يحصل في نهاية خدمة الموظفين الحكوميين.

عاش ناظم حكمت، تحت نيران حربين كونيتين، حرقتا القارة الأوروبية من أقصاها لأقصاها، الحرب بما تعنيه حين الإعداد لها من تعبئة أيديولوجية تعادل قصف المدافع وغارات الطيران، استنهضت كل القذارات العنصرية والأحقاد القومية والدينية، لتسويغ الإبادات الجماعية وحرق المدن، واحتلال الأراضي وتهجير الشعوب. وعمل في هذا الشرط المرعب على تغذية نصه الشعري والنثري كما تغذى الحمام، لم يكن أمام شاعر العالم إلا الانفتاح على الشعوب، وتقديم موائد عامرة بأطايب ثقافاتها، إذ ما من قوة سوى الثقافة الديموقراطية، تتقوى بها الحركات الثورية، كمصل مضاد للأحقاد.

لم يوفر الشاعر الكبير أي أداة تعبير أدبية وفنية إلا وقبض عليها وطوّعها، من الشعر الطليق، إلى المسرح والرواية والبرامج الإذاعية والشرائط السينمائية، كأنما ليعادل بها القوة الحربية لعدوانية الجيوش الغازية. معتمداً على إرادوية لا تلين، مستندة على وعي بضرورة التغيير والاتجاه نحو عالم جديد عادل متآخٍ شبعان.

نقبل على أشعار ناظم حكمت طلباً للدفء، المنبعث من نيران الكلمات الماجدة، من السيرة التي تصاعدت مع حربية حزب الاتحاد والترقي، حين كان الفتى محط آمال العائلة ليكون ضابطاً في المدرسة العسكرية البحرية، والذي هزه بعد ذلك المصير الزلزالي للإمبراطورية العثمانية. مضت حياته بعدها، إلى خياراتها المنفصلة عن تاريخ العائلة وطموحاتها، استقر مؤقتاً في "جامعة كادحي الشرق" ليتلقى المبادئ الأولى في الفكر الثوري وأساليب تطبيقه، وعاد بعدها إلى وطنه ليناضل مع الحزب الشيوعي في الكتابة الصحافية والتعبئة الثورية، مجروحاً بالمواجهات اليومية ومطاردات الشرطة السرية، مرضوضاً بالسجن الطويل، مرهقاً بعذابات حب لا شفاء منه، ملوعاً بالحنين الذي أثقلته المنافي، وحرمانه من حمل جنسية وطنه.

ندنو منه في ظل وقائع مؤلمة متجددة، لنتذكر ونذكر أن الكلمة الحاسمة لا تكون إلا للشعوب، مهما أذلت وأهينت، وسخر من قناعاتها وآمالها، وقتلاها.. وتضحياتها.

"ما دمنا مغلوبين هذه المرة
فلا فائدة من أي قول نقوله"


ملحمة الشيخ بدر الدين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى