مصطفى نصر - السرقات الأدبية

فوجئت بالحكم سنتين سجن على واحدة سرقت قصيدة من شاعر عراقي، وهذا حكم غير متوقع، فالسرقات الأدبية منتشرة وقديمة، فقد رأيت مقالة للأديب محمد جابر غريب عن محمود البدوي منشورة في جريدة المساء، وكاتب – انتشر بعد ذلك – شطر المقالة نصفين، وجعل الجزء الثاني في الأول والجزء الأول في الآخر ونشرها باسمه في جريدة المساء أيضا، ولم يتحرك أحد – وهذا الذي فعل ذلك مع محمد جابر غريب، طلب من حاصلة على رسالة دكتوراة عن الصحفي محمد توفيق دياب ولم تطبعها، فطلب رسالتها للاستعانة بها في دراسة له عن توفيق دياب، مشترك بها مسابقة عنه أقامتها أسرته. وبالصدفة كان أحمد بهاء الدين محكما في هذه المسابقة، وأيضا مشرفا على رسالة الدكتوراة عنه، فاكتشف أن هذا الصحفي قد نقل الدكتوراة وطبعها في كتاب باسمه نشرته له هيئة الكتاب، فأبلغ بهاء الدين صاحبة الرسالة، فرفعت دعوى وحكم لها القاضي بالتعويض، وحرق نسخ الكتاب الذي صدر باسمه، لكن النسخ لم تحرق واشتريت هذا الكتاب بعد صدور الحكم ومازال معي.
والحكايات كثيرة ومتعددة، فشاب خريج معهد السينما قسم سيناريو، نصحه مخرج تليفزيوني معروف بأن الكتابة للتليفزيون عبارة عن نقل مشاهد من السينما الأجنبية، ومشاهد من الأفلام المصرية القديمة. أو "تنتش " مشهد من قصة ومشهدين من قصة أخرى، إلى أنتكتب فيلما أو مسلسلا.
وأبقى تعالى قابلني لو استطاع أحد إثبات ذلك.
وكثيرا ما أجد مشاهد في الأفلام المصرية الجديدة، منقولة من أفلام قديمة..
وهناك كاتبة قاهرية، رفعت دعوى ضد سيناريست مشهور واتهمته بأخذ قصتها وتحويلها لفيلم سينمائي، لكن القاضي لم يقتنع برأيها ورفض الدعوى، فرفع السيناريست عليها قضية رد شرف فحكم القاضي عليها بمليون جنيه، وقد اختفت هذه الكاتبة ولا أدري أين ذهبت. وهذا هو الحال، تسرق قصتك ولو اشتكيت ستدفع الثمن الباهظ الذي لا تقدر عليه، فالقاضي سيستعين بخبير، وهو عادة ما يكون متصلا بالسيناريست وعلى زمالة وصداقة معه. وأعرف الكثير انسرقت أعمالهم ويخافون من رفع الدعوى، التي ستؤدي حتما إلى أن يدفع المسروق تعويض كبير للسارق.
لكن هذا الحكم الجديد غريب ومثير، ولا أدري سببه، هل لأن المسروق عراقيا، يعني القاضي خاف على سمعة مصر فحكم بهذا الحكم المفاجئ. وهل لو رفع مصري أو مصرية دعوى، بأن فلان أو فلانة سرقوا أعمالي الأدبية، سيحكم لهم القاضي بحكم مماثل؟! ربما.
سعيد بكر
الروائي المرحوم سعيد بكر والشاعر مهدي بندق والشاعر الدكتور فوزي خضر في حفل أقامته هيئة الفنون والآداب لتكريمهم لحصولهم على جائزة الدولة .
أذكر جيدا يوم أن جاء سعيد بكر إلى قصر ثقافة الحرية لأول مرة، جاء ومعه رواية عن ( حلواني) يمتلك محلات لصناعة الحلوي وخدعته النساء وأخذته من زوجته وأولاده ثم أخذت منه محلاته،. كان سعيد متأثرا بكتابات إحسان عبد القدوس،. وأعماله في ذلك الوقت تدل على إنه لا يختلط بكتاب وأدباء، وإنما يعتمد على ما يقرأه في خلوته ببيته . فلم يكن يعرف يوسف إدريس أو كتاب الستينيات، وقام عبد الله هاشم بتعريفه اسماء هؤلاء، وربما مده بكتب من مكتبته، وبدأت علاقة سعيد بعبد الله وظلت إلى أن حدث له ما حدث في ندوة بالقاهرة . وسرعان ما ظهرت قدراته، اهتمامه باللغة، وتشكيلاته الفنية في قصصه . وتوالت أعماله القصصية والروائية، استطاع أن يمزج بين فن الكلمة والفن التشكيلي الذي درسه وتخصص فيه . كنت تجد الألوان ساطعة بين سطور قصصه، وفي قصصه ورواياته تجد مواقف تشبه الإسكتشات التي يرسمها الرسامون .
وأذكر أن زميلا لي - من خارج الوسط الأدبي – سمع قصة له فقال لي: أسلوبه حلو، ومن يومها عندما يسمع اسم سعيد بكر يقول لي : ده إللي أسلوبه حلو؟ .
وكان سعيد أهم كاتب في جيلنا بالإسكندرية، فوجد الرعاية والاهتمام من السيدة عواطف عبود – مديرة الثقافة بالإسكندرية في ذلك الوقت ؛ فقد رشحته لنيل جائزة الرئيس السادات في عيد العلم،. وكان عبد الله هاشم – المشرف على ندوة الاثنين - يصيح فرحا عندما يجد موهبة مبشرة: أكتشفنا خليفة لسعيد بكر . قال هذا على كاتب جيد خريج لغة إنجليزية لكنه اختفى، وقال هذا على مجدي الضوي الذي اختفي أيضا .
كان سعيد بكر أول من نشر – من جيلنا بالإسكندرية – في المجلات القاهرية المشهورة فنشر في مجلة "الطليعة "عام 1972 .
كان لسعيد بكر اهتمام خاص باللغة؛ خاصة بعد أن حصل على ليسانس اللغة العربية من آداب الإسكندرية، فاعتمدتُ عليه في مراجعة أعمالي، وكان يقوم بمراجعة مواد مجلة نادي القصة التي صدرت عن الثقافة لسنوات طويلة جدا .
بعد عودة سعيد بكر من السعودية أحس بأننا لم نتقدم بما فيه الكفاية ولابد من تنشيط حركة النشر والانتشار بيننا، فاقترح بأن يدفع كل منا مبلغا شهريا ( عشرة جنيهات)، وعندما يتكون مبلغ يكفي لإصدار كتاب نبدأ بنشر روايتي المساليب، وبعد ذلك نجري قرعة في اختيار الأعمال التالية، اقترح هذا في غيابي،وفوجئت بذلك، فأنا وسعيد كنا من أهم كتاب القصة والرواية في الإسكندرية،والمنافسة بيننا تستدعي أن يحدث خلاف وشقاق أحيانا. للأسف مشروعه هذا لم يتم، فبعد أن جمعنا مبلغا كبيرا، لم نصدر كتابا واحدا، وأخذ كل منا ما سبق أن سدده .
كان سعيد بكر مهذبا عف اللسان، يقضي وقته في بيته، لا يخرج منه- بعد عودته من المدرسة التي يعمل بها - إلا يومي الاثنين لحضور ندوة القصة بقصر ثقافة الحرية ويوم الجمعة لحضور ندوة عبد الله هاشم في بيته، كان في ندوة الاثنين مقلا في الحديث لا يتحدث إلا إذا استثار، وإثارته تأتي من سماعه لقصه جيدة قيلت، أو عند سماعه لرأي لا يعجبه، فيرتفع صوته وترى جانيا مختلفا في شخصيته . بعد الندوة نسير جماعتنا إلى محطة الرمل لمتابعة الكتب والمجلات والجرائد، فيذكر لنا النكت التي سمعها من زملائه المدرسين، كان يحكي نكته بطريقة جميلة، فيضحك قبل أن يقول النكتة، وعادة ما تتوارى الكلمات خلف ضحكاته .أما في يوم الجمعة، فكان يخرج من بيته في الهانوفيل، ويتجه إلى بيت عبد الله هاشم في باكوس . وحدث أكثر من مرة أن تقابلنا في صباح يوم الجمعة لزيارة مكتبة دار المستقبل لمقابلة صاحبها المرحوم الدكتور رؤوف سلامة موسى، فقد قدمت سعيد للدكتور وأثنيت عليه إلى أن تعاقد معه لإصدار رواية له . فكنا نزوره قبل العاشرة صباحا، وننتهي من لقائه بعد وقت قصير جدا . فيقضي سعيد الوقت معي، إلى أن يحين موعد ذهابنا إلى بيت عبدالله هاشم في آخر النهار، فليس من المعقول أن يعود إلى الهانوفيل ثم يأتي ثانية إلى محطة مصر للذهاب إلى بيت عبدالله في باكوس.
كان أول من يأتي إلى بيت عبد الله هاشم مساء كل جمعة، وكنت حريصا أن أحضر في ذلك الوقت تقريبا، فنجتمع أنا وهو وعبد الله قبل حضور باقي الزملاء. بعد انتهاء الندوة نسير – عادة – أنا وهو وأحمد حميدة لنركب القطار لذي يقلنا إلى محطة مصر .
أثرت أشياء كثيرة في مسيرة سعيد بكر الأدبية، أهمهما : قناعته في البقاء بالإسكندرية (مقبرة الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية )، وعدم انتقاله إلى القاهرة مثل الكثيرين من زملائنا، وهذا ما قاله عنه المرحوم على شلش في ندوة بقصر الحرية، قال ما معناه: لا أدري كيف يطيق أن يبقى في الإسكندرية وهو بهذه الموهبة الكبيرة؛ بعيدا عن أضواء القاهرة . وأثر فيه أيضا سفره إلى الأراضي السعودية مرتين، في كل مرة أربع سنوات، عمل فيها مدرسا للرسم هناك .. لولا هذا لحقق شهرة أكبر.
رأيت وعاشرت كرماء كثيرين، لكنني لم أر كريما مثل سعيد بكر، فقد يكون الرجل كريما من وسع، لكن سعيد كريما ولو كان لا يمتلك شيئا .وكما يقول المثل العامي" البير الحلوة نزحة "، فقد أنفق سعيد كل الأموال التي أدخرها خلال غيابه عن كتاباته وأسرته، وأضطر أن يبيع سلسة المسرح العالمي النادرة الوجود في شارع النبي دانيال. كنا في مؤتمر بدمياط، وانتهت الجلسة الختامية قبل الظهر بقليل، وكان لابد لنا من أن نتناول الغداء قبل أن نركب السيارة التي ستقلنا إلى الإسكندرية، ودخلنا مطعما هناك، وعندما حاولت دفع الحساب، أمسك أحمد حميدة يدي قائلا: مادام سعيد بكر معنا، يبقى هو إللي يدفع .
وحكى لي حميدة بأنه كان يسير مع عبد الله وسعيد بكر ومحمد عبد الوارث، ودخل سعيد لشراء حذاء، وقال للبائع: هات حذاء لكل منهم. رفض محمد عبد الوارث، ودفع سعيد يكر ثمن حذاءه وحذاء أحمد حميدة وعبد الله هاشم.
كان حميدة وعبد الله ومحمد عبد الوارث أقرب إليه مني . وأدرى مني بعاداته وتقاليده، فكما قلت المنافسة اللعينة تفسد العلاقات أحيانا. كنت أرى أن سعيد بكر هو ومحمد حافظ رجب من أكبر المواهب القصصية التي ظهرت في الإسكندرية . ولو أن الأمور في مصر تسير سيرها الطبيعي، لسادا معا وحققا الشهرة العظيمة .ففي مصر لا يكفي أن تكون كاتبا جيدا فقط، ولا أن تكون رساما أو موسيقيا بارعا فقط، لابد من أن تسوَّق أعمالك بنفسك أو بالآخرين، وسعيد لم يستطع أن يسّوق أعماله خارج الإسكندرية، واعتمد على عبد الله هاشم لكي يسوقها له داخلها .وعبد الله هاشم دعائي بارع، إذا تحمس لأحد يظل يذكره في كل وقت وفي كل مناسبة، لكن صوته لا يصل للقنوات الثقافية في القاهرة. فانحصرت الأضواء عن سعيد خاصة بعد سفره للسعودية .
**
كان سعيد بارعا في كتابة القصة القصيرة، لدرجة أنه سد علينا الطريق فيها، كان في أول حياته متأثرا بكتابات محمود عوض عبد العال ومحمد الصاوي، واستطاع أن يضيف لطريقتهما من عنده أشياء جديدة تخصه، ووجد تشجيعا من عبد الله هاشم وتفسيرا لطريقته الجديدة في الكتابة، لكنه لم يكمل مشواره هذا، وغير طريقته؛ ربما أحس بأن هذا الطريق لا يؤدي إلى الشارع العمومي، وإنما يؤدي إلى حارة مسدودة. فكتب عن الحي الذي نشأ وقضى فيه طفولته وشبابه. واعتقد أنه لو تمسك بطريقته الأولى في الكتابة لحقق لنفسه مكانة أكبر وأهم، فقد كان متفردا ومتميزا فيها، وكانت الضبابية التي يصنعها تمزج الحقيقية بالخيال، والواقع بالأسطوري. وأشهد بأن عبد الله هاشم كان متحمسا له في طريقته الأولى أكثر من الطريقة الأخرى التي لم تكن طريقته الأصلية.


مصطفى نصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى