أشرقت شمس اليوم الأربعين، شمس بوجهٍ كئيب، انتهت فيه مراسم العزاء وعدت أحمل بين يدي سلسلة مفاتيحها التي عهدت بها إلى قبل موتها، دخلت غرفتها، توجهت إلى خزانتها، أدارت أحد تلك المفاتيح في قفل الخزانة، فانفحت، وانبعث من بين تلك القمصان عبيرٌ فواح، حملني على تذكرها.
لقد أضحت مؤخراً هزيلة وشاحبة، قليلة الكلام والاختلاط، تحتجز نفسها في حجرتها لساعات طويلة، تخرج فقط لقضاء حاجة، أو تناول بعض الطعام، راعني كونها على هذا الحال، من الكآبة والتعلعل، قررت التدخل في الأمر، والتحدث معها، علها تفضي إلي ببعض همها، مع حلول المساء، طرقت باب حجرتها، لكنها لم تجبني، عاودت الطرق وما من مجيب، مرت لحظات أرهفت السمع، فالتقطت أذني وقع قطرات الماء وهي ترتطم بأرضية الحمام، عرفت حينها بأنها تغتسل، وعدت بعد ساعة، ثم قرعت باب الحمام مراراً لكنها لم تجب، زاد هذا من خوفي عليها، وفكرت باقتحام الحمام فربما دفعتها الكآبة واليأس إلى الانتحار، وما هي إلا هنيهة حتى انفتح الباب، وخاب ظني، وجدت أمي أمامي ببشرتها البيضاء النقية، تبتسم لي في حب، وهي ترتدي قميص نوم حريرياً، ذا لون أرجواني لامعاً، وقد عقدت شعرها بمنديل أحمر، انعكست حمرته على خديها اللذين باتا يلمعان كتفاحتين في أوج النضوج.
سرني ما رأيته من جمال أمي، وزاد سروري سرور تلك الدعوة التي وجهتها أمي لنا، لمشاهدة التلفاز أنا وأخواتي، وكذلك، «حسن» و«لطفية»، قدمت أمي لنا الشاي والكعك، فمضينا في التهامه والتحديق في شاشة التلفاز باهتمام، كان حسن يقلب نظره بين شاشة التلفاز تارة، وبين جسد لطفية الشاب، ووجهها المشدود تارة أخرى، ثم يحتسي رشفة من الشاي، يبتسم بعدها ابتسامة المعتد بما يملك؛ فهو زوج لاثنتين من زمنين مختلفين، فجأة جن جنون أمي، وانتفضت ثائرة، قذفت بنا، واحداً تلو الآخر خارج الحجرة، ثم صفعت بابها بقوة، وأخذت تنتحب طيلة الليل.
في صباح اليوم التالي، عاودت الأحزان أمي، مرت أيام وهي تلوذ بالصمت وتكتفي بالنظر إلى المرآة، تسترجع ما حدث قبل عام، زغاريد وأفراح، جاء حسن بلطفية عروساً إلى بيتها، وسط مباركة الأهل والخلان، فالشاب الذي ضحى بسنوات شبابه، من أجل الحفاظ على أبناء أخيه، وأرملته يستحق أن يحظى بزوجة بكر، تصغره سناً.
في ذات صباح، سمعت صوت أمي تناديني، هرعت إليها ملبية النداء.. طلبت مني أن أصبغ شعرها بالسواد، ورسم بعض النقوش على يديها، فأجبتها واعتنيت، وقد أكدت عليّ أمي مسبقاً بأن أوصد باب الحجرة جيداً، ففعلت حتى جاء أخي الصغير وفتح الباب، ثم ركض مسرعاً في شقاوة، تطارده لعناتي وصرخاتي الغاضبة، عدت لإنهاء ما بدأت به من الصبغ والرسم، مرت بضع دقائق، وأنا منكبة على عملي، في حين انداحت على خدي أمي دموع باردة، واستجلبت إحدى خصلات شعرها المصبوغ إلى جبينها لتخفي أصولها البيضاء، وقليلاً من تلك التجاعيد التي خلفها الزمن، فلقد تنبهت إلى وجود حسن واقفاً، يراقب مانقوم به، يطبق بشفتيه على سجارة توشك على الانتهاء، يمتصها بلذة، وينفث دخانها في أرجاء المكان.
في المساء بدت أمي كعروس، وهي ترتدي قميص نوم تركوازي اللون، ذا أكمام مطرزة، وحواف موشاة بالخيوط الذهبية، شعرها الأسود الطويل ينسدل، ليكسو ظهرها العاري، تضع على شفتيها أحمر شفاه بلون قرمزي.
على طاولة العشاء رأيت حسن خلسة يغمز بعينيه لها، فاحمر وجهها خجلاً، بعد أن سهرنا معاً لبعض الوقت، رافق حسن أمي إلى حجرتها، ومن ثم سكن الليل، ولم تعد تسمع سوى تلك الأنفاس الملتهبة، حتى كانت الوحدة بعد منتصف الليل، حيث دوى الصراخ في أرجاء المنزل، وأيقظ النيام، واجتمعنا في موقع القصف حجرة لطفية التي راحت تصرخ مستغيثة، وأمي تجثم على صدرها تكيل لها اللكمات، وتنهش في لحمها، بأسنانها وأظافرها، وحسن يحاول جاهداً فصلهما، لقد أوهم الرجل أمي أنه ذاهب لقضاء حاجة، لكنه تأخر، ووجدته متلبساً في أحضان لطفية.
عندما عجز حسن عن الفصل بينهما غادر الحجرة، بعدها تركت أمي لطفية، تئن مثخنة بجراحها والأوجاع، دعوت أمي إلى النوم في فراشي لبقية الليلة، ضممتها إلى صدري، ولازالت ارتجافات الغضب تتملكها، غلبني النعاس بعد ان تثبت من أن كل شيء قد هدأ، وغرقت في نوم عميق، استفقت مع أذان الفجر، وأمي إلى جواري، أخذت أوقظها للصلاة، لكنها لاتتحرك، لاتتنفس، غائبة عن الحياة.
اندفعت خارج الحجرة مهرولة أبحث عن حسن، فتشت عنه في المنزل شبراً شبراً لكني لم أجده، لقد اختفى حسن، خرجت إلى الفناء لاطلب العون من الجيران، وهناك وجدت حجرة الضيوف مضاءة، فاقتربت منها بحذر كان الباب موارباً، فاختلست النظر، رأيت حسن مضطجعاً على الأريكة، وإلى جوار الباب من الداخل تقف امرأة ترتدي قميصاً ذا لون أبيض رقراق، تحمل ملامح أمي وقامتها، شابة نظرة في العشرين، فركت عيني، فربما خيل إلي ماأراه، بعدها انبعث صوت حسن، يخاطب المرأة في لهجة غاضبة وصارمة :
(اخرجي واقفلي الباب خلفك )..
امتثلت المرأة لأمره، أوصدت الباب، لكنها نسيت أن تخرج..
احتضنت قمصان أمي الملونة في شوق، استنشقتها وقد تمنيت لو أني لم استسلم للنوم في تلك الليلة.
لقد أضحت مؤخراً هزيلة وشاحبة، قليلة الكلام والاختلاط، تحتجز نفسها في حجرتها لساعات طويلة، تخرج فقط لقضاء حاجة، أو تناول بعض الطعام، راعني كونها على هذا الحال، من الكآبة والتعلعل، قررت التدخل في الأمر، والتحدث معها، علها تفضي إلي ببعض همها، مع حلول المساء، طرقت باب حجرتها، لكنها لم تجبني، عاودت الطرق وما من مجيب، مرت لحظات أرهفت السمع، فالتقطت أذني وقع قطرات الماء وهي ترتطم بأرضية الحمام، عرفت حينها بأنها تغتسل، وعدت بعد ساعة، ثم قرعت باب الحمام مراراً لكنها لم تجب، زاد هذا من خوفي عليها، وفكرت باقتحام الحمام فربما دفعتها الكآبة واليأس إلى الانتحار، وما هي إلا هنيهة حتى انفتح الباب، وخاب ظني، وجدت أمي أمامي ببشرتها البيضاء النقية، تبتسم لي في حب، وهي ترتدي قميص نوم حريرياً، ذا لون أرجواني لامعاً، وقد عقدت شعرها بمنديل أحمر، انعكست حمرته على خديها اللذين باتا يلمعان كتفاحتين في أوج النضوج.
سرني ما رأيته من جمال أمي، وزاد سروري سرور تلك الدعوة التي وجهتها أمي لنا، لمشاهدة التلفاز أنا وأخواتي، وكذلك، «حسن» و«لطفية»، قدمت أمي لنا الشاي والكعك، فمضينا في التهامه والتحديق في شاشة التلفاز باهتمام، كان حسن يقلب نظره بين شاشة التلفاز تارة، وبين جسد لطفية الشاب، ووجهها المشدود تارة أخرى، ثم يحتسي رشفة من الشاي، يبتسم بعدها ابتسامة المعتد بما يملك؛ فهو زوج لاثنتين من زمنين مختلفين، فجأة جن جنون أمي، وانتفضت ثائرة، قذفت بنا، واحداً تلو الآخر خارج الحجرة، ثم صفعت بابها بقوة، وأخذت تنتحب طيلة الليل.
في صباح اليوم التالي، عاودت الأحزان أمي، مرت أيام وهي تلوذ بالصمت وتكتفي بالنظر إلى المرآة، تسترجع ما حدث قبل عام، زغاريد وأفراح، جاء حسن بلطفية عروساً إلى بيتها، وسط مباركة الأهل والخلان، فالشاب الذي ضحى بسنوات شبابه، من أجل الحفاظ على أبناء أخيه، وأرملته يستحق أن يحظى بزوجة بكر، تصغره سناً.
في ذات صباح، سمعت صوت أمي تناديني، هرعت إليها ملبية النداء.. طلبت مني أن أصبغ شعرها بالسواد، ورسم بعض النقوش على يديها، فأجبتها واعتنيت، وقد أكدت عليّ أمي مسبقاً بأن أوصد باب الحجرة جيداً، ففعلت حتى جاء أخي الصغير وفتح الباب، ثم ركض مسرعاً في شقاوة، تطارده لعناتي وصرخاتي الغاضبة، عدت لإنهاء ما بدأت به من الصبغ والرسم، مرت بضع دقائق، وأنا منكبة على عملي، في حين انداحت على خدي أمي دموع باردة، واستجلبت إحدى خصلات شعرها المصبوغ إلى جبينها لتخفي أصولها البيضاء، وقليلاً من تلك التجاعيد التي خلفها الزمن، فلقد تنبهت إلى وجود حسن واقفاً، يراقب مانقوم به، يطبق بشفتيه على سجارة توشك على الانتهاء، يمتصها بلذة، وينفث دخانها في أرجاء المكان.
في المساء بدت أمي كعروس، وهي ترتدي قميص نوم تركوازي اللون، ذا أكمام مطرزة، وحواف موشاة بالخيوط الذهبية، شعرها الأسود الطويل ينسدل، ليكسو ظهرها العاري، تضع على شفتيها أحمر شفاه بلون قرمزي.
على طاولة العشاء رأيت حسن خلسة يغمز بعينيه لها، فاحمر وجهها خجلاً، بعد أن سهرنا معاً لبعض الوقت، رافق حسن أمي إلى حجرتها، ومن ثم سكن الليل، ولم تعد تسمع سوى تلك الأنفاس الملتهبة، حتى كانت الوحدة بعد منتصف الليل، حيث دوى الصراخ في أرجاء المنزل، وأيقظ النيام، واجتمعنا في موقع القصف حجرة لطفية التي راحت تصرخ مستغيثة، وأمي تجثم على صدرها تكيل لها اللكمات، وتنهش في لحمها، بأسنانها وأظافرها، وحسن يحاول جاهداً فصلهما، لقد أوهم الرجل أمي أنه ذاهب لقضاء حاجة، لكنه تأخر، ووجدته متلبساً في أحضان لطفية.
عندما عجز حسن عن الفصل بينهما غادر الحجرة، بعدها تركت أمي لطفية، تئن مثخنة بجراحها والأوجاع، دعوت أمي إلى النوم في فراشي لبقية الليلة، ضممتها إلى صدري، ولازالت ارتجافات الغضب تتملكها، غلبني النعاس بعد ان تثبت من أن كل شيء قد هدأ، وغرقت في نوم عميق، استفقت مع أذان الفجر، وأمي إلى جواري، أخذت أوقظها للصلاة، لكنها لاتتحرك، لاتتنفس، غائبة عن الحياة.
اندفعت خارج الحجرة مهرولة أبحث عن حسن، فتشت عنه في المنزل شبراً شبراً لكني لم أجده، لقد اختفى حسن، خرجت إلى الفناء لاطلب العون من الجيران، وهناك وجدت حجرة الضيوف مضاءة، فاقتربت منها بحذر كان الباب موارباً، فاختلست النظر، رأيت حسن مضطجعاً على الأريكة، وإلى جوار الباب من الداخل تقف امرأة ترتدي قميصاً ذا لون أبيض رقراق، تحمل ملامح أمي وقامتها، شابة نظرة في العشرين، فركت عيني، فربما خيل إلي ماأراه، بعدها انبعث صوت حسن، يخاطب المرأة في لهجة غاضبة وصارمة :
(اخرجي واقفلي الباب خلفك )..
امتثلت المرأة لأمره، أوصدت الباب، لكنها نسيت أن تخرج..
احتضنت قمصان أمي الملونة في شوق، استنشقتها وقد تمنيت لو أني لم استسلم للنوم في تلك الليلة.