دخلتُ المدينة ليلاً ببدلتي العسكرية الممزقة وخوذتي المثقوبة. كنت متعبا جداً، اقدامي تؤلمني ورأسي يكاد يهشمه الصداع. كلما تذكرت امّي ينعصر قلبي. يا ألهى ما هذا الدمار. أغلب البيوت قد تهدّمت بالقصف العشوائي للمدافع والطائرات. أخذتني رجفة مفاجئة وأنا اقترب من منزلنا. رغم هذا الظلام الحالك، ورغم كتل الدخان الخانقة في كل مكان. إلّا إنني أعرف الطريق الى البيت تلقائيا. أبْطئتُ خَطواتي خوفاً من المفاجئة التي تنتظرني. لكنني وصلت أخيراً. أرعبني ما رأيت، الأبواب مشرّعة الشبابيك مفتوحة والزجاج مكسر. دخلت بتوجس مردداً أدعية قد حفظتها من امّي عندما كانت ترتلها لي بصوتها الشجي قبل أن أنام، فأحلم أنّي طير من طيور الجنة، أُحلق من شجرة الى أخرى، وأشرب من انهار اللبن والخمر، تغمرني البهجة من كلّ هذا الجمال الإلهي الذي لا أستطيع ان أصفه لأحد عند استيقاظي في الصباح. ازدحمت الاسئلة في رأسي، أين ذهبوا؟ أين امّي وأبي؟ أين اخوتي واخواتي؟ اشتقت إليهم، منذ أن ودعوني يوم التحاقي لوحدتي العسكرية قبل شهر أو أكثر. لم أستطع ان أنسى دموع امّي وحزنها ولا خوف أبي الذي حاول أن يخفيه عني، ولا قبلات اخوتي واخواتي. مسحتُ دموعي وأنا أدخل من غرفة الى أخرى منادياً عليهم الواحد بعد الآخر فيرجع الصدى إليّ، لكني رغم السكون والظلمة التي خيمت على قلبي لا يزال الأمل يرشدني ويأخذ خطاي الى دفء وجودهم. وصلت أخيراً الى غرفتي. فرأيت بعد أن اعتادت عيني الظلمة امّي، جالسة على سريري وحدها. الحزن جعلها تبدو كعجوز معمرة. أبكتني نبرات صوتها الحزينة عندما قالت: -
- أخيراً وصلت بني... أتعبني انتظارك.
ارتميت بين اقدامها وبكيت مدة طويلة، جسمي كلّه يرتجف وأرتفع بكائي عالياً. لم أستطع السيطرة على نفسي. كانت أنفاسي تخرج بشدة، وأحسست بألم في صدري. هدأت بعد فترة لم أعرف مدتها لكن دفء يد امّي وهي تمسح على رأسي أعاد لي بعض الطمأنينة. سألتها بعد صمت طويل عن أبي واخوتي فأجابت
- لم يبق أحد غيري. أُسلّي وحدتي بانتظارك.
مسحتُ دموعها وقبلتها على رأسها، تمددت على السرير بعد أنْ وضعت رأسي في حجرها وأغمضتُ عيني. أردت أنْ أخبرها عن كل الذي حدث لي في الحرب. عن ذلك الهجوم العنيف الذي لا يمكن للكلمات أن تصف بشاعته. عن زحفي بين القتلى والجرحى. عن ذلك الجندي الذي مزقته الشظايا. رأيته عندما اشتد بي العطش وأخذت زمزميته فسمعتُ صوته الخافت يَطلبُ أنْ أسقيه قليلاً من الماء. شربت قبله وعندما قربت الزمزمية من فمه وجدته قد مات. أردتُ أن أخبرها عن اللصوص الذين سرقوا بندقيتي بعد أنْ فتشوا جيوبي الخاوية ولم يجدوا نقوداً. لكن رائحتها قد غمرتني فنسيت الكثير من آلامي وتعبي ورحت في نوم عميق جداً.
عندما استيقظتُ في الصّباح وجدتُ نفسي متكوراً على السرير ورأسي لم يكن في حجر امّي وانّما على حافة السرير.
مناف كاظم محسن
- أخيراً وصلت بني... أتعبني انتظارك.
ارتميت بين اقدامها وبكيت مدة طويلة، جسمي كلّه يرتجف وأرتفع بكائي عالياً. لم أستطع السيطرة على نفسي. كانت أنفاسي تخرج بشدة، وأحسست بألم في صدري. هدأت بعد فترة لم أعرف مدتها لكن دفء يد امّي وهي تمسح على رأسي أعاد لي بعض الطمأنينة. سألتها بعد صمت طويل عن أبي واخوتي فأجابت
- لم يبق أحد غيري. أُسلّي وحدتي بانتظارك.
مسحتُ دموعها وقبلتها على رأسها، تمددت على السرير بعد أنْ وضعت رأسي في حجرها وأغمضتُ عيني. أردت أنْ أخبرها عن كل الذي حدث لي في الحرب. عن ذلك الهجوم العنيف الذي لا يمكن للكلمات أن تصف بشاعته. عن زحفي بين القتلى والجرحى. عن ذلك الجندي الذي مزقته الشظايا. رأيته عندما اشتد بي العطش وأخذت زمزميته فسمعتُ صوته الخافت يَطلبُ أنْ أسقيه قليلاً من الماء. شربت قبله وعندما قربت الزمزمية من فمه وجدته قد مات. أردتُ أن أخبرها عن اللصوص الذين سرقوا بندقيتي بعد أنْ فتشوا جيوبي الخاوية ولم يجدوا نقوداً. لكن رائحتها قد غمرتني فنسيت الكثير من آلامي وتعبي ورحت في نوم عميق جداً.
عندما استيقظتُ في الصّباح وجدتُ نفسي متكوراً على السرير ورأسي لم يكن في حجر امّي وانّما على حافة السرير.
مناف كاظم محسن