أنور غني الموسوي - الاتساقية الشرعية

الموافقة والاتساق
حديث العرض على القران مضمونه ان الحديث المنسوب للشريعة يعرض على القران فان وافقه اخذ به والا لم يؤخذ به. فعامل الموافقة ضروري هنا لاجل قبول الحديث، والموافقة هنا داخلة في فكرة الاتساق في نظرية الاتساق في معرفة الحقيقة، اي اتساق المعارف المدركة كاساس لواقعيتها وصدقها. فلكي نعرف ان الحديث (الفرض) حق (صدق) علينا ان نعرضه على القران (المعارف المعلومة) فان وافقه (اتسق معه) فهو حق (صدق) والا لم يكن حقا ( لم يكن صدقا). والموافقة هو وجود شاهد له من المعارف الثابتة. هذا وان المعرفة الشرعية و بدلالات ومعارف ثابتة تشير الى انها معارف متوافقة غير مختلفة لا تختلف مع بعضها ويصدق بعضها بعضا وهذا هو الاصل لحديث العرض.

اركان الاتساقية الشرعية
هنا امران متطوران في النظرية الاسلامية الاتساقية وهما الاول: اعتبار وجود معارف معروفة مستقلة بنفسها في العلم من دون الحاجة الى عرض او اتساق وهي محور المعرفة و ثانيا ان علامة الاتساق هو وجود نسبة للشريعة وشاهد من المعارف الثابتة. ان هذه الصفات مهمة جدا لتقديم صور قوية للاتساقية. فاركان الاتساقية الشرعية اربع:

اولا: وجود مصدر معلوم للمعرفة محدد.

ثانيا: وجود معارف معلومة مستقلة عن الاتساق.

ثالثا: وجود نسبة للمعرفة المفترضة الى المصدر بطريقة طبيعية واقعية.

رابعا: وجود شاهد من المعارف المعلومة على المعارف المفترضة.

وجميع هذه الامور ينبغي ان تكون بطريقة عرفية طبيعية واقعية وجدانية وبشكل واضح.


واقعية جميع المعارف الشرعية
والحق والحقيقة في الاتساقية الشرعية هو العلم بالصدق لذلك لا يكون للظن اثر في ميزان الحقيقة،ولا تاثير ولا خدش فالحق والصدق هو ما علم صدقه واما غير ذلك وهو ( ما علم كذبه او ظن كذبه او ظن صدقه ) فلا يدخل في الحقيقة. وهذا ايضا يسد ثغرة في الاتساقية الفلسفية و يقدم اجابة على سؤال مهم بخصوص الظن.

ان الاتساقية الشرعية لا تطرح الموافقة كحل لمشكلة العلم وانما تطرحها كعلامة للعلم ولذلك فالمتسق والموافق هو العلم والصدق أي هو المطابق للواقع ، كما ان المتسق والموافق هو النافع. وبهذا فانها تعطي تعريفا للمطابقة والنفعية من خلال الاتساق. ومن هنا فلا مجال لتقسيم المعرفة الى ظاهرية وواقعية وانما كل المعرفة واقعية الا انها حين يتبدل العلم فانها تتبدل ليس لاجل انكشاف خطأ الاول وعدم واقعيته وانما هو في الحقيقة تحقق حالة مختلفة من الواقع تختلف عما سبق وهذا يعطي مركزية للعلم في معرفة الحقيقة فالحقيقة في نفسها وواقعها هي ما يعلم ومن هنا ولاجل ان الحقيقة واحدة والواقع واحد فان تبدل العلم لا يعني تبدل الواقع. نعم قد يكون للحقيقة اوجه ودرجات للظهور و التكامل فيختلف الناس ضمن هذا الحد أي بالاختلاف في جهة النظر ودرجة التكامل والظهور الا انهم لا يختلفون اختلاف تباين وتغاير في الوافع، فالزيادة والنقصان الجائزة بين الناس هي من حيث تعدد جهات النظر وتكامل الظهور و ليس من التباين و المغاير في الواقع ان ظهرت كل درجة بشكل مختلف.


ظواهرية الشريعة
ما الامور الشرعية الا كالامور الظاهرية بل هي منها فكما ان الامور الظاهرية الخارجية تختلف في المظهر والشكل والادراك بين جهة واخرى وبين القريب و البعيد وفي درجة الوضوح وعدمه فان المعارف الشرعية هي ايضا اشياء خارجية لها جهات و للنظر اليها وادراكها و ووضوحها درجات بالنسبة للناس. ان الاشياء الشرعية كالاشياء الخارجية بعضها يبلغ من الوضوح والرسوخ بحيث لا يختلف فيه أي احد وبعضها يتباين الناس في ادراكه الحسي فيختلفون الا انه ليس مختلفا ككينونة وهكذا المعارف الشرعية فان الاختلاف فيها لا يسبب اختلافا في حقيقتها و كينونتها وانما الاختلاف في درجة وضوحها، مما يعني ان للعلم درجات، وكل درجة قد تظهر بشكل مختلف عن الاخرى الا ان ذلك لا يعني تعدد الواقع.

الاتساقية الشرعية والاتساقية الادراكية
ان الاتساق والموافقة والتصديق وعدم الاختلاف يكون باصل التشريع بان المصدق والمتسق والموافق هو الحق و الصدق و الحقيقة وهو النافع والعمل و لوظيفية فهذه مسلمات شرعية ثابتة. ومع ان كل ذلك جاء في الشرع بخصوص معارف الشرع الا انه واضح من انه جاء تطبيقا لمعرفة انسانية عقلية عامة ومن هنا يكون بالامكان تقديم الاتساقية الشرعية كاتساقية معرفية وجميع قواعدها ومبادئها هي تطبيقات للقواعد الاتساقية العامة. فالاتساقية الشرعية هي تطبيق للاتساقية المعرفية العامة. ومن هنا فانا اطرح الاتساقية الشرعية كنموذج واقعي ظواهري للاتساقية الاسلامية والاتساقية الادراكية في نظرية المعرفة.


درجات المعرفة الشرعية
للمعرفة درجات من حيث الثبوت والعلمية في الشرع والعرف رسوخا واتصالا وحقيقة وفي الشريعة أصول معرفية هي النصوص القرآنية والحديثية وفيها فروع هي الاستنباطات الفقهية. وأصول المعرفة الشرعية منها ما هو قطب يرد اليه غيره وهي محكم القران وقطعي السنة وما قارب القطعي من الحديث، ومنها ما هو عمدة وهو ما كان شديد الثبوت والاتصال بالقطب، و من أصول الشريعة ما هو دائر حول الاعمدة وهو الأصول الدائرة وهو علم الا انه متصل بالأعمدة وليس له ثبوت كالأقطاب والاعمدة. وعلامة الثبوت والاتصال والحقيقة والعلمية هي رسوخ المعرفة بكونها قرانا وسنة او اتصالها بما هو راسخ من القران والسنة.

هذا كله في المعارف الاصلية الأصولية وهناك المعارف الفرعية او التفرعية وهي استنباطات الفقهاء من الاصول وهي ان كانت متصلة بالأصول فهي علم وحق وهي على درجتين فروع قريبة التي يكون اتصالها بالاصول واضحا لكل احد والأصول البعيدة وهي التي يخفى على البعض اتصالها الا انها متصلة حقيقة والأفضل عدم التطرق للأصول البعيدة الا عند الضرورة التفصيلية.


الاساس المعرفي للاجتهاد والتقليد
المعارف الشرعية من أصول (نصوص) وفروع (استنباطات) كلها علم وحق ودين وشرع لاتساقها واتصالها، ولا يصح الطعن في حجيتها وحقيقتها لانها علم ولها برهان ودليل بالشواهد والمصدقات والاتساق. ونسبة الاستنباط الى النص الشرعي هو نسبة الفرع المتصل بالاصل والمتتهي اليه والراجع اليه، ولا ينسب الى قائله، وليس صحيحا ان يوصف بانه رأي لقائله المستنبط. والاختلاف بين المستنبطين هو راجع الى ظاهرة الاختلاف الادراكي والظواهري الذي اشرنا اليه من انه ليس اختلافا في الواقع وانما هو اختلاف في درجة الظهور والتجلي للحقيقة. فالمجتهدون (بحق) يختلفون في استنياطاتهم بل قد يتعارضون ليس لاجل تعدد الواقع ولا لاجل بطلان قول احدهم وانما لاجل الاختلاف في ظهور وادراك الحقيقة الواحدة وان ظهرت باشكال مختلفة او حتى متعارضة. هذا كله في الاستنباط الصحيح الاتساقي المصدق المتصل، اما الاجتهاد الاستنباطي غير المتصل اي الذي بلا مصدق ولا اتساق فهو ظن ولا يدخل في المعارف الشرعية ولا يصح العمل به. ففي ما ينسب الى الشريعة من اصول وفروع هناك معارف أخرى ظنية ليس لها اتصال بالاصول وهي ثلاثة أصناف:

الاول: ادعاء اتساقية نص غير متسق بعدم الشاهد والمصدق.

الثاني: ادعاء فهم اتساقي لنص ثابت وهذا الفهم غير متسق بعدم الشاهد.

الثالث: ادعاء استنباط اتساقي وهو غير اتساقي لعدم الشاهد والمصدق.

من هنا يتبين ان اهم شرط لتمييز الاجتهاد الصحيح من غيره والنص الصحيح من غيره هو اثبات اتساقه بادراك المصدق والشاهد، وهذا واجب كل عامل بمعرفة اي واجب كل مكلف، فلا بد على كل مكلف من تحصيل الحد الادنى من المعرفة الشرعية التي تمكنه من عرض المعارف الجديدة النصية او الاستنباطية عليها وهو متيسر لكل انسان. هذا واجب عيني. ولا يجب على الانسان العمل بمعرفة نصية او استنباطية ليست اتساقية اي ليس لها شاهد ومصدق. وهذه هي الاتساقية الاستنباطية (الاجتهادية).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى