جوهر فتّاحي - الإفراط في التعلّم.. بين الفلسفة والعلم والحاسوب..

الإفراط في التعلّم، هل هو موجود؟ أم غير موجود؟ وإن كان موجودا هل هو أمر حسن؟ أم أمر سيء؟
أعرف أنّ الطّرح ملتبس وأنّ البعض سيجيب متعجّبا: بطبيعة الحال المزيد من التعلّم أمر حسن!
وسيقول البعض الآخر: إنّ الزّيادة في التعلّم لا تسمّى إفراطا وإنّ التعلّم عمليّة تراكميّة وكلّما زادت التعلّم حسن القرار!
المفاجأة أنّ الأمور ليست دائما هكذا!
تعلّمنا في الذّكاء الإصطناعي أنّه يوجد شيء يجب الإنتباه له جيّدا ويؤدّي إلى خطأ في التّقرير إسمه الإفراط في التّعلّم (overlearning) أو كذلك الإفراط في التّخصّص (overspecialization).
التعلّم في العلوم التّجريبيّة هو عمليّة معقّدة تهدف بالأساس لمعرفة الأشباه والأمثال وقياس الأمور بنظائرها. لكن يحدث أنّ تعلّم كلّ شيء عن أمر ما يجعل المتعلّم يعتقد أنّ كلّ التفاصيل التي علمها عن ذلك الأمر مهمّة لعمليّة القياس، حتّى إذا وقع بين يديه أمر جديد يشاهده لأوّل مرّة يجده مختلفا في تفاصيل كثيرة، قد تكون غير مهمّة لعمليّة القياس، فيحجم عن استعمال القياس وتكون النتيجة خطأ في التّشخيص. وقد يكون الأمر الجديد له تفاصيل مشتركة مع أمرين تعلّمهما المتعلّم، ولكلّ منهما تشخيص مختلف وعلاج مختلف، فيعجز عن تحديد التّشخيص الأفضل بينهما.
الإفراط في التعلّم، ويسمّى أيضا بالتعلّم عن ظهر قلب، علامته الحصول على نسبة نجاح تصل إلى 100% إذا اختبر الشخص -أو الحاسوب- في كلّ شيء سبق له رؤيته، ونسبة نجاح ضئيلة في ما لم يسبق له رؤيته، حتّى وإن كانت المسافة التي تفصله عمّا سبق رؤيته ضئيلة.
التفاصيل الكثيرة سلاح ذو حدّين. فهي قد تساعد في دقّة التّشخيص، ولكن أيضا قد تفسده، وقد تعطّله. كل الإحتمالات ممكنة.
في الذّكاء الإصطناعي هنالك تقنيات فعّالة للحدّ من الإفراط في التعلّم. لكن المشكل في العقل البشري. فهو معرّض لنفس الظّاهرة تماما. فالايغال في معرفة تفاصيل كثيرة عن أمر ما يفقد المتعلّم القدرة على التّجريد، والقدرة على التّقدير الصّحيح، والقدرة على تحديد هوامش الخطأ، والقدرة على فرز الأهم، عن المهم، عن غير المهم. ومعرفة الكافي من التفاصيل والضروري منها أمر في غاية الصّعوبة، وفي أحيان كثيرة مستحيل.
وكخلاصة، زيادة تفصيل ليست دائما أمرا جيّدا. فقد يفسد عليك التفصيل الزائد قياسا صحيحا، وقد يوقعك في قياس فاسد.
يبقى أن نعرف أنّ ظاهرة الإفراط في التعلّم سمة تهم العلوم التجريبيّة التي تتبّع المنهج البراغماتي والتي يكون فيها القرار يقوم على تحليل المعطيات فقط، ولا يهم العلوم الديكارتيّة.
ولكن يبقى الإفراط في التعلّم أفضل من الإفراط في الجهل في كلّ الحالات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى