حينما ودعت زوجها من وراء الباب عاودتها الأحاسيس التي مافتئت تستولي عليها منذ حين. أحاسيس مفزعة تبدأ صغيرة كعود الثقاب لايلبث لهيبه الضعيف أن يشعل كومة الحطب الجاف..وتشعر بالدوار الذي يتحول إلى صداع يشتد رويدا رويدا حتى لتحس بمطارق عنيفة تدق على صدغيها، وتفزع إلى الحبوب المسكنة المهدئات.
وتبقى في دوامة الألم ساعات،ولا تثوب إلى شئ من طمأنينة إلا بعد وقت طويل.كان مبعث ألمها شعورها أن زوجها يخبئ سرا يتعلق بامرأة،سرا يتبدى لها على نحو مبهم. ويتجسد ذلك الشعور أمامها فتكاد تلمسه بيديها ،ثم يتضاءل حتى يختفي،فتكذب ظنونها..وكم من مرة سألت قلبها الذي تؤمن به عن صدق مشاعرها، فيجيبها أجوبة تثير الريبة دون أن تحصل على نتيجة قاطعة.
لقد خفت حرارة قلبه التي عرفتها منه في السنين الأولى لزواجهما.وبهتت بشاشة وجهه.كان مستطار اللب أيام الخطبة،لايكف عن التغني بجمالها،ويغتنم الفرص ليسمعها كلمات الغزل الناعمة، فترن في أذنيها حلوة، منغومة ،لذيذة...تنساب إلى ثنايا قلبها الرقيق فتسبح في بحر متدفق من الأحلام الملونة البهيجة.ثم كان همه بعد الزواج استرضاءها. لم يكن يلتفت إلى كلام أمه تحذره، ولا إلى غمز أخواته ولمزهن :(الرجل الحق لايترضى امرأة ولا يستعطفها).(ليس هكذا كان أبوك).(الرجل الذي تحكمه امرأة).
وكم فرح يوم أهلّ المولود الأول، وكم تألم من قبل ذلك أيام حملها. خاف عليها من مخاطر الولادة. راقب صحتها يوما بعد يوم دون أن يبالي بسخرية نساء الأسرة وتضاحكهن به.
أما اليوم فأخذ يطالعها منه وجوم وشرود وتفكير مستغرق. أتشغله عنها امرأة ؟! من تلك التي استطاعت أن تلفت إليها بصره؟ ماشكلها؟ أجميلة فاتنة؟ أيفكر بزواج آخر؟!
وخفق قلبها بشدة.ونظرت إلى شكلها في المرآة نظرة تأمل... لقد تغيرت كثيرا، وترهل جسمها، فقدت ذلك القوام الأهيف. وأخذت خطوط دقيقة ترتسم على قسمات وجهها. ولكنها مع هذا لاتقصر بواجبه، تهيئ له الجو المنزلي الهادئ.... ليس له عذر في الالتفات الى أخرى إلا لنزوة تافهة. وانقبض قلبها بعد هذه الخيبات... وشعرت كأنها ورقة يابسة تريد أن تقتلعها رياح الخريف من أغصان الشجرة العتيدة.
واكتشفت ذات يوم أمرا خطيرا، وخمنت أنها وقعت على السر الخفي الذي أرّقها. حامت شكوكها حول الصيدلانية صاحبة المحل الأنيق على ناصية الشارع المجاور. وكان الذي دفعها إلى الشك أنها طافت مرة على صيدليات عديدة تسأل عن دواء لأمها فلم تجده، وقال لها الصيادلة : إنه دواء مفقود ونادر. ثم رجت زوجها أن يبحث عنه. ولشد مادهشت عندما أحضر الدواء سريعا من عند الصيدلانية الجارة،وكانت سألت الصيدلانية نفسها عن الدواء، فلم تجده عندها ..أو هكذا ادعت ..وإذن فلقد خبأت الدواء العزيز للأعزة فقط!
وأعادت شريطا مختزنا في ذاكرتها عرضته على شاشة ملاحظاتها بعناية واهتمام، فجاء شريطا سينمائيا وثائقيا فزعت منه، بكت طويلا بدموع غزيرة ... غرقت في همومها...عادت المطارق تدق على صدغيها وفوق رأسها. قلبها يعتصر،يضطرب، وجثم على صدرها كابوس كاتم وافتقدت الهواء. وقضت ليلة لم يغمض لها فيها جفن.. وكانت إذا أغمضت جفنيها من التعب لاتلبث أن تستيقظ من الخوف، وربما غلبها النوم فتهب فزعة تصرخ من حلم مخيف....تسقط من عمارة شاهقة ، أو تزل قدمها في بئر مظلمة بعيدة....أو يجرفها نهر ذو دوامة مخيفة، تحاول الخلاص منها فلا تقدر.
وفي غمرة الألم الذي لم تستطع أن تبوح به لزوجها والذي كانت تكتمه بحرص....في غمرة ذلك الألم قالت لها نفسها:ألا تكونين على خطأ! ألست على وهم! لماذا تعذبين نفسك! إنك تبنين آلامك على غير يقين. لماذا لايكون الدواء الذي اشتراه من عندها قد وصلها حديثا، أو ربما تذكرته عندما سألها هو، وكان غائبا عن ذهنها وقت سؤالك أنت! كل ذلك جائز ممكن.واستراح قلبها لمثل هذه الأفكار قليلا، واطمأنت طمأنينة غامضة غير مريحة، تلك الصيدلانية في تصورها امرأة فظيعة....وجهها لايسر الناظرات،وإن كان يعجب الناظرين...في عينيها شئ ما.. أهو المكر! أهو القوة الآسرة ! أهو الاحتيال! وفضلا على ذلك فهي امرأة متأنقة تنفق على ملابسها عن سعة، تعنى دوما بأخر صرعات (الموضة)، شكلها يثير الرجال...ولاتزال بكرا في إبان نضوجها...وهي وقد امتد بها الزمن قليلا تدرك مخاطر تقدم العمر...تنتظر القطار القادم، وتخشى أن يفلت منها ويتركها على رصيف المحطة.
ثم إن الخوف آت من هذا الزوج الذي أنهى من عمر الزمن أربعين خريفا، إنه يخطو في مدارج الخطر...يخطو حثيثا إلى عتبة المراهقة الثانية كما يقولون. وأحست برغبة شديدة في الإمساك برقبة الأفعى. تمنت لو تخنقها ، لو تهشم أنفها لو تفقأ عينيها الماكرتين، عيني الثعلب البري المتوحش الجائع الذي يفكر بحيلة للانقضاض على الديك السمين الجميل، يتربص به من بعيد، يتحين الفرص الملائمة...والديك الأبله المسكين غافل لايدري.
آه..لوتدري ماخبايا قلبه! مايدور في رأسه من أفكار....وبدأت تدرك الخطأ في حياتهما....الخطأ الذي أخذ يكبر ويظهر،ليس بينه وبينها من العمر غير سنة وبعض السنة. آه....ما أقصر عمر الزهور....سرعان ما تتفتح ثم تذبل...ثم تصفر...ثم تتكامش أوراقها الناضرة، وتتجعد تويجاتها البهية..فتمسكها اليد التي وضعتها في المزهرية وسقتها الماء وزينت بها المجالس ...تمسكها اليد ذاتها، وتلقيها بعيدا مع القمامة دون أدنى أسف، لتبحث عن زهور أخرى...أيعتقد أنها انتهت! فقدت نضارة الأنثى مع الأربعين! أيمكن أن يفكر هذا التفكير! ماأتفهه إذن.وقررت في استياء بالغ أن تفاجئه بأسئلتها....أن تضع نفسها على الحقيقة، فقد تعبت كثيرا بين الشك واليقين...وضاعت في التيه أربعين سنة كوامل.على أنه فاجأها قبل أن تفاجئه... قال لها عندما كانا على مائدة العشاء وهي تسأل نفسها كيف تدخل الموضوع: أتعرفين الصيدلانية! جارتنا على أول الشارع؟
وخفق قلبها بشدة...نظرت إليه بإمعان...كتمت أنفاسها. توجست الشر....وقالت متسائلة بسرعة البرق: ما بها؟
خطبها صديقي محمود
وانزاح حمل ثقيل عن كتفيها...أزاحته كلمة واحدة، فأشرقت أساريرها وهي تسمع تفاصيل الخطبة ومشروع الزواج. وشاركت بالحديث وطرحت أسئلة كثيرة بنفس منشرحة. ونامت تلك الليلة قرقرة العين، حلمت أحلاما كأحلام أيام الخطبة، ثم استيقظت على صباح بديع كصباحات الربيع، وشعرت براحة تامة، تشبه راحة مريض، أنهى فترة النقاهة بعد مرض طويل قاس.وحين ودّعت زوجها عند الباب في اليوم التالي أسمعته كلاما حلوا،وأرته وجها صافيا. ولما غاب عن ناظريها عادت فتساءلت من جديد: ألا يمكن أن تكون هناك امرأة أخرى غير تلك الصيدلانية، تقبع في زاوية بعيدة، تلعب معه لعبة لاتعرف مداها! وتساءلت: أتكون اليوم على أعتاب دوّامة جديدة! هكذا على مايبدو...
وتبقى في دوامة الألم ساعات،ولا تثوب إلى شئ من طمأنينة إلا بعد وقت طويل.كان مبعث ألمها شعورها أن زوجها يخبئ سرا يتعلق بامرأة،سرا يتبدى لها على نحو مبهم. ويتجسد ذلك الشعور أمامها فتكاد تلمسه بيديها ،ثم يتضاءل حتى يختفي،فتكذب ظنونها..وكم من مرة سألت قلبها الذي تؤمن به عن صدق مشاعرها، فيجيبها أجوبة تثير الريبة دون أن تحصل على نتيجة قاطعة.
لقد خفت حرارة قلبه التي عرفتها منه في السنين الأولى لزواجهما.وبهتت بشاشة وجهه.كان مستطار اللب أيام الخطبة،لايكف عن التغني بجمالها،ويغتنم الفرص ليسمعها كلمات الغزل الناعمة، فترن في أذنيها حلوة، منغومة ،لذيذة...تنساب إلى ثنايا قلبها الرقيق فتسبح في بحر متدفق من الأحلام الملونة البهيجة.ثم كان همه بعد الزواج استرضاءها. لم يكن يلتفت إلى كلام أمه تحذره، ولا إلى غمز أخواته ولمزهن :(الرجل الحق لايترضى امرأة ولا يستعطفها).(ليس هكذا كان أبوك).(الرجل الذي تحكمه امرأة).
وكم فرح يوم أهلّ المولود الأول، وكم تألم من قبل ذلك أيام حملها. خاف عليها من مخاطر الولادة. راقب صحتها يوما بعد يوم دون أن يبالي بسخرية نساء الأسرة وتضاحكهن به.
أما اليوم فأخذ يطالعها منه وجوم وشرود وتفكير مستغرق. أتشغله عنها امرأة ؟! من تلك التي استطاعت أن تلفت إليها بصره؟ ماشكلها؟ أجميلة فاتنة؟ أيفكر بزواج آخر؟!
وخفق قلبها بشدة.ونظرت إلى شكلها في المرآة نظرة تأمل... لقد تغيرت كثيرا، وترهل جسمها، فقدت ذلك القوام الأهيف. وأخذت خطوط دقيقة ترتسم على قسمات وجهها. ولكنها مع هذا لاتقصر بواجبه، تهيئ له الجو المنزلي الهادئ.... ليس له عذر في الالتفات الى أخرى إلا لنزوة تافهة. وانقبض قلبها بعد هذه الخيبات... وشعرت كأنها ورقة يابسة تريد أن تقتلعها رياح الخريف من أغصان الشجرة العتيدة.
واكتشفت ذات يوم أمرا خطيرا، وخمنت أنها وقعت على السر الخفي الذي أرّقها. حامت شكوكها حول الصيدلانية صاحبة المحل الأنيق على ناصية الشارع المجاور. وكان الذي دفعها إلى الشك أنها طافت مرة على صيدليات عديدة تسأل عن دواء لأمها فلم تجده، وقال لها الصيادلة : إنه دواء مفقود ونادر. ثم رجت زوجها أن يبحث عنه. ولشد مادهشت عندما أحضر الدواء سريعا من عند الصيدلانية الجارة،وكانت سألت الصيدلانية نفسها عن الدواء، فلم تجده عندها ..أو هكذا ادعت ..وإذن فلقد خبأت الدواء العزيز للأعزة فقط!
وأعادت شريطا مختزنا في ذاكرتها عرضته على شاشة ملاحظاتها بعناية واهتمام، فجاء شريطا سينمائيا وثائقيا فزعت منه، بكت طويلا بدموع غزيرة ... غرقت في همومها...عادت المطارق تدق على صدغيها وفوق رأسها. قلبها يعتصر،يضطرب، وجثم على صدرها كابوس كاتم وافتقدت الهواء. وقضت ليلة لم يغمض لها فيها جفن.. وكانت إذا أغمضت جفنيها من التعب لاتلبث أن تستيقظ من الخوف، وربما غلبها النوم فتهب فزعة تصرخ من حلم مخيف....تسقط من عمارة شاهقة ، أو تزل قدمها في بئر مظلمة بعيدة....أو يجرفها نهر ذو دوامة مخيفة، تحاول الخلاص منها فلا تقدر.
وفي غمرة الألم الذي لم تستطع أن تبوح به لزوجها والذي كانت تكتمه بحرص....في غمرة ذلك الألم قالت لها نفسها:ألا تكونين على خطأ! ألست على وهم! لماذا تعذبين نفسك! إنك تبنين آلامك على غير يقين. لماذا لايكون الدواء الذي اشتراه من عندها قد وصلها حديثا، أو ربما تذكرته عندما سألها هو، وكان غائبا عن ذهنها وقت سؤالك أنت! كل ذلك جائز ممكن.واستراح قلبها لمثل هذه الأفكار قليلا، واطمأنت طمأنينة غامضة غير مريحة، تلك الصيدلانية في تصورها امرأة فظيعة....وجهها لايسر الناظرات،وإن كان يعجب الناظرين...في عينيها شئ ما.. أهو المكر! أهو القوة الآسرة ! أهو الاحتيال! وفضلا على ذلك فهي امرأة متأنقة تنفق على ملابسها عن سعة، تعنى دوما بأخر صرعات (الموضة)، شكلها يثير الرجال...ولاتزال بكرا في إبان نضوجها...وهي وقد امتد بها الزمن قليلا تدرك مخاطر تقدم العمر...تنتظر القطار القادم، وتخشى أن يفلت منها ويتركها على رصيف المحطة.
ثم إن الخوف آت من هذا الزوج الذي أنهى من عمر الزمن أربعين خريفا، إنه يخطو في مدارج الخطر...يخطو حثيثا إلى عتبة المراهقة الثانية كما يقولون. وأحست برغبة شديدة في الإمساك برقبة الأفعى. تمنت لو تخنقها ، لو تهشم أنفها لو تفقأ عينيها الماكرتين، عيني الثعلب البري المتوحش الجائع الذي يفكر بحيلة للانقضاض على الديك السمين الجميل، يتربص به من بعيد، يتحين الفرص الملائمة...والديك الأبله المسكين غافل لايدري.
آه..لوتدري ماخبايا قلبه! مايدور في رأسه من أفكار....وبدأت تدرك الخطأ في حياتهما....الخطأ الذي أخذ يكبر ويظهر،ليس بينه وبينها من العمر غير سنة وبعض السنة. آه....ما أقصر عمر الزهور....سرعان ما تتفتح ثم تذبل...ثم تصفر...ثم تتكامش أوراقها الناضرة، وتتجعد تويجاتها البهية..فتمسكها اليد التي وضعتها في المزهرية وسقتها الماء وزينت بها المجالس ...تمسكها اليد ذاتها، وتلقيها بعيدا مع القمامة دون أدنى أسف، لتبحث عن زهور أخرى...أيعتقد أنها انتهت! فقدت نضارة الأنثى مع الأربعين! أيمكن أن يفكر هذا التفكير! ماأتفهه إذن.وقررت في استياء بالغ أن تفاجئه بأسئلتها....أن تضع نفسها على الحقيقة، فقد تعبت كثيرا بين الشك واليقين...وضاعت في التيه أربعين سنة كوامل.على أنه فاجأها قبل أن تفاجئه... قال لها عندما كانا على مائدة العشاء وهي تسأل نفسها كيف تدخل الموضوع: أتعرفين الصيدلانية! جارتنا على أول الشارع؟
وخفق قلبها بشدة...نظرت إليه بإمعان...كتمت أنفاسها. توجست الشر....وقالت متسائلة بسرعة البرق: ما بها؟
خطبها صديقي محمود
وانزاح حمل ثقيل عن كتفيها...أزاحته كلمة واحدة، فأشرقت أساريرها وهي تسمع تفاصيل الخطبة ومشروع الزواج. وشاركت بالحديث وطرحت أسئلة كثيرة بنفس منشرحة. ونامت تلك الليلة قرقرة العين، حلمت أحلاما كأحلام أيام الخطبة، ثم استيقظت على صباح بديع كصباحات الربيع، وشعرت براحة تامة، تشبه راحة مريض، أنهى فترة النقاهة بعد مرض طويل قاس.وحين ودّعت زوجها عند الباب في اليوم التالي أسمعته كلاما حلوا،وأرته وجها صافيا. ولما غاب عن ناظريها عادت فتساءلت من جديد: ألا يمكن أن تكون هناك امرأة أخرى غير تلك الصيدلانية، تقبع في زاوية بعيدة، تلعب معه لعبة لاتعرف مداها! وتساءلت: أتكون اليوم على أعتاب دوّامة جديدة! هكذا على مايبدو...