قصة شرفة الأميرة ( إميليا باردو باثان) ترجمة من الإسبانية: رينا غبريال

كانت أشبه بزنابق الماء وأروع مما يمكن للعقل أن يتخيله، فلم يُصِبْ قلم ولا فرشاة في نسخ صورتها، لما لها من جمال نقي و مثالي قد حباها به الله. جسد عذراوي لؤلؤي و كأنه مكون من بتلات زهرة الشاي و انعكاسات لؤلؤة شرقية؛ شعرها ذيل حصان ينسدل كأنه أشعة شمسية ساقطة على ظهرها و خصلات ذهبية خفيفة تتطاير حتي حافة ردائها؛ الأنيق ذو الطبقات الطويلة الفاخرة، النبيل كالدم الأزرق الذي يسري في عروقها و الذي يظهر بلطف خلال جلدها الذي يشبه الستان؛ عينان بريئتان، طاهرتان، واسعتان زرقتهما تعكسان اللانهائية: فمٌ باسم، معطرٌ؛ أسنانٌ بلوريةٌ؛ أيادٍ طويلة، بيضاء كالقربان، مازالت تجمع العديد من الكمالات، و مازلتم بعيدين جدا عن مجمل ما يدعو للإعجاب بالأميرة كيروبينا.
هل قلت الإعجاب بها؟ أخشى أن تكون الجملة غير دقيقة، فنحن بصدد حقيقة جامدة، ليس بإمكان الأميرة كيروبينا أن تكون محطاً للإعجاب، نظراً لأنه لم يرها أحدٌ تقريباً، حتى وصل بعض خدمها إلى أقصى درجات الشك في وجودها. كان ذلك هو حال الملك، شاعراً بنوع من الإخلاص في تمجيد ابنته التي لا تشبهه في أي شيء (كانت المملكة ضخمة، محاربة، قوية، ومرهبة)، و جاءه هوس غريب جعله يفكر في أنه طالما العالم و البشرية مازالوا كتلةً من الشرور و الوحشية و الجرائم، فإن إنسانةً رقيقة و سمائية ككيروبينا يجب أن تُحفظ بعيداً وأن تكون أسمي وأرفع من مآسي الوجود. لم يرد الملك أن يضعها في دير لأنه علاوة على إقناعها بالعودة لزيارتها و الحديث معها كانت فكرة أن تعاني الأميرة من الكفارات و تقشف الجسد و أن المسوح الخشن سيضايقها منفرة للغاية بالنسبة للأب. ولكي يعزل و يحفظ كيروبينا دون أن يحرمها من الرعاية والهبات التي كان يمنحها إياها ببزخ، فنقلها وهي لازالت طفلة من غرفتها إلى برج عالٍ مشيد خصيصاً لها و متصل بالقصر من خلال ممر غامضٍ مزخرف.
هذه العادة كان الملوك يقتبسونها من القصص لحبس أميراتهم في أبراج، و القصائد القديمة تحكي حالات مؤسفة كدلجادينا، المائتة من العطش؛ لكن هذا الملك في قصتنا بدل من أن يحبس ابنته بهدف إساءة معاملتها كان عازماً أن يقترح على أحد المكرسين أن يغلق عليها بالمفتاح داخل بيت القربان

: أليست جديرة بأن تلجأ إلى الله الذي تعبده ليحميها من الغوغاء الدنيوية الدنسة.
كان برج كيروبينا مصنوع من أغلى أنواع الرخام واليَشْب الأخضر و من أجود الأخشاب العطرية و الغير قابلة للتآكل حيث لا ينخر سوس. استنفذ الفنانون خيالهم و براعتهم في حِلْيَته الداخلية، فكانت كل حجرة و غرفة آيةً في الروعة و الفخامة و الذوق الرفيع. بدءًا من الحمام، كل شيٍء مغطى بزجاج من فينيسيا، الذي يحاكي شلالات قزحية اللون ماسية تنهمر في حزمة، أيضًا هناك صدفة ضخمة من الزجاج بزخرفة مموجة على شكل شعاب مرجانية و صَدَف، وصولاً إلى غرفة الملابس حيث كانت الأميرة تمضي أمسياتها، فكانت تكتسي بشرائط ذهبية منحوتة و مطلية، عليها لوحات مصغرة جميلة من العاج، كان كل شيء كحلم متحقق، و لكنه كان حلم للتهذيب و كذلك شعر أيضًا، و كأن ملكة الحوريات لم تطلب من كائناتها الأسطورية أن ينشئوا مسكنًا آخر لهم غير بيت كيروبينا.
كان أفضل ما تحبه الأميرة. الخادمات الماهرات في العزف و الغناء و الرقص، كان يقيمون لها الحفلات، و يرقصون الزامبرا لتسليتها؛ و طهاةٍ يبتكرون لها حلوى و مقبلات و مشروبات للأيام الحارة؛ خادمات مطيعات حائكات و خياطات يدهشنها يوميًا بملابس فاخرة أنيقة و فريدة؛ فرداؤها الأبيض يبدو وكأنه مصنوع من بتلات السوسن؛ مجوهراتها و قلائدها كانت أشبه ما يكون بأشعة الشمس وأقرب ما يمكن لدموع الشفق. و رغم ذلك، كانت الأميرة مستخفة و تشعر بضجر عميق متزايد حيال كل البهاء و المعقد للمتع التي لم يتم التوقف عن ابتكارها لها، كانت فقط تختبر البهجة حينما كانت تخرج إلى الشرفة الملحقة بغرفتها.
من المؤكد، أن تلك الشرفة كانت نموذج للشرفات، مزخرفة بأعمدة من المرمر، رقيقة للدرجة التي تحوي بهشاشتها، تنساب على أقواسها و أحرف أعمدتها زخرفة يونانية خالصة، مقلدها نحات كبير من الإفريز اليوناني.
الدرابزين لم يكن مبطن ولا مجدداً لذا لم تكن الأميرة تشعر بالارتياح عندما تستند على هذا الرخام البارد. كانت تلتف حول أعمدتها بتزيين بارع ، غصن كرمة ذو أوراق مخملية و أزهار وردية تفوح منها رائحة اللوز.
كانوا يسحبون كرسي كيروبينا إلى الشرفة ، حيث كانت تمضي الأميرة الساعات المهدَرة، دون أن تمل أبدًا، مثبتة عينيها من الشرفة على ما يمكن أن يمتد إليه بصرها. أولهم، حدائق القصر المنفصلة، بخط أشجارها الكثيف، تماثيلها البيضاء، بحيراتها العاكسة كالمرايا و هناك خلف الأسوار المنيعة التي تنتشر حول تلك الحدائق، توجد ضاحية المدينة العظيمة حيث هناك حى فقير و أكواخ منخفضة و بساتين محاطة بعِصِيٍّ و أسوار منخفضة. لم يكن اهتمام الأميرة مُنْصَبًا على الحديقة الملكية، بل على النقيض، لم تكن تحوِّل أنظارها الفضولية عن الحى الفقير. و في الواقع فهو الجديد و الغير مألوف بالنسبة لها، أنه هناك توجد، على هذا البعد، تفاصيل بغيضة مخفاة، و ما يظهر من هذه الحياة فقط إلا ما هو خلاب و متنوع و دافئ. كانت تقطع الشارع عربات تجرُّها حمير مُثْقَلة بزهريات الورود أو سلال الخضراوات و حافلات و فِرَقِ عزفٍ كبيرة. وكانت النسوة يتجولن ويتجادلن وينطلقن في طريقهن ويهمسن إلى خدمهن في وسط الشارع. وخلف الجدران حيث حقول الكرنب و الفاصوليا ومساءً تحت ظل شجرة التفاح الملتوية كان يمر المتحابون سويًا متشابكي الأيدي. كانت كيروبينا مستغرقة في التفكير و حزينة بل و متمردة و تهمهم: " إنهم أحرار، يا لها من حياة سعيدة ! "
في النقطة الأقرب إلى مرمى بصرها، كانت هناك ورشة لحداد أشبه بمارد يعمل دون توقف. لم تكن تسمع ضوضاء المطرقة على السندان، لكن كانت تتعرف على هالة الشرار التي ترتفع لتحيط به كغيث مضيء. وصل توق كيروبينا لدخول تلك الورشة حد الهوس. حيث بدا لها عمل ذاك المارد شيء خارق. ففي جهلها لحقائق الأمور، لم تكن تعلم فظاظة عمل الحداد. ماذا يعمل ليرفع هذه الشرارات الذهبية؟ لِمَ ليس مسموحاً لها أن تنزل و تتجول في هذا الحي المتواضع و أن تجوب العالم الواسع؟
ذات يوم، توسلت إلى أبيها كي تخرج من البرج. فأسكتها غضب أبيها و توعّدها بالطاعة. و لكن في تلك الليلة نزلت كيروبينا صامتة و حذِرة، حيث ربطت أحزمتها ذات الستان التركي إحداها بالأخرى المرنة منها بالقوية، و ربطت العريف بدرابزين شرفتها السحرية المعطرة، و دون أن تخاف شيئًا، تسلقته، ممسكة به، ثم تركت نفسها تنزلق ببطء، و هي تنعطف قليلاً ببراءة طفل يشعر بالأمان. وصلت إلى الأرض، ثم أفرجت قبضتها أخيرًا وقفزت، و بدأت تمشي ناحية السياج بإتجاه مكان ورشة الحداد، وكان قلبها ينبض من السعادة. كان السياج عبارة عن حاجز؛ و هو ما كانت كيروبينا قد توقعته؛ كانت قد أخذت مبارد أظافرها المصنوعة من الذهب و الحديد من تسريحتها و بردته بهدوء و حماس و في النهاية رأت طريق الحاجز و استطاع جسمها النحيل ان ينزلق خارجه. يا لها من متعة!
وطأت الوحل و النفايات لتصل إلى ورشة الحدادة. مهدَدة. كان الحداد القوي يؤدي مهمته اليومية. عندما رأى الفتاة التي تنظر إليه باهتمام مثير تشاهد عمله و مهنته الغريبة، فابتسم لها العملاق و تقدم ماداً يديه السوداوين المتسختين و احتضنها فجأة بقوة.
أما الملك الثائر غضبًا، فبحث عن الأميرة دون جدوى. لأنه أعتقد أنها مأسورة من قِبل أمير عاشق صفيق، و أعلن الحرب عليه و لم يشك أنها على بعد خطوتين من قصره. كيروبينا، المغطاة بالخرق، المشوبة بالدخان، المُساء معاملتها، المعرضة للخوف و الخجل لتدني حالتها، كانت تشاهد النيران تلتهم درع زوجها الهمجي. وهكذا نالت الأميرة حريتها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى