(9)
خفقُ الأنفاس
نوستالجيا
أنا كائن نوستالجي.. أفضِّلُ شوكَ الماضي على حريرِ الحاضر.. كيفَ تذكِّرني بالماضي وأنت غير قادر على إرجاع لحظة واحدة منهُ؟ لماذا تعذِّبني بلفتةٍ للوراءِ وبنداءٍ على حياةٍ لن تعود؟ ألا تعرفُ أنكَ تحيلني بهذه اللفتةِ وبهذا النداءِ الأصم شجرةَ ملحٍ لا تقربها العصافير؟ إذا قالَ ناظم حكمت (أن أجمل الأيام تلك التي لم تأتِ بعد) فأنا أنقضُ كلامه الرومانسيَّ العذبَ هذا وأقولُ إن أجملَ الأيام تلكَ التي ذهبتْ بلا عودة..
أنا كائن نوستالجي كلَّما كبرتُ كلَّما ازددتُ طيشاً.
******
شعراء الظل
البشرُ الهامشيُّون هم الأكثرُ هشاشةً ورقةً وعفويَّةً على تطبيقات واتساب وفايبر، المرأة التي كنتَ تظنُّها قاسيةً أو متسلِّطةً والتي أرهقتْ الرجالَ بصدودها وعنفوانها تصبحُ شاعرةً رقيقةً وامرأةً أخرى على واتساب في رسائلها الصباحيَّةِ لجارتها أو صديقتها.. في كلِّ كلمةٍ بسيطةٍ تقولها.. مرهقة.. اشتقتُ لكِ.. كأنَّ كلامَها ترجيعاتُ موجةٍ عاشقة أو أنَّاتُ محارةٍ في محيط، الرجالُ الأشدَّاءُ المتجهِّمون يصبحون عشَّاقاً قدامى و(جنتلمانات) حقيقيِّين وهم ينقرون بأصابعهم الغليظةِ شاشاتِ هواتفهم من أماكن بعيدة، ويتركون رسائلَ قصيرةً صادقةً وخارجةً من القلبِ يحملها رنينٌ مباغتٌ وناعمٌ إلى مساءات نسائهم. كأنَّ التخاطبَ عن بُعد يصفِّي أرواحَ البشَر من الشوائبِ والنرجسيَّة.
********
فوضويَّةُ القراءة
نادراً ما كنتُ أتركُ الرواياتِ في المنتصف، لم يحدث ذلك تقريباً معي في الماضي حتى لو بلغتْ صفحاتُ الرواية 700 صفحة، ولكنني في الفترةِ الأخيرةِ تركتُ الكثيرَ من الكتب في المنتصف، روايات، دراسات، دواوين شعر وغيرها، عشرات الكتب الالكترونية والورقية، لا أعرفُ السبب، كأنهُ هروبٌ من النهايات، سواء كانت سعيدةً أو حزينةً، أو بحثٌ أبديٌّ عن فسحِ التأمُّلِ في عالمِ المادة، ولكن لكي تقرأ فأنتَ بحاجةٍ إلى الإطاحةِ بناقوسِ القلقِ الوجودي الذي يسكنُ أضلاعَكَ إلى هاويةٍ منسيَّةٍ، هكذا تركتُ رائعة الكاتب الأمريكي الشهير همنغواي (وداعاً للسلاح) بعد مئة صفحة لأقفز إلى قراءة بعض كتابات جان جينيه وبورخيس وهنري ميلر، منهم انتقلتُ إلى كتاب (اللاطمأنينة) لبيسوا ثمَّ إلى عوالم كافكا الكابوسيَّة.. فجأةً وجدتُ نفسي مشغوفاً بالشاعرين العراقي حسب الشيخ جعفر والفارسي المتصوِّف فريد الدين العطَّار، أنا قارئٌ لا منهجيٌّ، أو صرتُ قارئاً لا منهجياً، حتى أنني أغلقتُ روايةَ (عندما بكى نيتشة) للكاتب الأمريكي إرفين د. يالوم قبلَ نهايتها بقليل رغمَ تأثري وإعجابي الكبيرين بها وأعدتُ قراءةَ المجموعة القصصية الرائعة (الخيمة) للكاتب المغربي المبدع محمد شكري وصوتي الداخلي يقول: أريدُ أن أسكنَ إحدى روايات أو قصص مجنون الورد هذا.. أو أسكنَ إحدى الأغاني المغربية إلى الأبد.. كم أنتَ جميلٌ ومختلفٌ يا محمد شكري.
********
القدس
لا أذهبُ إلى القدسِ كثيراً.. أذهبُ كلَّما اشتدَّ شوقي إلى السماءِ.. كأنَّ الله أقربُ إلى القدسِ من بقيَّةِ الأرضِ.. ثمَّةَ حنينٌ لشيء ما يرتطمُ بقلبي أنَّى توَّجهتُ.. ثمَّة أنبياءٌ غيرُ مرئيين يسيرون في الطرقاتِ ويطرحونَ السلامَ على العابرين.. وخروجٌ من هذا الوقتِ إلى وقتٍ آخر.. أكثر جمالاً واتِّساعاً.. في القدسِ يتذكَّرُ كلٌّ منا أُمَّهُ وحبيبتَهُ المنسيَّةَ.. ثمَّةَ كلُّ ما يحنُّ إليهِ شاعرٌ وعاشقٌ وقدِّيسٌ ومجهولٌ.. هواءٌ ناصعٌ.. أحجارٌ معجونةٌ بدمِ البشرِ الغابرين.. أقمارٌ مائية على الأرض.. ترابٌ مجبولٌ بهالات الضوء.. أشجارٌ عاشقةٌ.. كلُّ شيء تقريباً.. وشوقٌ مضاعفٌ للسماء.
********
اعتراف
أحياناً أشكُّ بأني كتبتُ قصيدةً حقيقيَّةً واحدةً.. ربمَّا كتبتُ شيئاً يشبهُ التمويهَ النفسيَّ.. كأني أكذبُ على أنايَ وعلى الآخر.. أو كلَّما حاولتُ أن أغوصَ في نصِّي لا أجدُ في جوَّانيتهِ البوح الحقيقي الخبيء في القلب منذ الطفولة.. لا أعثر على الاعترافِ البريءِ الذي يعبِّرُ عني كإنسان وكشاعر..
القصيدةُ كتبتْ نفسَها بنفسها إذن.. وأنا مجرَّدُ ذلكَ القروي الذي لا علاقةَ لهُ بالشِعر.. والذي تشتعلُ روحُهُ بوجعٍ غامضٍ.
********
هذه التفاصيل الصغيرة جداً ..جداً .. لامرأة تحملُ طفلتها التي لا تتجاوز السنتين بحمَّالةٍ قماشيَّةٍ ملوَّنةٍ على صدرها وهي تمسكُ بكلتا يديها روايةً من رواياتِ البيست سيلر وتتصفَّحها بشغفٍ سريع وهي تنظرُ في ساعة اليد مرَّة وإلى الطفلة الشقراء مرَّة أخرى، هذه التفاصيلُ الصغيرةُ جداً.. جداً.. ليتني أملكُ الأعصاب الباردة والنفس الكافي لكتابتها.
*
(10)
بينَ الحيرةِ والشغف
مراوغة مجازية
قبل عدة أيام سألتني مخرجة وصحفية فلسطينية كبيرة عن ابتعاد الشعر الفلسطيني عن السياسة والقضيَّة الأم، وعن أسباب هذا الابتعاد، في الحقيقة فاجأتني بهذا السؤال الصعب والمحيِّر في آن، أجبتها بإجابات كثيرة غير مقنعة تبدو أقربَ إلى الحجج الواهية منها إلى أي يقينيَّات أخرى، قلتُ في البدايةِ أنني من وجهةِ نظرِ النقدِ الموضوعيِّ شاعرٌ غير سياسيٍّ ينحو منحى جماليَّاً أو عاطفيَّا أو رمزيَّاً في أغلبِ الأحيانِ ويبتعدُ قدر المستطاع عن الهموم الشائكة.. بغض النظر كانت سياسيَّة أو غير ذلك، أهتمُّ أحياناً بجمالية الفكرة الإنسانيَّة أو أكتبُ من منطلقِ مذهبِ الفنِّ للفن، أحيانا تطغى روحُ المأساةِ والخسارةِ على كتابتي الشعريَّة على حدِّ تعبير الشاعر والناقد الأردني عمر شبانة، مع مزجي لمفاهيم حبِّ الوطن بالنوستالجيا العميقة وعذاباتها، تحدثتُ عن انتهاء زمن الشعارات والخطابية وصراخ الايديولوجيا الأجوف واللغة المباشرة وفكرة الفن للفن واختلاف أساليب الكتابة والتلقي والموضوعات وقلتُ أن الوقتَ تغيَّر وأساليب كتابة الشِعر أيضا تغيَّرت وما كان يصحُّ في الماضي لا يصحُّ الآن وعلى القصيدةِ الجديدة أن تتخلَّصَ من أسمالِ الشعارتية والتقريريَّة والصراخِ الأيديولوجي الأجوف الذي يعيقُ مشيها، وذكرتُ أنَّ بابلو نيرودا ولوركا شاعران سياسيَّان حتى في أشعار الغزل التي كتبوها لحبيباتهم.. ولكني لم أقل لها الحقيقة التي انتظرتها هي مني، والتي أهجس دائماً بها بأن سبب ابتعاد الشاعر عن الصراعِ السياسي يرجع إلى أسباب كثيرة ومتشعبة، من أهمها تركيبته الروحية الهشة والقلقة وعدم تصالحه مع الأشياء من حولهِ وانكساره الأبدي على ذاتهِ المتنافرة والمسكونة بشجاراتها الداخلية، هو يريدُ استثمار لحظات هدوء قليلة من أجل الكتابة والتأمل.
محمود درويش في الفترة الأخيرة فهمَ معادلة القصيدة الصافية واتجهَ نحو الآخر البعيد والمختلف ونحو العالمية من خلال قصيدة جديدة خالية من ضجيج السياسيِّ والأفكار المسبقة والبساطة، تشيرُ إلى صراع مرير وهيَ تشرحُ وجعَ الإنسانِ الحديث، من دونِ تكرارِ لازمة معيَّنة، بل تكفي الإشارة بمجازٍ خفيٍّ إلى الموضوع.
********
عبد الوهاب البياتي
في الثالث من آب عام 1999 رحل الشاعر العراقي المبدع عبد الوهاب البياتي وأظنه كان يوم أربعاء أيضا.. أحببت البياتي حبا روحيا وانشددت أكثر للسياب ولكن شيئا ما في قصيدة البياتي جعلني أتعاطف معها.. السياب في كلِّ استدعاءاته للمرأة أو تبرُّمهِ بمرضهِ كان يبكي بانفعال وغضب بينما البياتي في كلِّ تجليَّاتِ حبِّهِ كان ينتحب بأناقة وزهوّ وكبرياء، مرة سألت الشاعر الكبير سميح القاسم عن الفرق بين البياتي والسياب فقال لي أن البياتي طوَّر أكثر في أساليب كتابة القصيدة العربية الشيء الذي لم يتح للسياب لقصر حياته معأنه كان أكثر موهبة واحتراقا بنار الشعر ولكنه مات في أوج شبابهِ وعنفوان قصيدتهِ.. البياتي يشبه محمود درويش في نقطة مهمة جدا، أنه لم يكتسب أهميته الشعرية إلا في مرحلتهِ الشعرية المتقدمة أي أن دواوينه المبكرة برأي النقد لا تنطوي على اجتراح تغيير درامي وحقيقي أو زعزعة جذريَّة في بنيةِ الشعر العربي حينذاك.
ماذا يبقى من البياتي اليوم؟ يبقى منه كل شيء، خصوصاً الشغف الفطري بالحياةِ وجماليات النحيب الإنساني في كل ما كتبَ بدءاً من أواخرِ الستينيات حتى رحيلهِ.
***
الفيسبوك على حسناته يشكِّلُ دفيئة لابتذال العلاقات الإنسانية العميقة والحقيقيَّة بنظري، وأحيانا يعمل على هدمها في سبيل الترويجِ لقيم زائفة ونفاق اجتماعي ملوَّن، لذلك أحافظ على المسافة بيني وبين كاتبي الأثير وشاعرتي الأجمل.. من فرطِ عشقي لهما أبقيتهما خارجَ متاهتي الزرقاء هذه.
***
أصبحنا نقيس حياتنا بهذهِ المتاهة الكونيَّة (الفيسبوك).. نضبط حيواتنا على توقيتِ ساعةٍ وهميَّة زرقاء منذورةٍ للأرق، نتركُ (لساعات قليلة) صفحاتنا / ممالكنا الافتراضيَّة التي شيَّدناها من رمال التخييل ونحنُ ننظرُ إلى الوراء ملهوفينَ بأعيننا الداخلية، نعودُ بعدَ منتصفِ الليلِ على عجلٍ من سهرةٍ أو فرَحٍ عائليٍّ أو قدَرٍ طارئٍ لنغرق أكثر في دوَّامة العبث واللا جدوى، ننامُ متعبينَ حيارى ونصحو بقلوبٍ مشدودةٍ إلى سرابِ اللايك.
***
في أوائل التسعينيات كنا مجموعة من التلاميذ والأصدقاء وقد جمعتنا مناسبة مع أحد أساتذتنا في الأدب العربي آنذاك، فطلب منهُ أحدُ الحاضرين أن يذكر له أغزل بيت قالته العرب، تردَّد قليلا، أخذ بعدها بإلقاء أبيات لامرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة، ولكني بعفويَّة
ذكَّرتهُ ببيت أبو صخر الهذلي الذي يقولُ فيه:
وإني لتعروني لذكراكِ هزَّةٌ كما انتفضَ العصفورُ بلَّلهُ القطرُ
فردَّدهُ وسط قهقهات وسخرية البعض، منذ ذلكَ الحين لا أحد يعرفهُ سوى بلقب (أبو العصافير).. قبلَ أيام التقيتهُ ضاحكا وذكرتُ له قصَّة بيت أبو صخر الهذلي القديمة، وقلتُ لهُ بسيطة أستاذ.. يعني عصافير أحسن من كلاب وضباع ومن أي شيء آخر، آسف لأني ورَّطتك.
***
صحَّحتُ صباحَ اليوم بيتاً من الشعر القديم نشرتهُ احدى الصديقات الشاعرات.. من غير أن أبحث في جوجل أو في المراجع الأصليَّة، سليقتي العروضية هي التي دلَّتني إلى الصيغة الصحيحة.. طبعا البيت هو جزء من أغنية نُقلت ولُحنت على خطأ في الوزن.. والذي نقلها نسي أو تناسى أن جزءاً حيويَّاً هامَّاً من قيمة شعرنا العربي وإعجازهِ يكمنُ في موسيقاه وبحوره الشعرية التي يتفوَّق برنينها على شعريَّات عالمية أخرى، نتذكَّرُ قصة الديوان الأخير لمحمود درويش وعشرات المقالات الغاضبة التي كُتبت عن موضوع الخلل الوزني فيه، والضجة والجدل اللذين أثيرا حولَ بعض السقطات والهنات العروضية التي لم يكن الشاعر مسؤولا عنها.. بل هي نتيجة تسرع الناشر من غير تسليم الديوان لمراجعته عروضيا، كانت هناك كلمات في الهامش لم يلتفت اليها أحد، وضعها محمود بخط صغير ريثما يرجعُ اليها وقتَ تنقيح النص النهائي.
الشعرية العربية القديمة بنظري شيء أقرب الى القداسة وهي منجز لا يتوجَّب علينا أن نبدِّل أو نغيِّر فيها.. إذ أنه من الاستحالة أن نتقبَّل فكرة أن امرئ القيس وأبا نواس وجرير وابن الرومي والمتنبي والمعري كانوا يلحنون في العروض والبحور الشعرية، مشكلتنا أننا لا نتعامل مع تراثنا باحترام عندما ننقلُ شيئاً منهُ أو نختار مادةً للأغاني، والكلام موجَّه بشكل خاص ل (مطربي الغفلة) فينا.
البيت هو لشاعر يُدعى الخُبز أَرزي
? - 317 هـ / ? - 939 م
نصر بن أحمد بن نصر بن مأمون البصري أبو القاسم.
شاعر غزل، علت له شهرة.
يعرف بالخبز أرزي ( أو الخبزرزي )، وكان أمياً، يخبز خبز الأرز بمربد
البصرة في دكان، وينشد أشعاره في الغزل ، والناس يزدحمون عليه ويتعجبون من حاله. وكان (ابن لنكك) الشاعر ينتاب دكانه ليسمع شعره، واعتنى به وجمع له (ديواناً). ثم انتقل إلى بغداد، فسكنها مدة، وقرأ عليه ديوانه، وأخباره كثيرة طريفة.
فلو كان لي قلبانِ عشتُ بواحدٍ وأفردتُ قلباً في هواك يُعَذَّبُ
ولي ألف وجه قد عرفتُ مكانه ولكن بلا قلبٍ إلى أين أذهبُ
أصبحَ صدر البيت الأول في الأغنية ومئات المواقع الالكترونية على هذه الصيغة
(لو كانَ لي قلبان لعشتُ بواحدٍ)
***
الشاعر، الناقد، المثقَّف العربي الذين كنا نأمل منهم أن يقدِّموا لنا طروحات ابداعية وفتوحات جديدة في الأدب والشعر والنقد والفن وغير ذلك.. خرب الفيسبوك بيوتهم وجعل منهم مهرِّجين وبهلوانات في حفلات نساء الفيسبوك التي يتقافزون فيها بلايكاتهم وتعليقاتهم مثل السناجب البائسة.. هذه تعرضُ فتنة ونعومة أنوثتها وهاتيك تتباهي بشَعرها الحريري وبظهرها المنكشف وتبرز حدائق أعالي صدرها وهذه كل خمس دقائق تنشر صورة بوضعيَّةٍ جديدة وسحرٍ مختلف، (لستُ ضدَّ هذا) ولكن نريد خلخلةً حقيقية في منجز الأدب العربي الراهن، نريد قراءة موضوعية عميقة وذات بعد رؤيوي حقيقي.
***
قبل أيام أصابني الذهول وأنا أشاهد موسوعة القذافي بمجلداتها الضخمة الفخمة تزِّين رفوف احدى المكتبات الجامعية العملاقة، والآن يكتملُ ذهولي وفجيعة الشِعر العربي بهذه الموسوعة التي يجب أن تدخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية، بينما تصلني أحيانا رسائل من شعراء حقيقيِّين يشكون فيها أنهم لا يملكون ما ينشرون به ديواناً واحداً بعدما أكلَ الشِعرُ زهور أعمارهم.
***
في التاسع عشر من آب، ذلك اليوم المغسول بشمس صيفيَّة عاشقة رحل شاعران أحببتهما، فيدريكو غارسيا لوركا وسميح القاسم.
بعد أكثر من خمسين سنة على رحيل شاعر إسبانيا العظيم كان سميح القاسم يناجي روح صنوه لوركا المختبئ في أحد بيوت غرناطة هربا من جندِ فرنكو:
فد.. ري.. كو
قنديل الحزن قمر
الخوف شجر
فانزل
أنا أعلم أنك مختبئ في البيت
مسكونًا بالحمى
مشتعلاً بالموت
فانزل
أنذا منتظر في الساحة
مشتعلاً بلهيب الوردة
قلبي تفاحة
***
عن العالم الدكتور أحمد زويل
كم نحن شعب جحود وناكر للجميل، كنا ننتظر الموت التراجيدي للعالم المصري العظيم لنتغاضى عن قيمته العلمية وعن كلِّ ما قدَّمه للانسانية من فتوحات علميَّة عظيمة وإنجازات غير مسبوقة، ونشكَّ باحترام وتقدير كل علماء ودول الدنيا له، كنا ننتظر موته لنفتح أعيننا الكليلة على عثرات قليلة في مسيرتهِ الأسطورية، من غير حتى أن نتقصَّى الحقيقة، أو نقرأ عنه أي شيء، ومن غير أن نستمع لحوار واحد من حواراته التي يفيض بها اليوتيوب، لكن أحمد زويل يبقى أحد العظماء العرب الناجحين الأفذاذ وذلك ليس باعترافنا نحن بل باعتراف العالم بأسره، كان أولى بنا أن نصمت حزناً وأن تغصَّ قلوبنا بالدمع على رحيلهِ.
***
تسكُّع
الشيء الوحيد الذي مارستهُ بكل شغف روحي ومحبة نابعة من أعماق قلبي ولن أندم عليه في النهاية هو التجوال المفتوح أو (التسكُّع) على حساب كل شيء آخر من التزاماتِ حياتي.. فالانسان لا يعيش مرتين وأنا لا أحب سردَ التفاصيل، لماذا؟ وأينَ ؟وكيفَ ؟ومتى؟
التسكُّع في نظري هو معنى الحياة الأجمل.. حتى ولو كان ضلالا.
***
لا أحد من كم الشعراء والكتَّاب الهائل عبر لايكات وتعليقات المدائح الأسطورية صحَّح عبارة تلك الشاعرة التي كتبت ( قريبةٌ من سماؤك).. بقي الخطأ كما هو لأيام ولأسابيع وبقيت هي في نظرهم (الشاعرة الرائعة.. الكبيرة.. المبدعة.. المتألقة)
***
ليالي رمضان والفيسبوك
وحدها ليالي رمضان هي التي تشعُّ من قاعِ الماضي كالنجومِ العصيَّةِ على الانطفاء.. كأنها يدٌّ تلوِّحُ لي من مجرَّةِ السنواتِ الماضية.. لا أعرفُ السبب.. لكنني تقريبا لا أتذكَّرُ من الماضي سوى التماعات هذا الشهر.. بكل ما فيها من شوق متغلغل في الشرايين.. ولأنَّ روحانياتِه متغلغلةٌ في أقاصي الروح فإن شغفي بالقراءةِ والتأمل يزداد نوعاً ما فيه مقارنةً بالشهورِ الأخرى.
ليالي رمضان تتقاطع مع تجربتي الفيسبوكيَّة بشكل مذهل.. هذه التجربة التي كانت على المستوى الشخصي مميزَّة ومدهشة ومن أغنى تجاربي، لا لأنك تستطيع أن تتواصل وتتفاعل عبر هذهِ الفسحة الزرقاء مع الآلاف من الأصدقاء وتتأثر بهم وكأنك تجلسُ معهم في غرفةٍ واحدة.. بل لمحاولتك بناء شبكة صداقات حقيقية عميقة مع أفراد حقيقيين يبعدون عنك آلاف الكيلومترات.. أصدقاء يسألون عنكَ إذا ما غبتَ لأيام قليلة أكثر ربما ممَّا يسأل أصدقاؤك الواقعيون... شكرا لتلك الصديقة والمثقفة الرائعة التي حثَّتني مرارا على دخول هذا الفضاء اللا متناهي الجمال والتأثير قبل انضمامي الفعلي إلى الفيسبوك بسنوات وأظن كان ذلك في عام 2007، والتي كانت قارئة ذكية لكل قصائدي وأتذكر أن اسمها كانَ كرمل وهي من فلسطينيي الأردن.
ليسَ رمضان فقط الذي يختلفُ.. الأشياء والقصائد أيضا تختلفُ فيه.. تصبحُ أكثر شفافيَّةً وصدقاً ووهجاً ولمعاناً.. حتى الإنسان اللا ديني وغير الصائم يحبُّ رمضان.. كأنهُ يصالحهُ مع نفسهِ، كأنَّ هذا الشهر هو نسيمُ الحب الإلهي الذي يهبُّ على صيفِ الوجودِ بأسرهِ.
***
غالبا ما تشكِّل الكتابة توازناً روحانياً لي أو تبديداً لطاقةٍ غيرِ مرغوبٍ بها إذا احتبست فانها لا ريب ستكون ضارَّةً.. عندما تحتبس قصيدةٌ ولا أستطيع كتابتها لأيامٍ أو ربما لأسابيع على الرغمِ من تمايلِ أطيافها في مخيِّلتي فإنني أُرهق نفسي بالأعمال الشاقة حول البيت.. أخلق عملا من لاشيءٍ.. أو أذهب مشياً على الأقدام في رحلة إلى وادي صفوريَّة الذي يبعد عن بيتي حوالي سبعة كيلومترات وأعود.. ثم أخلد بعدها للنوم وأنا منطفئ من التعب.
إذا احتبست القصيدة أياما فأنت ستقاتل الهواء من العصبية بلا سبب.. حتى من غير أن يقلِّد أحد الأشقياء الصغار صوتَ الكلب قريباً من نافذة نومك.. أو يمازحك أحد الأصدقاء باتصال عبثي وهو يرغي كلاما غير مفهومٍ.. أو يقضُّ راحتكَ معتوهٌ آخر عبرَ إتصال مزعج في السادسة صباحاً بصوتٍ يشبه زعيق صفارةِ الإنذار.
***
لماذا يصرُّ بعض(الشعراء) الذين لا يعرفون البحور والأوزان على كتابة القصيدة الموزونة؟ طالما أنك لا تعرف البحر الكامل من البحر المتوسط لماذا تكتب عشرة أسطر على إيقاع الكامل وفي السطر الحادي عشر وبطريقة فجائية من دون سابق إنذار تصدمنا بجدار نثري سميك وغير موزون..؟ يا رجل إرحمنا.. هلكتنا.. كرهتنا بالبحور والأوزان.. تسوق بنا وكأنك في سباق رالي متهور.. تخفض من الغيار الخامس إلى الأول فجأة وتفرمل وأنت في أقصى سرعة.
***
الرجل المحظوظ في نظري هو ذلك الذي لا تتهمه زوجته بأنه متزوج عليها في الفيسبوك.. لا تصرخ وتولول ما أن تلمح صورة احدى صديقاته على اللابتوب: هذه هي.. هذه زوجتك الجديدة.. فعلتها وتزوجتَ علي.. يقول لها أنها مجرد صورة على الصفحة الرئيسية وأن آلاف الكيلومترات تفصله عن صاحبتها. حينها كل فلاسفة العالم وأنبيائه لا يقنعونها بأنه ليس متزوجا عليها كما تظن.. فقط صورة صديقة عابرة لا غير من الممكن أن تفعل الأفاعيل.
***
(المثقف العربي) ما أن يجلس على كرسي تحرير صحيفة أو مجلة مثلا فسرعان ما تصبح مزرعته السعيدة التي ورثها عن أبيه وأمهِ وسائر أجدادهِ. هو بهذا لا يختلف عن الطاغية العربي بشيء.. طبعا من غير تعميم.
***
(شاعرٌ لم ينل حقه) أصبحت أسمع هذه العبارة كلَّ يومٍ تقريباً من شعراء أصدقاء وشعراء لا أعرفهم حتى.. عن أي حق تتحدثون؟ أنا متنازل عن كل حق.. ثمَّ أنني لا أحيا حياتي كشاعر.. أنا لا أجيد تمثيل دور شاعر وكثيرا ما أهرب من أناسٍ عرفوا بطريقة ما أنني أكتبُ.. ليس بسبب مفاهيم سائدة تجعل من الشاعر مجرد شخص خيالي مريض بالوهم في عالم مادي بل بسبب خجل وراثي.. ويحدثُ كثيراً أن أفرح عندما يرشقني من أتخاصم معه من الأصدقاء بعبارة ( انت شاعر كذابي ومش عارف من وين بتسرق الشعر).. لكن أن تكون عابرا في شارعٍ ما ويتقدم منك رجل ستيني بسعاله وتبغه ويطالبك أن ترتجل شعراً..( بدك تقولي بيت شعر.. مديح.. هجاء.. غزل.. مش عارف شو.. ما بتركك) فذلك هو مأزقي الحقيقي.. أختلق له ألف عذرٍ سدى وأجيبه بأني لست شاعر ارتجال ولست شاعراً شعبياً.. لست زغلول الدامور ولا غيره.. ( عرفت انك شاعر وبدك تكتبلي قصيدة الآن) شو هالعلقة.. كيف أخرج من هذا المأزق؟ حتى لو كان حقي جائزة نوبل فإنني متنازل عنه.( واذا ما أخذت حقي شو رح يصير يعني أو شو رح يتغير بالدنيا؟)
***
أجملُ ما في الجوائز الإبداعية تلكَ التي تأتي بلا انتظار.. وأن تذهب لمن هو خارج توَّقعات الفوز بها، هي لفتة مهمِّة للمبدع البعيد عن دوائر أضوائها الذهبية، ورسالة غامضة أو مفهومة ضمنا لهؤلاء الذين انتظروها بلا جدوى، حتى شارفت أعمارهم على الانطفاء.
***
صوتها وهو يلقي قصائدي كانَ عبق فلسطين وزهورها وأشجارها السماوية وخريفها الملوَّن الذي لم أبرأ من حنيني اليه بعد، جمعَ فلسطين كلُّها في هذه البانوراما الخريفيَّة الشعرية بكل بهاء وضوء وألق منساب.
***
في الزمن الافتراضي من المستحيل تصفية هذه الأطنان من النصوص الفيسبوكية لاستخراج ذرة ذهب شعرية واحدة.. هذا الشيء يشبه البحث عن محارة في محيط، ولأن الفارقَ ما بينَ مبدعي ومدَّعي الفيسبوك هو حرف واحد لا غير، أصبحَ المبدعُ الحقيقيُّ كمن يشكُّ بذائقتهِ.
***
رحيل الروائي والمترجم العراقي المبدع حسين الموزاني وحيداً في منفاهُ البرليني خسارةٌ لا تقاس ودمعةٌ لا تجفُّ، خلال معرفتي القصيرة بهِ كانَ مثالَ المثقَّف الحقيقي الذي لا يعنيه لغوُ الكلام ولا الجدلُ العقيم لفرط انشغالهِ بالبحث عن المعنى الأعمق والأكمل والأنقى للجمال والابداع والكتابة.. كأن لا نصيبَ للمبدعين في هذه الحياةِ سوى القلق الوجودي العظيم والوحشة الأبدية والرحيل في صمتٍ وحزنٍ بعيداً عن ترابِ الوطن الأم.
***
لا أعرف كيف من الممكن أن يكون شاعرٌ له تاريخهُ ومنجزهُ واسمه مجرَّدَ شبِّيح بغيض؟ على أساس أن جوهر الشعر هو الإيمان بالحريَّة والمحبة والجمال والقيم الإنسانية العليا، هل يجد في هذا الخراب السوريالي الجحيمي الكامل الذي يطبقُ على سوريا كلِّها ما يُقنعهُ ك (شاعر) أو ك (مثقف) أو ك (إنسان)؟
***
ليست القصيدة سوى لعنةٍ جميلة، وشاعرٌ لا يرتضي لعنتهُ لا يُعوَّل عليه.
***
هل سأشفى من حبِّ قصائد الشاعر السعودي الكبير علي الدميني؟ لا أظن، قبلَ عشرينَ عاماً تتبعت هذا الشاعر المبدع بأنفاس محبوسة، جذبتني قصيدته بصوتها السحري كما جذبت السيرينات عوليس، منذ قراءتي لشهادتهِ المعنونة ب (لستُ وصيَّا على أحد) في كتاب (أفق التحولات في القصيدة العربية) وقد ضمَّ شهادات شعرية لأبرز الشعراء العرب وذلك في منتصف صيف 2001، كانَ الدميني أحد أجمل آبائي الشعريين وأحد الشعراء الأفذاذ الذين تأثرت بهم، كان صوتهُ قادرا على الاحتفاظ بأصالتهِ ونقائه ونصاعتهِ وألقهِ الأسطوري حتى لو تردَّد في قلبي مئات المرَّات.. وذلك هو الإمتحان الذي يجب على القصيدة أن تجتازه في طريقها للجمال الصرف والمجاز الصافي.. قصيدتهُ انتصار للحب، للحريَّة، للإنسانية، قلبي الآن نجمة مضيئة وليس مجرَّة فحم مطفئة، قلبي نجمة مشتعلة، وشبه ممسوسٍ بغبارِ الجمال الفضيِّ، لأنَّ يد هذا الشاعر المتفرِّد هي التي حملت أحد دواويني برمادِ غواياته السريِّ وبعثرته في وجه الشمس.
***
يتمنَّى الشاعرُ أن لا يتبدَّى له خسرانُ الشِعر المبين في صراعهِ اليوميِّ مع المادة.
***
طريقُ الشِعر محفوفةٌ بطمأنينةِ القلقِ الجميل.
***
قد تمتدُّ يدُ أحدهم لمحو إحدى حبيباتهِ القديمات من على سبُّورةِ ذاكرتهِ.. بعد أن تسوِّل له نفسهُ بنعمةِ النسيان.. ولكن أن يفعل شاعرٌ هذا مع إحدى ملهماته الأثيرات.. فذلك هو يأسُ الشعراء الأعمق.
***
يحدثُ أن يتوقَّف شاعرٌ عن الكتابة أو يكتبَ صمتهُ الأبديَّ البليغَ كما فعلَ رمبو.. وبمنتهى البساطة.. لا من أجلِ شيءٍ وليسَ لأنَّ أحلامه انهارتْ.. أو لأنَّ حبيبةً أو فكرةً هجرتهُ، بل لأنهُ سقطَ في عجزٍ روحيٍّ عن تحويل ما في الحياةِ من أشياءٍ لا تُحصى إلى شِعر.. العجزُ أحياناً موتٌ مجازي، والشاعرُ يشبهُ تلكَ الآلةَ السحريَّةَ التي تحوِّلُ القبحَ إلى جمالٍ والقوَّةَ إلى هشاشةٍ والأرضَ إلى سماء.
***
الأُمُّ والشِعرُ.. هل من المصافاتِ أن يتقاسما نفسَ اليومِ؟
رغمَ كلِّ شيءٍ كانا أجملَ اختصاراتِ الحياةِ، حلمَ البداياتِ وشغفَ المُشتهى.
***
أن أصدرَ ديواناً ولا يُكتب عنه خبرٌ في الصحافة الأدبية أمرٌ طبيعيٌّ جدَّاً بالنسبة لي ولا يزعجني إطلاقاً.. وهو أفضل بمليون مرَّة ممَّا يقعُ فيهِ الكثيرون من سقطات قويَّة.. كأن يكتب أحدهم خبراً عن صدورِ ديوانهِ الجديد واصفاً نفسه ب(الشاعر الكبير).. من المستحيل أن أصدِّقَ شاعراً يصفُ نفسه ب (الشاعر الكبير) حتى لو كانَ بابلو نيرودا ينطقها أمامي، كلمةُ شاعر هذه تشبهُ علاقةً سريَّةً بيني وبين قلبي، لا علاقةَ للآخر بها، وهذا ليسَ تواضعاً ساذجاً بل ثقةٌ مطلقةٌ بقصيدتي.
***
منذ خمس سنوات لم أفقد اللغة كما أفقدها الآن، أو تنكسر رغبتي بالكلامِ من دون سبب، أو لأسباب لا أعرفها، وأستبعدُ أن تكون هذه الفظاعة السريالية التي يعيشها عالمنا العربي، أو نفور نفسي من تضخُّمِ (أنا) البعضِ في فضاءاتِ السوشيال ميديا أو من هذيانات رومانسية مهترئة لا تمتُّ للواقع بصلة، منذ شهرين أحاول كتابة منشور واحد يزيدني قناعةً بجمالِ الحياةِ السريِّ، ولكني كمن يجاهدُ العبثَ حتى في هذا الأمر، كم هو صعبٌ أن تركضَ خلفَ خمسةِ آلاف صديقٍ في هذا المدى المترامي الزرقةِ، مع أنهم كلهم رائعون ويحدون بشكل حيوي من غربتك الوجودية، إلا أنَّ كلَّ هذا الركض الأعمى على حساب صحتك ووقتك وراحة قلبك وعائلتك، ولكن الحياة بكاملِ حالاتِ صعودها ونزولها تحتاجُ إلى هذا التوازن الروحي الإفتراضي الضروري، لا لشيء.. بل كي يستمرَّ خفقانُ الشعلة.
***
العبارةُ السوريةُ الرقيقةُ (دخيل قلبك) تعادلُ كلَّ القصائد في نظري.. لا سيما وأنَّ معناها المجازي هو (أُحبُّ قلبكَ).. أو معنى قريبٌ من هذا المعنى.. هذه العبارةُ تحملُ في طيَّاتها مزاميرَ عشقٍ لا تنتهي، خصوصاً عندما تقولها امرأةٌ لرجل بشكلٍ مباغتٍ ومن دونِ انتظار، عبارةٌ كأنها وردةٌ حمراء أو أمطارٌ حزيرانية تغسلُ غبارَ الظهيرةِ.
***
تابعتُ ردود الفعل التي أثارها اكتشافٌ نادرٌ لظهورِ أيقونة الأدب الفرنسي مارسيل بروست في فيلم زواج يعودُ إلى عام 1904، اندهشتُ أيضاً من إثارة الرأي الأدبي على الساحة العالمية ومن الجدل حولَ هذا الاكتشاف غير المسبوق، وكيفَ أن أستاذاً جامعياً كنديَّاً برتبة بروفيسور متخصِّص بدراسةِ أدب هذا الروائيِّ الفذ هو الذي اكتشفَ بعدَ لأيٍ ومتابعةٍ طويلةٍ اللحظاتِ السريعةَ لنزول الكاتب على درجِ الكنيسةِ التي أقيمَ فيها إحتفال زواج إبنة إحدى دوقات فرنسا والتي تربطها علاقة صداقة ببروست الذي يظهرُ في الفيديو معتمراً قبَّعةً طويلةً وغيرَ متقيِّد بطقوس ومراسيم الاحتفال، وهو المتمرِّد الأبدي على التقاليد الموروثة سواء في الأدب أو المجتمع، طبعاً الكاتب مارسيل بروست على حد قول غراهام غرين هو أعظم روائي في القرن العشرين لإنجازه أضخم عمل روائي في تاريخ الأدب الإنساني على مرِّ العصور، وهو مكوَّن من سباعيتهِ ذائعةِ الصيت (في البحث عن الزمن الضائع) التي ترجمت إلى أغلبِ لغاتِ العالم فضلاً عن العربية، ولكنها تعدُّ من أصعبِ الرواياتِ العالميَّةِ قراءةً على الإطلاقِ، لوعورة وكثافة لغتها وطولها إذ يبلغُ عدد صفحاتها أكثر من أربعة آلاف وثلاثمئة صفحة ويبلغُ عدد شخصياتها أكثر من ألفي شخصية، روايةٌ من مليون ونصف المليون مفردة مزجَ فيها الكاتب المتخيَّل بالواقعي والمجازي بالحقيقي هل هناك من يستطيع أن يتفرَّغ لقراءتها قراءة متبصِّرة الآن؟ ربَّما الذين يقرأون بروست الآن هم رجال الأكاديميا ودارسوه وهذا ما أسرَّهُ لي أحد أساتذة الجامعات ذات مرَّة.. وأضافَ أن كاتباً عبقريا كمرسيل بروست سيبقى عصيَّاً على اكتشافِ عوالمهِ السحريَّة إلى الأبد، حتى لو كلَّفنا عشرات الأساتذة المختصِّين بفك رموز عملهِ الأسطوري الذي كتبهُ من 1909 إلى 1922 مريضاً بالربوِ ولم يكن إلاَّ محاولةً يائسةً بإمساك خيوط الزمن الهارب.
***
لا أفهم مغزى هذه المقارنات والمفاضلات التي ينظِّرُ لها بعض النقَّاد هنا وهناك بين الشعراء، وفي أحيان كثيرة يعقدون مقارنة غريبة عجيبة بينَ شاعرين اثنين يتنافران ويختلفان كلَّ اختلاف ولا تتقاطعُ خيوط تجربتيهما مع بعضها البعض، ناهيك عن أن لكلِّ شاعر عالمهُ السري ولغته الخصوصيَّة جداً، من قال أن شعريَّة المتنبي تشبهُ شعريَّة أبي تمام؟ صحيح أن أبا تمام كانَ بمثابة أستاذٍ للمتنبي ولكن نفس المتنبي الشعري مختلف تماماً عن نفس أستاذهِ وطريقة صياغته أيضا تأخذ منحىً وأسلوباً مغايراً، المتنبي هو شاعرٌ فطرة وسليقة بينما أبو تمام يرتكزُ على صناعةِ قصيدتهِ وتنقيحها حتى ولو أغرق في المجازِ والبديع وشطَّ عن المعنى المراد، كذلك هو الأمر مع الشاعرين الكبيرين الفلسطيني محمود درويش والسوري علي أحمد سعيد أدونيس وإن صرَّح الأخير في أكثر من موقف ولقاء أن درويش يسبحُ في فضاءٍ شعريٍّ قريبٍ من فضائه هو.. ولكن من يقرأ بعمق تجربةَ كلٍّ منهما يعرفُ أنهما شاعران مختلفان ولا تنتمي لغةُ أحدهما إلى لغة الآخر.. مع تأثر بسيط لدرويش بلغة أدونيس الشعرية في بداياته، مع أنني أميل إلى اعتقاد أن لغة درويش الشعريَّة أقرب إلى بساطة وجمال لغة الشاعر العراقي سعدي يوسف منها إلى لغة أدونيس التي ترهقها الفكرة المؤطَّرة والذهنية والهاجس الفلسفي والغموض، وأوافقُ الرأي الذي يقول أن جمالية اللغة الشعرية لدى درويش تتفوَّق في كثير من المواضع على جماليَّة لغة أدونيس الشعريَّة بالرغم من أن القضيَّة تحكمها الأذواق لا أكثر، درويش شاعر موهبة وفطرة كالمتنبي وأدونيس شاعر حدس رؤيوي كأبي تمام له كشوفات وفتوحات غير مسبوقة على مستوى التجريب الشعري، ولكنهُ لا يتقيَّد بنظام عروضي كدوريش الذي تنصاعُ قصيدته لنظام التفعيلة بصورة صارمةٍ وهذا نادراً ما نجدهُ عند أدونيس.
***
لا شيءَ يثيرُ الاشمئزاز أكثر من قراءة كتابات تمجيد المثلية الجنسية والسحاق، أحترم خصوصيات الآخرين وحرياتهم الشخصية ولكن الأمر غيرُ سويٍّ ولا منطقي بنظري، أقرأ عشرات التعليقات والردود بل ربما المئات منها ولا أدلي برأيي الشخصي وكأنَّ الأمر لا يعنيني، أبقى صامتاً كصخرةٍ، لا أريد أن أقتنع بهذه الجدالات التي تدخلني في دوار سريعٍ وغضب روحي، لا قوانين في الطبيعة تقبل هذه الفكرة التي لا تعادلَ فيها، أسألُ نفسي كيف ولماذا يدافعُ الآخرون عن هذا الخطأ / الخطيئة التي أرفضها من منطلق جسدي قبل أن يكون ديني أو عقائدي، كيفَ يتزَّوجُ رجلٌ برجلٍ وامرأةٌ بامرأةٍ فيما كلاهما خلقا لكي يكمِّل أحدهما نقصان الآخر في الحياة، من الممكن جدا أن أختلف مع الكثيرين حول هذا الموضوع ولكنني لن أندم على رأي أو قناعةٍ ما دمتُ مستسلما للفطرة القرويَّة الجميلة.
***
لا أعرف إن كانت هذه القصائد التي أنشرها تباعاً هي ذاتها التي أردتُ كتابتها فعلا.. لا أدري.. ولكن أحيانا أمتلئُ بالشعر ولا أكتبهُ.. أكونُ ربما في ظرف غير مناسب أو بعيداً عن القلمِ والورقة أو عن حاسوبي الشخصي.. ربما تكون قصائدي المنسيَّة أجمل بكثير من تلك المكتوبة والمنشورة ولكنني لا أحفظها.. أحيانا تتشكَّلُ القصيدة نهاراً وتأخذ شكل قصيدة النثر وعندما أجلسُ لأكتبها في الليلِ أجدها تلبَّست لبوس التفعيلة من غير قصد وجعلت تركضُ كالغزالةِ خلف فكرة القصيدةِ النثرية التي تشكَّلت في النهارِ كغيمة.. لا شكل للقصيدة.. القصيدةُ هيَ التي تشكِّلُ نفسها بنفسها وتتكوَّرُ كنهدٍ صغير.. كقبلةٍ على طرفِ فمِ امرأة.. هيَ التي تبدأُ كهبوبِ نسيمِ الحُب.
***
(11)
قوسُ قزحٍ على جبلِ الكرملِ
بين نجوميَّةِ الشاعر وأهميَّتهِ
في الآونة الأخيرة لفت انتباهي جدلٌ حول مسألة أهميَّة المبدع ودور الإعلام والنقد ودور المؤسسات الثقافية وغير الثقافية في تلميع إسمه وصورته وصنع هاله من النجوميَّة حوله، مع وجود فرق شاسع بين النجومية وبين الأهمية، فهناك شعراء عظام لم يكونوا نجوماً بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، عاشوا حياتهم بكل خيباتها وانكساراتها على الهامش، الشعريات العالمية المختلفة تشهد على ذلك ومنها الفرنسية والانجليزية.. لوتريامون..بودلير.. نرفال.. رمبو.. ادغار ألن بو.. ديلان توماس.. شيلي.. ووردزورث.. والقائمة طويلة جدا.. عندنا هناك مثال على ذلك في الشعرية العربية ينطبق على تجربتي نزار قباني وبدر شاكر السيَّاب.. نزار نجم شعري كبير ومتوهِّج.. السياب شاعر مهمٌّ وعابر للزمن.. هنا لا نقلِّل من قيمة نزار ولكن السياب شعريَّا بنظري ربما يكون أهمَّ من كلِّ مجايليهِ بما فيهم نزار، وتحديداً في مرحلة صعود قصيدةِ التفعيلة، وإن افتقرت حياتهُ إلى هالة النجوميَّة تلك، من الممكن أن لا يتفق معي الكثير من النقاد في رأيي ولكن في حينهِ كانَ السيَّاب الشاعر الذي اخترع لغةً مائيَّةً بالغةَ الخصوصيَّة تستندُ على الرومانسية الواقعية من جهةٍ وعلى نزوع إلى التعبير عن خلجات النفس بلغة جديدة ومختلفة، فيها نفس وجودي متدفق من جهةٍ أخرى، هو بكلِّ بساطة ورغم قصر حياته حاولَ اجتراح آفاق مجازية تعبِّر شعريَّا عن حالةِ القلق التي كان يعاني منها الشاعر العربي الحديث، مع أن عمر السياب الشعري لم يتعدَ العشرين سنة.. وامتد عمر نزار الشعري الى ما فوق خمسين سنة فكرَّرَ نفسه في قصائد لا تحصى، السياب توهَّج وانطفأ سريعاً ولكنه ترك بصمةً لا تُمحى وغيَّر مجرى القصيدة العربيَّة إلى الأبد، بينما كانَ نزار شاعر حب جميل ولغة شفافة عذبة تدغدغُ القلوب رغم أنه لم يترك أثراً عميقاً في الشعريَّة العربية كأدونيس مثلاً، أو محمود درويش أو سعدي يوسف، يبقى واحداً من أجمل عشرة شعراء عرب على مر العصور.
***
الشاعر محمد بنطلحة
وأنا أبحث عن صفحة الشاعر المغربي الكبير الصديق محمد بنطلحة على فيسبوك أجدهُ يبعثُ لي طلبَ صداقة وبعد ذلك يردُّ على تحيَّتي برسالةِ محبة هي من أجمل وأرقى وأبهى الرسائل التي تلقيتها من شاعر أحبُّهُ وأحترم منجزهُ الأدبي المدهش، نعم أحبُّ هذا الشاعر المختلف والحائز على جوائز شعريَّة عربيَّة وعالميَّة كثيرة منها جائزة الأركانة، وأُحبُّ قصائدهُ الانعطافيَّة البلوريَّة التي تشكِّلُ جسراً بين الشعرية العربيَّة والشعريَّة العالميَّة لأنها تشبهُ بصفائها المرآة الروحيَّة لكل من يقرأها ولأنها على مستوى عالٍ من الأناقة التعبيريَّة والصدق الفني والتجريب الشجاع ولأن الصديق العزيز محمد يمتلكُ من الشفافية والأصالة والنبل وقيم المحبة والموهبة الحقيقيَّة ما لا نجدهُ عند الكثير من أقرانهِ الشعراء، ما يخوِّلهُ إلى أن يُعتبر في نظر النقد العميق والجاد أحد أجمل الأصوات الشعريَّة العربيَّة الراهنة التي تحتلُ مكانةً محترمةً على ساحة الشعر في العالم والتي تعملُ على مشروع شعري مهم بصمت وهدوء وبلغة شديدة الخصوصية والتميُّز، شاعرَ قلبي محمد أستعيرُ منكَ ما قلتهُ أنتَ...
دعْ لي يا نديمي
جوربَ الدفلى
وشِسْعَ الأرغن الحجريِّ
أو عرِّج على آثار ضرب الخطِّ في سبأ
فإن سريرةَ الممحاةِ معراجي
وإن دمي غريمي.
***
حالةُ نرفانا
حالةُ النرفانا التي قلَّ نظيرها والتي رأيتها بأمِّ عيني في مساء الأحد الخامس عشر من يوليو عام ٢٠٠٧ تؤكِّد أن هذا الرجل الوسيم ذا المسحة الطفولية الحزينة والكبرياء الرومانسي الآسر شخصٌ غير عادي أبداً، كان يبعد عني بضع قبلات ولكنني لم أستطع أن أخلِّص نفسي من مزاحمة الآلاف لاحتضانهِ، كانَ نجماً شعريَّاً بكلِّ ما تنطوي عليه هذه الكلمة من معانٍ ودلالات، أمسيتهُ النادرة تلك حقَّقت تآلفاً وطنيَّاً حميماُ وإن بشكل مؤقت، مع الاستئثار الرسمي لجهة معيَّنة بالحدث والأضواء، كيفَ استطاعَ درويش جمع كل ألوان الطيف الفلسطيني في قوس قزحٍ يستندُ على جبلِ الكرملِ الأشم؟ كيفَ وحَّدَ تيارات السياسة والأدب المختلفة والمتضاربة تحت سقف واحد في أمسيته الرائعة تلك؟ سرعان ما انتهت النرفانا الشعريَّة وغاب الشاعر في الدهليز العميق بلمح البصر كقمرٍ مصابٍ بالعشق، ذلك الكائنُ الأسطوريُّ المسمَّى محمود درويش كان محاطاً بوهجِ محبَّةٍ يضيءُ القلوب إلى الأبد.
للذين يقولون أن المغني اللبناني مارسيل خليفة كانت له يدٌّ ما في صناعةِ نجوميَّة درويش الشعريَّة أقول أن مارسيل خليفة لا علاقة له بأهمية محمود درويش ودراسات كنفاني وغيرهِ لأدب المقاومة الفلسطيني في بدايات درويش لم يكن لها أهمية تذكر أيضاً في مسيرته آنذاك.. أهميةُ شاعر مثل درويش تستندُ على قوة تجربته وموهبته وكاريزماه الشخصية وقصيدته، الإعلام لا يصنع شاعراً ولكن درويش استفاد من قضيَّة وطنه وعرفَ كيفَ يوظِّفها مجازيَّاً وبأبعاد إنسانيَّة جميلة وراقية في قصيدتهِ، وكان يجدِّد ذاته الشعرية وينقلبُ عليها بعد كل ديوان.. شعره الكوني الانساني أهمُّ بمليون مرة من شعره المقاوم وهذا الشيء جعل طبقة كبيرة من مثقفي اليهود في اسرائيل تقرأهُ بكلِّ إعجاب بقيمته الشعرية الإنسانية الكبيرة، أحمد شوقي والبياتي وقباني والسياب كُتبت عنهم رسائل أكاديمية كثيرة ولا تحصى ولكن هل هناك دراسات جديدة عن البياتي وقباني مثلا؟ محمود كانت شعريته أعمق وأبعد أثراً لذلك فهي ستعيش أكثر وستدعمها الدراسات الأكاديميَّة وستضيء جوانبها، لذلك هو برأيي الشخصي يعدُّ الشاعر الثاني بعد المتنبي من حيث الأهميَّة في الشعر العربي كلِّه، وربما تكون شاعريَّة أحمد شوقي بينهما، فامتلاك درويش الموهبة الفذة وكل مقوِّمات الشهرة والنجومية كشاعر ساعدَ في تكريسِ شاعريَّته لحراسةِ حلم فلسطين وفي أن يصبح آخر الشعراء الإنسانيِّين العظام، هو شاعرٌ آمن بحلمه منذ البداية فتحقق، وتحقَّف كما يريدُ هو، لا سواهُ وكفى.
***
شعراء الفضاءِ الأزرق
لا أكاد أُحصي عدد الشعراء والكتَّاب على مواقع التواصل الاجتماعي، أن تُحصي عددهم فتلك مهمَّة مستحيلة كأن تعد ذرَّات رمل في صحراء شاسعة أو تحصي محاراً في محيط متلاطم، المشكلة الحقيقيَّة في المواقع الاجتماعيَّة أنها ساهمت ولو بصورة غير مباشرة بتضخِّم الأنا الوهميَّة حتى حدود الغرور لدى الكثير من الشعراء والكتَّاب، فنادراً ما تجدُ شاعراً أو كاتباً يقرأُ لزميلهِ قراءة متبصِّرة أو متأنيَّة بهدف معرفة الآخر وتتبُّع خيوط تجربته الكتابية والوقوف على منابعها الحقيقيَّة، ربما يكونُ الانغلاق على الذات السمة الغالبة التي لا أستطيع استبعادها من تفكيري وأنا أتابع صفحات أصدقائي على مواقع السوشيال ميديا، هذه السمة هي التي تؤدي في النهاية إلى القطيعة الشخصيَّة وحتى إلى العداء الصريح.
***
رائحةُ أيلول
لأيلول رائحةٌ تشبهُ غموضَ رائحةِ الحُب، هو من أجملِ الأشياءِ التي يصعبُ تفكيكها، أجملُ القصائد هي تلك التي تولدُ في أيلول، هناكَ براعمُ غير مرئيَّةٍ في الهواء الطلق، هناك نسيمٌ أنثويٌّ يغسلُ الصباحاتِ والعشيَّاتِ بمرورهِ العذب الأنيق، أيلولُ أرجوحةُ الشهور، عاشقٌ تغرَّبَ في صحراء الكناية، امرأةٌ تحلُّ ضفيرتها على مرأى خضرةِ الزيتون، لو لم يكن أيلول في الأرض لاخترعته خيالات الشعراء.
***
صداقةٌ افتراضيَّة
أن يكون لديك 5000 صديق على أحد مواقع السوشيال ميديا أغلبهم من خارج فلسطين، ليس معناه أنك سوبر ستار وهمي أو نجم افتراضي أو فقاعة شخصيَّة تظنُّ نفسها مهمَّة في أحد المجالات التي تحبُّها، فالكتابة على الحائط الأزرق مجانية إلى حد السخافة وتشبه الحرث في البحر، والصداقات الافتراضية بقدر ما تبدِّد العزلة والوحدة فإنها تكرِّسها وتعمِّقُ هوَّتها مع الزمن، للصداقة في هذه الفضاءات وجهان، ظاهرٌ يريك الابتسامة والتودُّد والجمال الإنساني، وخفيٌّ متجهِّم موغل في الأنانية والازدواجية والخصومة، صداقتك التي بنيتها خلال خمس أو ست سنوات مع الآخر من الوارد جدا أن تنتهي بضغطة زر واحدة وفي أي وقت يشاء الطرف الآخر.. فكيانك محكوم بمزاجيتهِ ونرجسيتهِ الافتراضيَّتين.. وإلا فما معنى أن تنتهي صداقةُ من كان من أقرب أصدقائك إليك ولا يمرُّ يوم أو يومان إلا ويكلِّمك؟ وما معنى أن تؤدِّي كلمة تودِّد واحدة إلى محو علاقةٍ استمرَّت لأكثر من خمس سنوات مبنيَّةً على الثقة والعفويَّة والصدق، حافرةً في التفاصيل الإنسانية البريئة والصغيرة جدَّاً، من دون أن تلتفت لحظةً واحدةً لصوت الرغبة أو لفحيح النزواتِ العابرة؟
***
(صبرا فتاةٌ نائمة)
(كانت ليلةً غريبةً جداً وهادئةً، كانت السماءُ مضاءةً بالقنابل الضوئية وكأن المخيَّم تحوَّل إلى مدينة أشباح، لم ندرك حينها أن مجزرة من أفظع مجازر التاريخ البشري الحديث تُرتكب هناك، عندما شاهدنا الذي حصل لم نكن لنصدِّق أعيننا) كانَ هذا مقطعاً من شهادة أحد الصحفيين الأجانب عن مجزرة صبرا وشاتيلا التي حصلت في السادس عشر من سبتمبر عام 1982.
ولكنك عندما تستذكر تاريخ مجزرة رهيبة كمجزرة صبرا وشاتيلا في ذكراها الخامسةِ والثلاثين فإنك تنسى أسبابها ولا تفكِّر بكلِّ تلك الحيثيات السياسيَّة والتفاصيل الدقيقة، لا تعنيك الوثائقيات التي شاهدتها أكثر من مرَّة على يوتيوب ولا النصوص الأدبيَّة التي خلدَّت قسوةَ الإنسان على أخيه الإنسان وفظاعة الانتقام ووحشيته، لا تتمثَّلُ شيئاً الآن يعيدُ ذاكرتك إلى رمل ذلك المخيَّم المسربل بالدماء، لأنك فقط تريدُ أن تحتفظ برائحة لبنان البحريَّة في نفسك، لبنان وطن الجمال الذي لم يكن يعني لك شيئا سوى الرحابنة وفيروز وجبران والشعراء الذين فُتنتَ بهم، وصوت زغلول الدامور المعجون بالآس، وغنج النساء الساحرات، ولأنك تعرف أن هناك أسراراً مخفيَّة رهيبةً ما زالت طيَّ الكتمان حول هذه النقطة السوداء في تاريخ لبنان الحديث، ما الذي سيعيد توازنَ روحك أمام هذا الخراب الإنسانيِّ الصاعق.. لا شيء.. فأجملُ القصائد لو اختبرتها حتماً ستنطفئ أمام فوضوية الموت ومجانيَّة الفظاعة والوحشيَّة، كم حياةً نحتاجُ حتى ننسى صبرا وشاتيلا ونحنُ نصرخ بملء أرواحنا: لماذا؟!
***
خذ من تحبُّك
قلتُ في إحدى قصائدي (قيلَ لي في قرىً في شمالِ فلسطينَ
خذْ من تُحبُّكَ لا من تُحبّْ) وهذا مجرَّد قولٍ نقلتهُ إلى قصيدتي كما هو بعدَ أن سمعتهُ خلال نقاشٍ رجلين حولَ علاقةِ الرجلِ بالمرأة، لاحظتُ بعد نشري القصيدة تفاوت وجهات النظر واختلاف بعض النساء عليها وامتعاضهن منها ولهنَّ الحقُّ في ذلك، مع أني على الصعيدِ الشخصيِّ لا أقفُ ضدَّ فكرةٍ محدَّدةٍ مسبقةٍ كما أقفُ أمامَ سذاجةِ هذهِ الفكرة التي تبدو لي عمياء، أو خاليةً من المنطق.. إذ كيفَ يتزوَّجُ الرجلُ من لا يحب؟ كم من الساديَّةِ تدخلُ في تجربةِ الحبِّ التي من طرفٍ واحدٍ؟ والأنكى من ذلك أن أسمع أحد اصدقائي المثقفين يبرِّرُ لي هذه الفكرة دائماً بقولهِ: أن تحبَّكَ امرأتك خيرٌ من أن تحبَّها أنتَ فتستغلُّ هذا الحبَّ المفرط لتحقيقِ رغباتها ومطالبها.. أن تحبك فمعناهُ أنها ستتنازلُ عن أنانيَّتها وتتعلَّقُ بك إلى الأبد.. وكأنَّ المرأةَ كائنٌ قُدِّرَ له أن يبذلَ ويخلصَ ويحبَّ ويضحِّي من غيرِ انتظار مقابلِ، وفي هذا استحالةٌ لا يقبلها عقلٌ ولا يرضاها قلب، أيُّها الرجل تزوَّج من تحبُّها.. من تحبُّها بقوَّةٍ ودعكَ من خرافاتِ التقاليدِ البالية.
***
(12)
عن الشِعرِ والأنوثةِ وأوَّلِ المطر
حكي عالماشي
لمن نكتبُ الشِعر وننشرهُ ونطبعهُ بعدَ ذلكَ في دواوين أنيقةٍ في زمنٍ لا تجدُ أحداً يسأل عنه.. أو يسعى لقرائته وشراءِ الدواوين الشعريَّة سوى نخبة النخبة أو الشعراء أنفسهم؟ أمسِ صباحا كنت في مدينة شفاعمرو أقرب المدن في الداخل الفلسطيني إلى قلبي وقريتي، التقيت هناك بأصدقاء مثقفين أعتز بهم.. قمت بإهدائهم نسخاً من دواوين شعريَّة لي كانت معي في حقيبة تلازمني أحياناً عندما أزور بين الفينة والأخرى مدناً فلسطينيةً كحيفا أو الناصرة أو يافا أو جنين أو نابلس وغيرها.. أزور المكتبة البلدية وأتركُ عدةَ نسخٍ من هذا الديوان او ذاك، لتكون هناك وللتخفُّفِ من وجعٍ وجوديٍّ في داخلي لصراخ هذه الكتب المركونة في بيتي منذ سنوات، البارحة صدمني أحدُ الأصدقاء بوابل من أسألة وجودية.. لماذا توزِّع ولا أحد يقرأ؟ ولماذا لا تبحث عمَّن يدعمك.. معنويا.. ماديا؟ مركز ثقافي؟ مؤسسة ثقافية ربحيَّة تشتري منك الكتابَ ولو بربعِ أو حتى خمسِ سعرهِ؟ وما الذي تنتظرهُ من هذا الأمر؟ أليسَ الأجدى أن توفِّر تعبكَ ومالك وتستثمرهما في أشياء أكثر أهميَّةً وجدوى مشيراً إلى إرسالي لكتبي عبر البريد الأرضي والجوِّي لأصدقاء ومكتبات في البلاد وخارجها؟ كانَ يتكلَّم بحرقة ولأنه مقرَّب مني ويعرف أنني لستُ مليونيراً؟ وأمارس أحيانا أعمالا شاقةً لأعتاش.. أوضحتُ له أن الكتابةَ لديَّ إيمانٌ طفوليٌّ ممزوجٌ بتسليةٍ عبثيَّة لا أستغني عنها.. فيها أجدُ معنىً لحياتي ولا أنظرُ إليها على أنها خسارةٌ مطلقةٌ، أعطاني في النهاية رقم أحد الأشخاص وقال لي أنه بائع كتبٍ لمكتباتِ المدارس والمدن والقرى، عندما هاتفتهُ في المساء وطرحت عليه الفكرةَ أصبحَ يصرخُ ويولولُ كالمجانين ويقول لي: (كل شي ولا كتب الشعر والأدب.. مش مستعد أشتريها ولو بقرش أصفر.. وما تسألني ليش؟!)
***
نيكوتين إلكتروني
أن يصيب خلل ما حاسوبك الشخصي وتستيقظ صباحا مكتفيا بالهاتف الخلوي الذي لا تستسيغ أستعماله فيسبوكيا وبك كل عطش الدنيا للنيكوتين الالكتروني.. دليل قاطع على تحولنا لكائنات افتراضية طائرة.. واختبار نفسي لذيذ يؤكد التواشج الحميم الجميل في العلاقة والتعلق بالآخر.
***
لغةُ الفيسبوك
يستعمل بعض الأصدقاء والصديقات لغةً جارحة.. قاسية.. عارية تصلُ أحيانا حد الشتيمة الشخصية وهم يعبرون عن امتعاضهم من تجاهل أصدقائهم لمنشوراتهم وصورهم على مواقع السوشيال ميديا وعدم تفاعلهم بتاتا مع وجودهم فيها.. مع أن هذا غباء أو شيء قريب منه.. تماما كالاحتفاء بأصدقاء افتراضيِّين لم تحظ منهم ولو بلفتة واحدة عبر خمس سنين.
***
أوَّلُ المطر
منذ الصباحِ والمطرُ الأوَّلُ يهطلُ، حيناً بغزارةٍ وحيناً آخر برذاذٍ خفيفٍ، كم أُحبُّ المطرَ الأوَّلَ أو أوَّلَ المطر والذي نسمِّيهِ (الوسميَّ).. لم أهدأ اليوم.. لأكثر من ساعتين وأنا أتأملُّهُ بعينيْ عاشق، أمُدُّ يدي من نافذة غرفتي وأشمُّ رائحتهُ النهارية.. تلكَ الرائحة المعجونة بخميرة أزهار بريَّة، والتي تحملُ شيئاً من رائحةِ السماء، وشيئاً من رائحةِ غبارِ الأرضِ، وأشياءَ لا تحصى من الأحاسيس الجميلةِ والذكريات، أُبلِّلُ قلبي بمطر تشرين.. أتقافزُ تحتهُ كالقطِّ الصغير، لا أعرفُ ما هو تشرين، أقربُ الشهورِ إلى روحي التي وُلدت مساءَ أربعاءٍ فيهِ،وحملتْ بعض غموضهِ وبرودة شمسهِ وشغفَ نهاراتهِ بالجمال، تشرينُ قصيدةٌ غامضةٌ نقرأها مئات المرَّات وفي كلِّ مرَّةٍ نكتشفُ فيها شيئاً مغايراً أو مختلفاً عمَّا وجدناهُ في قراءاتنا السابقة، تشرين هو مهدُ الشعراءِ المصنوعُ من قطنِ الغيمِ ومن براءةِ الينابيعِ الصغيرةِ، تشرينُ يدُ امرأةٍ من الجليلِ موشومةٍ بالحنَّاء.. خصرُ فتاةٍ أهيف.. روحُ شاعرٍ منسيٍّ.. قصائدُ ضاعتْ في مهبِّ رياحِ الخريف، لا أعرفُ ما هو تشرين.
***
فرادةُ حسين القهواجي
أكتبُ وأبحثُ عن الحقيقيِّين في الواقع وفي العوالم الإفتراضيَّة.. أكتبُ وأشطبُ، أكتبُ وأنسى.. أكتبُ وأرمي في سلَّةِ المهملاتِ.. أبحثُ عن كلِّ شيءٍ يعيدُ توازنَ روحي إليَّ، عن كلِّ شيءٍ يضيءُ روحي ولو كانَ بحجمِ ذرَّة رملٍ أو نقطةِ ماء، أبحثُ وأفشل ولكن كيف لم أعثر على إنسان كحسين القهواجي الشاعر والكاتب التونسي الذي غادر عالمنا قبل أيَّام؟ كانَ حسين القهواجي ذاكرةَ القيروان المشعَّة وحارس قلبها وأحلامها، وأحد أصفى منابعِ البراءةِ والدهشةِ في الشعر العربي الحديث، مثقَّف جوَّال بروح فراشة أو نجمةٍ أو شجرة، تركَ شيئاً من شغفهِ في آجُّرِ أعمدةِ القيروان ومبانيها العتيقةِ، في وهجِ صلصالها وفضاءاتها الانهائيَّةِ، كم تركَ حسين في داخلي من يقين بالشِعرِ وبالفنِ وبحبِّ الجمالِ حتى ولو كانَ بعيداً وعصيَّ المنال، تنفَّسَ حسين عبر النثرِ الشعريِّ العفويِّ الممسوسِ بالصدق واللهفة وتركَ واءهُ عدَّة دواوين هي بنظري من أصدق تجارب قصيدة النثر التونسيَّة، نذكرُ من أعماله «غراب النبوءات»، «باب الجلادين»، «كمان البيت وشمعدانه»، «أحفاد سقراط وصلوا قرطاجة»، «فجر من وراء الزيتون ينهض».
رثاهُ الكاتب أنيس الشعبوني رثاءً رقيقاً صادقاً حيث قالَ عنهُ ( حسين القهواجي كان يعتبر نفسه حارساً للمدينة (القيروان) ولروحها كأنّه أحد أوليائها الصالحين، وقد أحبه كل الذين زاروا القيروان لشاعريته المفرطة وعمق إلمامه بتاريخ المدينة).
***
الشِعرُ في عُهدةِ الأنوثة
قرأنا في كتب التراث والأدب الجاهليِّ كيفَ أن كلَّ شاعرٍ كبير كانَ يتخذُّ راويةً لهُ، والراويةُ هو شاعر مفترض أو مشروع شاعرٍ مستقبلي مهمتهُ إلقاء قصائد ذلك الشاعر والتي يحفظها عن ظهرِ قلبٍ في المحافلِ والأندية، كانَ بمثابة جهة إعلامية تساعد على انتشار وسيرورة شِعر من يروي لهُ، والشعراء جميعاً، هم في أول أمرهم بالشعر رواة شعر، ولا يكون الشاعر منهم شاعراً حتى يحفظ الشعر ويرويه، لانَّ الحفظ يساعده على قول الشعر ونظمه فيما بعد، ويكون تمرينناً أوليَّاً له، فأكثر شعراء العرب في الجاهليَّة وصدرِ الإسلامِ هم رواة في الاصل، حفظوا من الشعر ما ساعدهم على النظم، يضاف اليه موهبة الشاعر وسليقته فيه. وقد يقال إن الشاعر الراوية أمكن في الشعر وأقدر عليه من الشاعر، الذي لا يروي من الشعر الا نزراً يسيراً، أو لا يحفظ منه شيئاً، لأن الشاعر الراوية يتعلم من فنون الأقدمين ومن خبرتهم وتجاربهم في النظم ما يخفى على من ليس له علم سابق بهِ.
وقد ذكر أهل الأخبار أسماء عدد من شعراء الجاهلية في قول الشعر بروايته وحفظه، ثم صاروا من أكابر الشعراء فيما بعد، نذكر منهم زهير بن ابي سلمى، فقد بدأ حياته في الشعر راويةً لشعر "أوس بن حجر"، وكان أوس راوية الطفيل الغنوي وتلميذه. ومنهم "كعب بن زهير بن ابي سلمى"، فقد كان راويةً لوالدهِ، ثم "الحطيئة"، فقد بدأ الشعر براوية شعر "زهير" وآل زهير. وكان "زهير" راويةَ "طفيل" الغنوي أيضاً، وكان "أمرؤ القيس" راوية "أبي دواد" الإيادي، وكان الأعشى راوية لشعر "المسيَّب بن علس"، والمسيَّب خال الأعشى.
ولا نكاد نجد شاعراً لم يحفظ شعرَ غيره من الشعراء المتقدمين عليه، أو من المعاصرين له، ولا يكون شاعراً فحلاً في الشعر، إلا إذا حفظ من شعر غيره من الشعراء الفحول، فحفظ الشعر يدربُّهُ ويقوِّيهِ على نظمهِ، وكذلك كان أمرُ الشعراء الجاهليِّين، ويؤيد هذا الرأي ما نجدهُ في الأخبار من حفظ الشعراء شعر غيرهم، ومن مناقشتهم للشعراء في شعرهم، مما يدلُّ بالطبع على حفظهم له.
ما جرَّني لكتابة هذا التعريفِ برواةِ الشعر القدماء ظاهرة فيسبوكيَّة إستوقفتني موخرَّاً بشيءٍ من الحيرةِ والإستغراب، بعدما اكتشفتُ أن إحدى الصديقات احتفتْ بأحد نصوصي الشعريَّة قبل ما يقارب العام، حيث حصل ذلك النصُّ المنشور في صفحتها على 249 لايك و94 تعليق.. بينما لم يحظَ بصفحةِ كاتبهِ على عُشرِ هذا العدد من اللايكاتِ.. وبلا أيِّ تعليقٍ، مع الإشارةِ إلى أن عدد أصدقاء صفحتهِ يشكِّلُ أضعافاً مضاعفةً لعدد أصدقاءِ صفحةِ الصديقةِ التي نشرت القصيدة، هنا ينبثقُ السؤال الملِّح والأبديُّ.. هل على الشاعر أن يتخِّذَ من المرأة راويةً على طرازٍ حديثٍ لشعرهِ كي توصلهُ إلى حدودٍ تُرضي نرجسيَّته الشعريَّة؟ هل عليهِ أن يعلِّقَ قصائدهُ على حبالِ الأنوثةِ والجمالِ لكي يقرأها الآخرون في زمنِ متاهاتِ الرياءِ والمجاملات والنفاقِ الاجتماعيِّ؟
***
طعمُ الشغف
وأنا في الطريقِ للقاء الشاعر الفلسطينيِّ الصديق المقيم في الجليل الفلسطيني عبد المحسن نعامنة كنت أفكِّرُ بصدر بيت المتنبي (على قلقٍ كأنَّ الريحَ تحتي) وأحاولُ تحويرهُ ليصبحَ (على شوقٍ كأنَ الريحَ تحتي) ذلكَ أن صداقتنا الافتراضيَّة طالتْ وصارً يجبُ على أن نضفي عليها جمال اللمسة الواقعيَّة ونستبدلَ المجازَ بالحقيقة، فكثيرا ما محضني هذا المبدع الأصيل محبته الصافية عبر منشورات تدلُّ على إعجابه ببعض ما أنثرهُ في الفضاءات الزرقاء وكنتُ كلَّما رأيتُ ما خطَّت أناملهُ من وفاءٍ يتلبَّسُ لبوس الكلمات أقولُ في سرِّي: شكرا لقلبك صديقي على هداياك الجميلة والمدهشةِ.. نادراً ما أصادف رجالاً بمثل شفافيَّتك وبساطة روحك وأناقتها حتى وأنت في خضمِّ العمل الشاقِّ الذي تمارسهُ لتعتاشَ.. أتذكَّرُ حينَ قلت لي ذات يومٍ أيها العزيز بأنَّ القصيدةَ هي كلمة نقولها ونمضي.. شجرةٌ نزرعها لآخرين.. وأنا أوافقك وأثق بك.. بصداقتك الحقيقيَّة القريبة من الحبِّ ونبلِ الصدق.. كلِّي فرحٌ غامرٌ بما أقرأ لك من أدبٍ يدلُّ على روح مثقفة متوثبة ثائرة وحالمة بالحرية.. أحسُّ بروحك الوثابة في كل جملةٍ، أحسُّ بثورة روحك كجمرٍ تحت الرماد يعانقُ الريحَ الخضراء، صداقتنا باقية وستكتملُ وقد كان يجب أن نحوِّلَ الافتراضَ الى واقع منذ زمن.. بعد انتظار خمس سنوات ونصف.. سأقولُ بأنني أنتمي إليك.. إلى هذه الطبقة المقدَّسةِ التي تأكل خبزها المغمَّس بعرق الجبين.. وهي تضحكُ في وجهِ عذاباتِ الحياة بعذوبةِ الأنهار.. قابلتُ في حياتي مئات الأدباء والشعراء ولكن لقائي المرتجل بك على عجل كان استثنائيا ومميَّزاً.. كان الشغفُ الصافي يحملني.. يفكِّرُ عني.. يحرِّكني كأوراقِ شجرِ الخريفِ في تلكَ الظهيرةِ الغامضةِ، ليس لأنك من نفس الجيل الذي أنتمي اليهِ شعريَّاً وعمريَّاً فحسب، ولا لأن أفكارنا السياسية تتوافق.. ولا لأن الأرواح جنود مجنَّدة فما تعارف منها ائتلف وما تنافر اختلف.. بل لأسباب عديدة.. لا أجد المجاز المناسب الذي يشرحها الآن، ولكن سأفسِّرها بالقصائد ذات يومٍ، وأنا الذي كثيراً ما طلبتُ منك أن تكرِّس نفسك للكتابة وتحرص على كل حرف وتحميه من الضياع.. أن تكملَ نقصانَ هؤلاء الشعراء المنسيِّين، وأن تلتفت الى نبض قلبك والى هذه الرسالة التي نمهر حياتنا لها.. من غير انتظار مقابل.. فالشعر هو مجاز حياتنا المجرد.. هو هامش يتأرجح بين المتن والحقيقة.. هو أحدُ أجمل وأعلى وأكملِ تجلياتنا.
***
قصيدةٌ بلا أيديولوجيا
يتهمُّ البعضُ قصيدتي بأنها قصيدة بلا أيديولوجيا أو أنها خالية من موقف فكري سياسي محدَّد، لا أعرف أيَّة أيديولوجيا يريدون مني أن ألبسها لقصيدة ترقص حرَّة وشبه عارية تحت المطر وفي الهواء الطلق؟ الأيديولوجيا بنظري تختلف اختلافاً جذريَّاً وقاطعاً عن مفاهيم سائدة وبالية لا أعتبرها تدخل في صلب ما تعنيه لي هذه الأيديولوجيا ولا تبلور رأياً نقديَّاً بحتاً وموضوعيَّاً بالنسبة لكتابتي الشعريَّة، فقصيدتي ليست دفاعاً عن فكرة سياسيَّة أو دينيَّة أو قوميَّة.. بقدر ما هي لمسةٌ شغفيَّة وبعدٌ إنسانيٌّ وخربشةٌ بريئةٌ على الماء، مجازُ القصيدة هو فضاءُ حريِّتها.. لذلك فهي دائماً مع الخاسر والضحيَّة على حدِّ قول الرائي الإسباني العظيم فيدريكو غارسيا لوركا، سبقَ وعبرَّتُ بنصوص كثيرة عن الخراب الهائل الناتج عن الخريف العربي وخسرتُ أصدقاءً رائعين ولكنني كنتُ مرتاحاً لأنَّني نطقت بكلماتٍ كانت روحي تغصُّ بها، سألني مرةً صديق: مع من قصيدتك؟ فأجبتهُ: مع تشي جيفارا، مع الحريَّة الخاسرة، مع لثغة طفلةٍ في الخامسة، مع نقشِ حنَّاءٍ على يدِ امرأةٍ فلَّاحةٍ، قصيدتي هي فرحي وحزني وغضبي وحُبِّي واكتمالي ونقصاني، أيدولوجيا قصيدتي الحقيقيَّة هي إعتناقُ الجمالِ كما هو بدون رتوش إضافيَّة، ورفضُ مرايا التاريخ الأسود.. هي محاولة للقفز عن كوابيس حصلت في أمكنةٍ ما في هذه الأرض.. كوابيس أحاولُ نسيانها ورفضها منذُ حروبِ البشريَّةِ الأولى إلى ما يجري الآن في سوريا واليمن والعراق وغيرها.
***
ظهيرة ورديَّة
في مدينةِ جنين في شمالِ قلبِ فلسطين تحسُّ بطيبةِ وكرمِ وأناقةِ روحِ الشعبِ الفلسطينيِّ وأصالتها.. في جنين والقدس وغزَّة ورام الله ونابلس وغيرها من مدنِ الضفَّة الغربيَّة.. تشعرُ بانتمائكِ الروحي لهذا الشعبِّ العظيم بالرغم من الحواجز الوهميَّة.. أقولُ في جنين تحسُّ بذلك الأمان النفسي الجميل الذي لا تمنحك إياهُ لا حيفا ولا الناصرة ولا يافا، وتشعرُ بعفويَّةِ الناسِ وبساطتهم ونبلِ أخلاقهم، في ظهيرةِ جنين الخريفيَّةِ الورديَّةِ كانت طفلةٌ بشعرٍ ذهبيٍّ وعينينِ بحريَّتين، طفلةٌ آيةً في الجمالِ والعذوبةِ، أظنُّها في السادسةِ أو السابعةِ من عمرِها، تتسوَّلُ المارَّةَ في منطقةِ المدينةِ الصناعيَّة.. تقتربُ من كلِّ رجلٍ بخطىً خجولةٍ وصوتٍ مرتعشٍ (ساعدني عمَّو.. الله يخليك).. يكرمها الجميع بسخاء.. للوهلةِ الأولى تكسرُ هذه الطفلةُ قلبي.. تطفرُ من قلبي دمعةٌ وأنا أقتربُ منها وأُعطيها ما فيهِ النصيب.. أنحني عليها وأسألها (عمَّو ليش تشحدي.. ما عندك أهل؟) فتنزلقُ من عينيها دمعةٌ غير مرئيَّة وهي تجيبني بصوتها المائيِّ (عمَّو.. أبي متوفي وأُمي مريضة).. تنكسرُ روحي من هولِ حرمان الأب.. ومن ضعفِ الأُم.. لأوَّلِ مرَّةٍ أنكسرُ بهذا الوجعِ أمامَ طفلةٍ في ظهيرةٍ ورديَّة.
***
(13)
وردٌ على رمادِ القصيدة
سهمُ النقدِ الذي لا يجرح
لاحظتُ أن الكثير من أصدقائي الشعراء العرب يمتعضون ويأخذون على خاطرهم حينما يُصوِّبُ ناقدٌ ما سهماً صغيراً ليِّناً من جعبتهِ إلى بعض مفاصلِ تجاربهم الشعريَّة.. مع أن هذا السهم النقدي لا يجرحُ أبداً وأقلُّ حتى من أن يخدشَ ولكنهُ يتركُ أثراً سلبيَّاً لا يُمحى في نفسِ صاحب التجربةِ المنقودة، لا أعرفُ ممَّ ينبعُ هذا الغضب؟ أهو عدمُ ثقةٍ بالقصيدةِ بشكل خاص أو التجربةِ بشكل عام؟ مرَّةً قالَ الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري أن أكبر كارثة يُمنى بها الشاعر إبداعيَّاً فقدانُ الثقةِ بما يكتبُ، حينها يستطيعُ أصغر ناقدٍ في الدنيا أن يستثيرَ أعصابهُ ويشتِّتَ فكرته، وأتذكَّر حادثةً جرت بينَ أمير الشعراء أحمد شوقي وبين الموسيقار محمد عبد الوهاب حين وجدهُ الأوَّل حزيناً بسبب النقد الجارح الذي كيلَ لهُ في الصحافةِ المصريَّةِ المكتوبة، فما كان من شوقي إلا أن أحضر جميع الجرائد التي نشرت مقالات النقد وطلبَ من عبد الوهاب أن يقفَ عليها بعدَ أن صفَّها عموديَّاً وسألهُ: هل رفعتكَ أم حطَّتك؟ لا يخفى علينا طبعاً المعنى المجازي الذي قصدهُ أميرُ الشعراء شوقي من وراء فعلتهِ تلك، ولكن هذه الحادثة كانت نقطةً مفصليَّة هامَّة في تجربةِ عبد الوهاب الفنيَّة، بالنسبةِ لي شخصيَّاً طالما فضَّلتُ النقد الإيجابيَّ على المديح والإطراء، وطالما تمنَّيتُ ممَّن كتبَ عن تجربتي أن لا يكونَ محابياً مطرياً أو مدَّاحاً مجاملاً على حسابِ صداقةٍ أو ودٍّ.. بالقدر الذي أريدهُ فيهِ أن يكونَ صارماً وقاسيَّاً وباحثاً عن الهفواتِ الصغيرةِ في قصائدي.. فالنقد الصريح أنفع لتجربةِ الشاعرِ من كلام المديح، بعبارةٍ أخرى.. لماذا يُرهبنا النقدُ إلى هذا الحد؟
***
سيبقى الشعرُ حارسَ أحلامنا
فقط في دور النشر العربيَّة أصبح الشعرُ سلعةً كاسدةً أو موضوعاً بلا قُرَّاء، كل دار نشر يتوَّجه إليها شاعرٌ ما بغضِّ النظر عن مستوى كتابتهِ، فإنها تتأفَّف وتتململ كأنما بُليت بمصيبةٍ تقصمُ الظهر والرجلين معاً.. إحدى دور النشر المرموقة ولأسبابٍ شخصيَّةٍ كثيرة أمتنعُ عن ذكر اسمها لأنَّ ما حدثَ لي معها أصبحَ شائعاً وكثير الحدوث مع غيري من الشعراء والكُتَّابِ الشباب لدى دور نشر لا تُحصى، ظلَّت هذهِ الدار ولأكثر من عامٍ تمارسُ عليَّ نوعاً من الكذبِ المبطَّن، وأحياناً (الإستهبال) الصريح وأنا أستفسرُ عن نشر مجموعتي الشعريَّة التي وعدوا بطباعتها وكانوا يصرُّون في ردِّهم عليَّ أنها جاهزة ومعدَّة للطباعةِ وبعد شهور طويلة يقولون أنها طُبعتْ وموجودة في مطبعة دار النشر وبعد ذلك بشهور يقولون أنها في طريقها لتُعرض في مكتبةِ الدار نفسها.. وفي كلِّ مرَّة أتصِّلُ بهم يؤكدِّون فيها على فراغهم من نشرها وهم يستعدِّون لتسويقها وتوزيعها ووو الكثير الكثير من الكذب و(الإستهبال) الخرافي حتى جعلوا من المحيط الأطلسي بيارات حمضيَّات.. ولكن الحقيقة أنه لم تُطبع حتى ولو كلمة واحدة من الديوان،لا أدري السبب.. أيكونُ الإستخفافَ بقيمةِ الشعر إلى هذهِ الدرجة؟ لا يا أصحاب بعض دور النشر أو النشل كما أطلق عليكم أحد الأصدقاء، لن أقف عند هذهِ التجربة الموجعة، يا من تريدون إلغاء الشعر أو تسليعه أو المقايضة بهِ أو تدجينه وحبسه في الأقفاص المكيَّفة.. لا.. سينتصرُ الشعر عليكم وعلى أفكاركم المحكومةِ بالأرقام.. الشعر باقٍ وسيبقى نارنا المقدَّسة وحارس قلوب العشَّاق ومصباح أحلامنا في الليالي والنهارات وسيِّد رغباتنا.. سيبقى خارجِ أُطر حساباتكم وتصنيفاتكم ودوائركم الضيِّقة وهوائكم الفاسد.. لن تقيِّدوهُ بنظريَّاتِ أرقامكم والمصارف البنكيَّة والترَّهات.. سينتصرُ عليكم الشعر حتى لو خُيِّل لكم أنكم نجحتم في هزيمتهِ المؤقَّتة.. سيبقى الشعرُ وستذهبون وحدكم بحسابتكم وأرقامكم وترَّهاتكم إلى هاويةِ الجحيم.
***
أتذكَّرُ سيناء
أتذكَّرُ سيناء، بجبالها الرماديَّةِ المشغولةِ بقوسِ قزحٍ ورديٍّ في الظهيرةِ.. أتذكَّرُ أهلها الطيِّبين وهم يدعون أيَّ ضيفٍ عابرٍ أن يقاسمهم أنفاسَ الشيشة أو البيض المقلي وصحن الفول المدمَّس ونضارةَ النهارِ الأزرق، أتذكَّر سيناء وأهلها يصنعون من حديدِ الخيالِ محاريثَ وحذواتٍ لخيولِ الصحراء.. أتذكَّرُ دربها المستقيمَ يقسمها لنصفين متوازيين، الأوَّلُ للشمسِ والثاني للقمرِ.. مدىً ورديَّاً لا يُحدُّ ضارباً للزرقةِ.. فلَّاحةً تغسلُ وجهها بماءِ صنبورٍ من فضَّةِ الولهِ والاستعارةِ، قوافلَ تغربُ خلفَ الكثبان الرمليَّة، وأغانٍ مبعثرةً كأغاني الغجرِ على طريقِ الكحلِ والنعاس، أتذكَّرُ ذلك الزمنَ الجميلَ المخشوشن/ الناعم، الحميميَّ العذب، براءةَ ناسهِ وبساطتهم وشغفهم بالحياة.. أتذكَّرُ كلَّ شيءٍ تقريباً قبلَ دخولنا في زمن ملوكِ الطوائف وفوضى الدماءِ ومجانيَّةِ الحروبِ والمراثي.
***
رمادُ القصيدة
أتركُ ديواني بعدَ طباعتهِ لشهور.. لسنوات.. وأنا أتجنَّبُ اكتشافَ أيَّ خطأٍ تعاميتُ عنهُ فيهِ، ثمَّ أعودُ إليهِ كالملهوف.. أتصفَّحهُ على عجلٍ ثمَّ أقرأه رويداً رويداً بصوتٍ داخليٍّ، أتلمَّسهُ كأعمى يتحسَّسُ تمثالاً في مدينةٍ شرق أوسطيَّة، كامرأةٍ ولهى تتقرَّى يدَ حبيبها، أبتعدْ عن ذاتي الشعريَّة لأراها تلتصقُ بي كقطَّةٍ خريفيَّة، تمسِّدُ ظهرَها بي، أقولُ في نفسي: من هذا الرجلُ الغريبُ الذي كتبَ هذهِ القصائدَ؟ ومن أجلِ منْ؟ أُحدِّقُ في تعرجاتِ الحبرِ كمن يبحثُ عن زنبقةٍ غير ورئيَّة، وكأني أراهُ للوهلةِ الأولى، الآن أختبرُ رضايَ عن قصيدتي بمقاييسَ ومعاييرَ ثانويَّةٍ لا تخطرُ على بالِ أحد، ثمَّةَ رائحةٌ للقصائد، ناصعةٌ.. شفَّافةٌ.. كحليَّةٌ.. زرقاء، رائحةٌ تشبهُ شهوةَ الريح، لا شرقيَّة ولا غربيَّة، تشبهُ طعمَ الوله، خفيفةٌ، حزيرانيَّةٌ تملأ القلبَ بنرجسيَّةِ عاشق ونداءاتِ قدِّيس، أضعُ قصيدتي على المحك، أتخلَّى عنها كما تفعلُ أمُّ صغارِ النوارسِ، أتركها في الريحِ الشرقيَّةِ، وأنا مطمئنٌ إلى شيئين اثنين، تحليقها المتناسق أو سقوطها في هاويةِ النسيان، أتركُ رغبتي في القصيدةِ حتى تصيرَ رماداً.. ثمَّ أُذرِّيها بفرحِ ذلكَ الرجلِ الغريب.
***
مملكةُ الصمت
الذي يقرأ تاريخ سوريا الحديث الممتد من سيطرة حزب البعث فيها بالحيلة والغدر على مقاليد الحكم حتى يوما هذا، أو يشاهد الوثائقيات التي لا تُحصى عن إذلال الإنسان وقهره ومحو كيانه بالكامل يُصدم من هول الظلم الذي مورس على البشر في مملكة صمت مريع أشبه بجحيم أرضي، ولا يكادُ يصدِّق فظاعة المجازر المجانيَّة الخرافيَّة التي أُرتكبت بحق الأبرياء من أطفال ونساء، وربَّما يدخلُ في حالةٍ من الذهولِ وهو يفكِّرُ بسرياليَّة والقسوةِ والعنصريَّةِ والاستبداد وطائفية فرِّق تسد التي مارسها هذا النظام الفاشيُّ المجرم على شعب حر شريف ليس له من ذنب سوى حبِّهِ للحياةِ وتطلُّعهِ للحريَّة، من الصعب نسيان الذكريات التي تقطرُ دماً.. رماداً.. لهيباً وعذاباً من أطرافِ شهادات السجناء المرعبة وهم يتكلَّمون عن تجارب اعتقالهم في أقبيةِ المخابراتِ السريَّة، من الصعب أن تصدِّق كيفَ أن بشراً تحمَّلوا من أجلِ حياةٍ أجمل وحلمٍ بغدٍ وردي كلَّ أساليب التنكيل والمحو الجسدي والنفسي والتعذيب الذي لا أجدُ لغةً تسعفني لأصفهُ مدةً تقتربُ اليومَ من نصف قرنٍ ولم يحطِّموا بعد تمثال طاغيتهم المجازي ويرموه في البحر، وكلَّما اقتربوا من ساحلِ الانتصارِ باعاً ابتعدَ ذراعاً عنهم لخذلان دول العالم المنافق لهم، لا تزال أفكار الطاغية الغامض تحكم سوريا بالحديد والنار ولو بشكل غير مباشر حتى وهو في قاع قبره وما ابنه سوى دمية هزيلة تحركها أطياف هذه الأفكار السوداء فوقَ خرابِ البلاد.
***
وردةٌ محايدة
أنا على حيادٍ تام من الزمن، على حيادِ فراشةٍ على سياجِ الضوءِ، أو زهرةِ صُبَّارٍ في الخريفِ السريع، أكتبُ ما أريدُ، مقطعاً نثريَّاً رديئاً عن طاغيةٍ فتكَ بشعبهِ، قصيدةً في مديحِ الأُمهات، فكرةً لوصفِ امرأة حامل، أُغنيَّةً عن حبٍّ ضائع، أكتبُ ما أُريدُ ولكن على حياد غيمةٍ بحريَّة، أكرهُ المسافات المليئة بالفراغ والنداءات المكتومة والأصداء الذابلة، تلك المسافات التي رسمها بشرٌ عاطلون عن الحبِّ والحريَّةِ والفرح حول حيواتِ الآخرين، أوجعتني محاكم التفتيش الممتدة على جسد تاريخنا المظلم، وأوجعتني قبلاتِ الرعيَّة على نعل الطاغية المبتسم لأعمدةِ النورِ في قصرهِ، في هذا النهارِ الأزرقِ المأخوذ من لوحةٍ لسلفادور دالي ما الذي يريدهُ شاعرٌ مجهول سوى أن يبكي بصمتٍ أمامَ جمالِ امرأةٍ مقهور؟ أو يتركَ وردةً على طاولةِ الأُمومة؟ ما الذي يريدهُ الغريبُ سوى أن يملأ قلبه بهواء الحنين إلى أوَّلِ النساء والبلدان؟
***
يومُ إدمون
البارحة رحلَ شاعرٌ طالما استوقفتني قصائدهُ بالغة العذوبة ومسرحياتهُ المنسوجة بذكاء نادر، شاعرٌ ومسرحيٌّ وروائيٌّ ذو حسٍّ سردي جميل،وإنسان في غايةِ النبلِ وجمال الروح، رحلَ إدمون شحادة محمَّلاً بنهاياتِ القصائد وبداياتِ الشجنِ الروحي، بنداءات الحبق الجليلي وترجيعاتِ الحجلِ في مرجِ ابن عامر، سأفتقدك يا صديقي الجميل إدمون فاغفر لي عزلتي، سأفتقد اتصالاتك الدائمة وكأننا نعرف بعضنا البعض من عشرات السنين، سأفتقد صوتك الجميل العذب المائي المنبعث من مجرَّة سحريَّة أو بئرٍ خضراء، أتذكَّر لقاءاتنا الأولى في مكتبتك في أوَّلِ الناصرة، وذاتَ صيفٍ في كرملِ حيفا، أتذكَّرُ مرحك وتواضعك وعفويَّتك وشفافيَّة الأديب ورقَّة وعذوبة الشاعر فيك، وحرصك على لغتكَ الشعريَّة، تلكَ اللغة التي رحت تتعهدها كحديقة، صداقتنا لم تكن عابرةً ولم تكن سطحيَّةً كصداقات البعض، بل كنتَ من القلائل الأثيرين والقريبين من القلب رغم فارق العمر بيننا والذي ينيف على أربعةِ عقود، أمس أحببتُ أن أبكي بصمت كما تبكي الطير عليك، على صداقتك الاستثنائيَّة، على مرحلة أغنتْ حياتي بطاقةٍ إبداعيَّة لا تنتهي، على نهارات خريفيَّة ضاجَّة بحفيف القصائد، لن أقولَ وداعاً ولكن أقول الى الملتقى.
***
تفاصيلٌ سريَّة
تكتبُ امرأةٌ عن أنوثتها وتفاصيلها السريَّة، أُخرى تخاصمُ عاشقاً وتطردهُ عن نوافذ رغبتها.. ثالثةٌ تكتبُ لحبيبها بفمها على ورقٍ يتنهَّد، في عوالمِ النساء الثلاث يبحثُ شاعرٌ عن صفائهِ التعبيريِّ ومجازهِ الخصوصيِّ، يصقلُ حجراً هوائيَّاً ويلمِّعُ بهِ جسدَ ايزيس، كم من الوقتِ ينقصهُ كي يرتقي إلى هاويةِ الرغبة؟ تكتبُ امرأةٌ عن مزاجيَّتها المفرطةِ ويشطبُ شاعرٌ قصيدتهُ النثريَّة الملأى بالاستغاثاتِ النهريَّةِ وزنابق العطش، تكتبُ امرأةٌ على زجاجِ مراياها شهوتها الرماديَّة، ويمسحُ رجلٌ عابرٌ كحلَ فراشتها عن ظلالِ أصابعها.
***
السائرُ في المنام
جمالكِ يعذِّبني عذاباً جميلاً، منذ رأيتكِ والفراشات تلسعُ قلبي لسعاً خفيفاً، أعرفُ بأنني سأتورَّطُ تورُّطاً لا بدَّ منهُ كي أكتب بعض قصائدٍ أو هذياناتٍ محمومةٍ، أعرفُ أيضاً بأنني سأتبرَّأُ من هذا الشِعرِ عندما أفيقُ منكِ، أنا السائرُ في المنامِ والمسرنمُ بوصاياكِ، جمالكِ هو الشيء الوحيد الذي أتمنَّى أن اشربَ مسحوقهُ السحريَّ ممزوجاً بالماءِ أو بالنبيذ، لستُ ديكَ جنٍّ آخر ولا أحبُّ طعمَ الرماد، لا أحبُّ الكلماتِ المعلَّبةَ ولا مراثي الأُنوثةِ، لستُ ديكَ جنٍّ آخرَ ولستِ حبيبتهُ ورد، لستُ امرئ القيسِ ولستِ فاطمةَ، لستُ نيرودا ولستِ ماتيلدا، لستُ دالي ولستِ غالا، لن تكوني قصيدتي الشتائيَّةَ، ولن أكونَ سوى توجُّسكِ من رائحةِ اللوز.
***
(14)
تأخَّرتِ قليلاً عن غوايتي
صرخةُ فان غوخ
يدان تتشابكان في مكانٍ ما، نحيلتانِ كقصبتيْ سكَّر، خفيفتانِ كنداءِ تمثال جريح، تنطفئانِ في المتن وتشتعلانِ في الهامش، محاطتانِ بصرخةٍ تصعدُ من قاعِ بئرٍ معطَّلة، تشبهُ نحيب غيمةٍ في خاصرةِ امرأةٍ، أو عواءَ فنسنت فان غوخ في ذلك الفيلم الشهير، تهبُّ من العدم الأرضيِّ ومن جهةِ الريح الرماديَّة، تحرِّكُ حريرَ المرايا والستائر الورديَّة المجعَّدة، تهزُّ أواني الخزف بخفَّة ريشةٍ، وتحترقُ في المراثي الطويلة، أه ما أجمل وأكمل هذهِ الصرخة المضمومة كقبضةِ عاشقةٍ على زهرةِ لوتس بريَّة، المفتوحة على تجلِّياتِ اللغة والقداسة، يا لكَ من ساحرٍ رجيمٍ يا فنسنت، حتى وأنت مغيَّبٌ عن ذاكرتك وحدائقك المنسيَّة، وفي صخب لياليك واعترافاتك، كلَّما أغمضتُ عينيَّ على نجومك الصفراء المتناثرة على قماش أزرق تناسلتْ حقولُ عبَّادِ الشمسِ في مخيَّلتي المشدودةِ إلى حذوةِ فرس، كأغنيةٍ مشدودةٍ إلى السديم، أو كجاريةٍ على طرفِ رغبةِ نخَّاس، أبداً لن تموتَ صرختكَ، سيلتفتُ اللهُ إليها، وإلى قصائدك غير المكتوبة، قصائدك التي استبدلت الكلمات بالخطوطِ المتقاطعةِ وبالألوانِ المائيَّة وبالسنابلِ المنفرطة من ضفائر النساء.
***
القصيدةُ والحُب
الأبياتُ التي أحذفها من القصيدة الجديدة ليست أقلَّ جمالاً وفتنةً من القصيدةِ ذاتها ، بل ربمَّا تكونُ همساتُ النزوة التي انسحبتْ وراءَ السطور، أو أصداءُ الرغبة الخافتة التي ارتضت أن تستترَ وراء نصاعة الورق ورذاذ الحبر، أجملَ بكثير من القصيدةِ المكتوبة وهذا ما عناهُ أحدُ المبدعين بقوله أن الكتابة الحقيقيَّة هي مهنةُ الحذف، ولكن كم هو صعب أن تتركَ ذائقتك تتأرجحُ بين شطري قصيدة، هذه الحالة تشبهُ تماماً حالة حذف حبٍّ ما تمكَّن من قلبك ولكنك تعجزُ عن فعلِ هذا، يتسلَّطُ ذلك الحبُّ الافتراضيُّ عليكَ لدرجة أنك تبقى منقاداً له بحاسةٍ سحريَّة ماكرة، وبشغف إنساني جميل، تحاولُ مراراً حذف الجزء الهلامي منهُ في ذاكرتك أو تمتدُّ يدكَ لتمسحَ تلكَ السطور البيضاء من القصيدة المكتوبة ولكن بلا فائدة، فالحبُّ الغامض والاستعارات المجرَّدة كلاهما يلتمعُ في قلبكَ وذهنك كالوميض، يحاصرك من جهاتك الستِّ، القصيدةُ الغائبةُ كالحبِّ تماماً، لا تستطيع أن تحذفها من قلبك، أو تطلقها كالعصافيرِ الأليفةِ في فضاءِ البيتِ، نصفها صداقةٌ مكتوبةٌ بضوءٍ شحيحٍ ونصفها الآخر حبٌّ يستعصي على الكتابة وعلى النسيان.
***
اللغةُ حين تكونُ في عباءةِ القبيلة
لم أكتب أدب مذكرات ولم أُفكر بكتابته على الرغم من حبي الجارف له، لا لأنه لا يستهويني كثيراً أو بسبب خوفي من السقوطِ في رداءةِ النثر والتيهِ في مجاهيلهِ، بل لأسباب كثيرة أهمُّها أنني لم أدرِّب نفسي على البوح بما فيهِ الكفاية، لم أُخرج لغتي بعد من عباءةِ القبيلة وعاداتها وموروثاتها ونداءاتها العصيَّةِ، بكلماتٍ أُخرى لم أُحرِّر كتابتي كما كنتُ أحلم بذلك وأنا أقرأ كتابات هنري ميلر أو محمد شكري أو جونيشيروا تانيزاكي أو ماريو فارغاس يوسا مثلا، لمن يسألني عن المذكراتِ أقولُ: دواويني التي حشرتها في عشرةِ كتب هي مذكراتي ويومياتي السريَّة، فمن الممكن جدا أن يبحث فيها الآخرون عن اللغة الشفافة والرغبات المطويَّةِ تحتَ عباءةِ القبيلةِ الفضفاضة، بالنسبة لأدب المذكرات أعجبتني في مرحلةٍ ما مذكرات آنا فرانك، خصوصاً ذلك التدفق الحيوي الغريزي المشبع بشهوة السرد والمشافهة، وكنتُ أقفُ مشدوهاً عند كل سطر من قصةِ غرامها وأحبسُ أنفاسي متسائلاً: كيفَ لطفلةٍ مراهقةٍ لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها أن تكتب بمثل هذا التدفق التعبيري المذهل وبمثل التكثيف الجمالي المدهش لأصغر التفاصيل، وبلغة نقيَّة ناصعة بلغت بها آنا الصغيرة قمة البلاغة والمجاز، كيف تستطيع طفلة بمفردها أن تخطَّ واحداً من أهمِّ كتبِّ أدب المذكراتِ في تاريخِ البشريَّةِ الحديث؟
***
زليخةُ السريَّة
زليخةُ التي أعنيها في مزاميري السريَّة لم تهرمْ بعد.. كأنها لا تكبرُ، ولا تتقدَّمُ بها سنواتُ القهر نحوَ النهاية، زليخةُ الموزَّعةُ في القصائد القصيرةِ والمطوَّلات امرأةٌ ليستْ كباقي النساء، ضفائرها كسنابلِ القمحِ الذهبيَّة وليديها عطرُ الليمون والحبق، هي من صنفِ نسوةٍ لا يشيخُ جمالهنَّ حتى بعد الخمسين، كلُّ شاعرٍ بلا زليخة لا يُعوَّلُ عليه، كلُّ ديوانٍ بلا قمصانها ناقصٌ، كلُّ بحرٍ بلا تنهداتها سريرٌ مهملٌ، كلُّ أبجديَّةٍ بلا ناياتها قصبٌ جريحٌ، كل وجودٍ لا يحتويها عدم.
***
عينا إلسا
أُفكِّرُ بعيني إلسا، حبيبةِ لويس أراغون وأنا أعدُّ زنجبيل المساء على عجلٍ، أُفكِّرُ بشبيهةِ إلسا وأنا أُراقبُ عصفوراً ورديَّاً غريباً حطَّ على مقربةٍ مني كي يبتلَّ بماء حزني، كلَّما وقعت عيناي على تلك الفتاة في إحدى الأغاني الساحليَّةِ أُناجيها في سرِّي بشِعر السيَّاب: رأيتُ شبيهةً لكِ شَعرها ظلَمٌ وأمطارُ وعيناها كينبوعين في غابٍ من الحورِ.. هل فيها شيءٌ من إلسا؟ لا أدري، ولماذا إلسا بالذات؟ أيضاً لا أدري، المهم أنني أفكِّرُ بعيني إلسا وبأشياءَ كثيرةٍ، كعادتي دائماً، لم أتغيَّر.. أُفكِّرُ بالعدم وأنا أُفكِّرُ بعيني إلسا.
***
الحياةُ كحلم
أنظرُ إلى الحياةِ من طاقةِ حلم مشاكس، هكذا أنا منذ الطفولة، الحياة هي حلمُ كبيرٌ نرفدهُ بأحلام صغيرة أُخرى، ملوَّنة، شفَّافة، عصيَّة، مستحيلة، لكنها تشكِّلُ طاقة دعم روحي ومعنوي ومجازي لنا في هذهِ الحياة المعطوبة، شخصيَّاً لا أتنفَّسُ هواء الحياة إلا من فجوةِ جدارِ هذا الحلمِ بالرغم من الخيبات والانكسارات التي لا تُحصى، كلَّما خبا وهجُ حلم ما أستضيءُ بوهجٍ حلمٍ جديد آخر، وهكذا، اُريدُ أن أقضي هذه الحياة حالماً وغيرَ ملتفتٍ لنهاياتِ السنوات التي تذكرِّني بلحظاتِ الفشلِ والإخفاقِ والانكسار، لا تعنيني بتاتاً نهاياتُ السنواتِ التي انفرطت من سبحةِ حياتي بل مطالعُ القصائد والأغاني، ولا أعاتبُ نفسي أو ألومها على عجزي عن تحقيق أحلامي الصغيرة، ما دمتُ أُحاولُ أن أكتبَ شيئاً يجعلُ لحياتي معنىً خصوصيَّاً فلا بأس.
***
القصيدةُ والأسطورة
ما ينقصُ القصيدة العربيَّة الآن هو التخفُّف قدر المستطاع من الهمِّ الوجودي وماديَّة اللحظة الراهنة والرجوع إلى الموروث الشعبي العربي والعالمي بشقيِّهِ الواقعي والخرافي المتخيَّل، فلو نظرنا إلى الشعريَّات الأخرى في العالم لوجدنا امتزاجها بالأساطير والحكايا الشعبيَّة والخرافة، عبر تأثرها بالموروث القصصي الخيالي وبكتب من صنف ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة وميثولوجيا وأساطير الشعوب القديمة وغيرها، تضفي الأُسطورةُ على العمل الأدبي بعداً رمزيَّاً إنسانيَّاً عالي المستوى، وتمنحه دلالاتٍ غنيَّةً تعملُ على تحفيزِ الخيالِ والذاكرة للامساكِ بخيوطِ الفكرةِ الملوَّنة، ونرى أن الشعراء التموزيِّين العرب وضعوا الاهتمام باللاواقعي والخرافي نصب أعينهم بعد اطلَّاعهم على نماذج شعريَّة كثيرة في الشعر الأجنبي تسعى على توظيف الأساطير داخلَ النص، فلا يخفى اعتمادُ الشعراء الانجليز على هذا العنصر الهام وفي مقدمتهم ت س اليوت في (الأرض اليباب) وشكسبير في عدد لا بأس بهِ من مسرحياته الشعريَّة الهامَّة لا سيما (هملت) و (عطيل) و (العاصفة)، وأيضاً نجد في الأدب الروسي في القرن التاسع عشر نزوعاً قويَّاً إلى توظيف الأُسطورة كما نلحظ ذلك في المطوَّلة الشعريَّة (روسلان ولودميلا) لأمير شعراء روسيا ألكسندر بوشكين.
***
إيماءات
أنت جنَّةُ الغيبِ والعنبِ يا جان ديفال ونظرةُ بودليرَ مفتاحها
*
بينَ يديْ حزنكَ المائيِّ يا سركون بولص تغتصبُ براءةَ القصيدةِ امرأةٌ بشَعرٍ غجريٍّ من مدينةِ أين
*
تلبسُ الكلماتُ ابتسامتكِ البيضاءَ كالأشجارِ تومضُ بأزهارِ الغيم
*
القبوُ المظلمُ يعذِّبُ روحَ الرَّحالةِ الذي يحملُ الأرضَ على شكلِ فقاعةٍ في قلبهِ، القبوُ المظلمُ مبنيٌّ بشكلٍ هندسيٍّ غريبٍ على رأسِ طائرٍ فينيقيٍّ
*
لجمالها طعمُ الحنطةِ ورائحةُ الحبقِ المحروق، لبياضها طعمُ الوجع
***
تأخَّرتِ قليلاً عن غوايتي
ضعي يدكِ على نافذة قلبي وانسحبي من قصيدتي بكاملِ ظلالكِ الحياديَّةِ، لن أتلصَّص بعدَ هذا الغيابِ على تفاصيلكِ الصغيرةِ وغيرتك من الأخريات، لن يعني لي جمالكِ الحزينُ المراوغُ شيئاً ولا حتى شقاؤكِ سوف يستثيرُني، لو قرأتُ أناشيد بتراركة أو غزليَّات كواسيمودو مثلاً بدلَ كتابةِ خطابات بائسة لكِ لكنتُ أكثر سعادةً، لو استبدلتكِ في الوقتِ المناسبِ برقصةٍ واحدةٍ لمونيكا بيلوتشي لأصبحتُ أكثرَ شاعريَّةً، لو استبدلتكِ بتقاسيمِ نايٍ غامض لجرى الماءُ من تحتِ قصائدي، لو تأخَّرتِ قليلا عن غوايتي لأصبحتْ أعلى وأجملَ وأكمل.
***
(15)
حنينٌ يستيقظُ في الظهيرة
عثوري على السيَّاب
حادثةُ عثوري على تجربة بدر شاكر السيَّاب الشعريَّة أو بتعبير أكثر دقَّةً تعثري باسمهِ تعتبر بالنسبة لي حالةً لا تخلو من الطرافة والغرابة ولم تحصل لديَّ مع شاعر آخر غيرهِ، لم أنتبه أبداً لتجربة السيَّاب في البدايات وكنت متأثراً بغيرهِ كأحمد شوقي وخليل مطران وجبران وأبي القاسم الشابي وغيرهم من أعمدة النهضة الشعريَّة، حتى أنني لم أسمع باسمهِ أبداً قبل مرحلة الدراسة الثانويَّة.. بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى أي في أوائل سنوات التسعين من القرن المنصرم عثرت على احدى المجلات الأدبية الفلسطينية العريقة وأظنها مجلَّة (عبير) وهي من المجلات الفلسطينية المرموقة وكانت تمجِّد في سياقِ موضوعاتها انتفاضة الحجارة الأولى، وكانَ من ضمن المادة الأدبيَّة للمجلَّة حوار أدبيٌّ جميل مع شاعر فلسطيني لا يحضرني اسمه الآن، وفي الحوار إشادة عظيمة بتأثره بشاعر عراقي حداثي فذ اسمه بدر شاكر السياب، استطاع بموهبته الشعريَّه الجبَّارة أن يغيِّر المفاهيم السائدة في الشعر العربي عبر ثورة عارمة على نظام الأوزان الشعريَّة التقليديَّة، بحيثُ نجح في كسر عمود الشعر العربي وحاولَ توزيع تفاعيل السطر الشعري الجديد بذكاء ومهارة وفقا لمعاني الجمل الشعريَّة، وذلك تأثراً بالشعر الانجليزي وخصوصاً (ت س اليوت) و (بيرسي شيلي) وغيرهم من الشعراء الانجليز، منذ ذلك الحين وأنا أفكر ببدر، وأبحثُ عن نصوصه الشعريَّة الحارة، وأذكر أنني تصفَّحتُ كتاباً ضخماً بعنوان (شاعر الأناشيد والمراثي) للناقد اللبناني (ايليا حاوي) عن السيَّاب وأعجبني جداً، وكنتُ حين أقرأ لبدر شيئاً أعثر عليه في أي كتاب أدبي تصيبني رعشةٌ ما أو أنتقلُ روحيَّاً إلى مناخات فردوسيَّة جماليَّة سيَّابية بامتياز، مناخات يشتبكُ فيها الحلم والكابوس وتتضافر في فضاءاتها الحقيقةُ والأسطورة.
***
من أنتَ؟
الغريب والمحيِّر أنه فقط أصحاب الأقنعة المستعارةِ يسألونك: من أنتَ؟ وأبداً لا أجيبُ على سؤالٍ كهذا، خصوصاً إذا كان السؤالُ موجَّهاً من هؤلاء، وهم يطلُّون عليكَ من حضيض الخفاء والعتمة، يفركون أعينهم بالأصابعِ، ويصفعونك بسؤال أبديٍّ بليد.. من أنت؟!
***
نعمةُ الحذف
حذفتُ شاعراً عابراً خُيِّل له أنهُ أربكَ قصيدتي حين ظنَّ واهماً أنها بحاجةٍ اليهِ والى جائزته البائسة كتجربتهِ الشعريَّة، وحذفني شاعر كبيرٌ أُحبُّهُ لأنني قلتُ في تعليق تحت مديحٍ كالتهُ له إحدى الناقدات الجميلات ما معناهُ أن زمن الأُسطورة والفردية في الشعر العربي قد أوشك على الانتهاء وما الشاعر إلا صوت متفرِّع من كورس غنائي في سيمفونيَّة كونيَّة هائلة فيها الصوت الجميل وفيها الصوتُ النشاز، وحذفتُ شاعراً آخرَ لأنه كالرحى التي تطحن الحجارة، يملأ رأسي جعجعةً فارغةً منذ ست سنوات، وحذفني شاعرٌ آخرُ لأن المسكين يترصَّد بي في كلِّ حرف أكتبهُ ويظنُّ أنني أنافسهُ أو أهدِّدُ غروره الشعري وأن قصيدتي تشكِّل خطراً على نرجسيته المبالغِ فيها والفائضةِ عن حدها، وحذفني شاعرٌ فاشلٌ لأسباب لا أعلمها حتى الآن، وحذفتُ شاعراً أفشلَ منه لأنه منذ أربعين سنة يكتبُ القصيدة نفسها ما يجعلهُ يحسُّ بشفقتي عليه وعلى قصيدتهِ عبر حاستهِ السادسة ولا أُريدُ لهُ أن يتذوَّقَ هذا الإحساس المرير بشفقتي علي ما يكتب، وحذفني شاعرٌ بعد نقاشٍ طويل في مسألةٍ عروضيَّة بسيطةٍ أصابَ فيها وأخطأتُ أنا، أو لشكِّهِ بأنني أُحبُّ امرأةً يحبُّها وتستعصي عليه، لا تهمُّني صداقاتُ أشباه الشعراء أو معرفتهم، وأكبرُ شاعر على وجه هذه الأرض يستحق الحذف والرفض والنسيان وعدم تحيته بكلمة واحدة لو صادفتهُ في شارعٍ في مدينة بعيدة إذا كانَ هو نفسهُ استعلائياً وأنانياً وكاذباً في قرارةِ نفسهِ ويرفض الآخر ولا يرى غير أناهُ في قاموسِ الوجود الإبداعي، يستحقُ الرفض روحيَّاً، لكن ذلك لا يلغي قراءةَ منجزهِ، إذا كان ما يكتبهُ جديراً بالقراءة.
***
زغلول الدامور قيثارةٌ من السماء
سأشتاقُ إلى عصافير الشمال الملوَّنة التي سكنت تجاويف صوت زغلول الدامور، سأفتقدُ تنهدَّاتِ النعناعِ في أصابعِ امرأةٍ جنوبيَّة، ونداءاتِ الجبالِ على ناياتِ الغجرِ الرحَّلِ، أنا الذي كنتُ أرى في نغمتهِ ما أريدُ، وأتنسَّمُ عطرَ الزمن كأعمى يستدلُّ بنسيمِ الزنابقِ على الأشياء، جوزف الهاشم الأسطورة، القيثارة السماويَّة، النهر السحريُّ، ملكُ الزجلِ غير المنازع، صاحبُ الموَّال الأكثر عذوبةً وصفاءً واكتمالاً، يرحلُ بعد امتدادِ سبعةِ عقودٍ على تضاريسِ الغناءِ الجبليِّ العالي، لا أتذكر في أيِّ سنةٍ كان يتهادى صوته في سوقِ الناصرةِ القديم، صادحاً بالعتابا وبالمعنَّى والقرادي، ربما كانَ ذلك في نهايات الثمانينيات، شيءٌ في صوتهِ المغسولِ بالحبق والماس والبنفسج جعلني أتعلَّق بهِ، وبكثيرٍ من الشغف الطفوليِّ ( يا حلوه كاس حبك جرِّعيني/ وقبل ما تصدميني جي رعيني/ خيالك في طريقو جر عيني/ وصرت برموشها لم التراب).. اختزن الزغلول في نبرات صوته الشجيَّة أناقةَ روح لبنان، جماله، طبيعته، ماءهُ، هواءهُ، ترابهُ النديَّ وغناء حورياته الفاتنات، اختزن واختزل كل شيء، يخيُّل لي أنه المغني الأجمل للوجع والفرحِ اللبنانيين ومنشدُ تغريبةِ العشَّاق، من لم يطرب لتجليَّات جوزف الهاشم الزجليَّة من الصعب عليه أن يشَّم روائح لبنان عن بعد مئات الكيلومترات، صوته أشبهُ بوردةٍ حمراء من غيمٍ وماءٍ تتفتَّحُ على حدائق ونوافير وكنائس ومآذن وقرى في الجبالِ ونهاراتٍ زرقاء وليالٍ لا تنام، الترجيعات التي كان يتركها في دواخلنا محيِّرة هي تكفي من حيث الجمال والعذوبة والتجلِّي أن تطهرنا من النزوة والندم، هي قادرة أن تؤمئ للحروبِ أن إهدأي قليلاً فثمَّةَ من يريدُ التأمُّلَ أو الحلم، سأشتاقُ إلى عصافيرِ الشمالِ وإلى ترجيعات القيثارةِ السماويَّة (خذيني بعطفك وحلمك وعدلك/ لحتى ان غبت برجعلك وعدلك/ حلفتلك بجي وقلبي وعدلك/ وعد زغلول مش موعد غراب).
قصيدة (صدفة) لزغلول الدامور
صدفة التقو بعيونها عيوني
وعالبيت من غير وعد عزموني
وقلبي فلت مني و سبقني وطار
ومدامعي عالدرب دلوني
ولحقت قلبي و عملت مشوار
عبساط جانح ريح مجنونة
ومن غيرتي عليها خيالي غار
و تحارَب جنوني مع جنوني
وصّلت ... ولقيت القلب محتار
والــ عازمتني مقدّرة فنوني
وأحلى ما إيدي تحترق بالنار
عا بابها دقيت بجفوني
وسمعت صوت بيشبه الأوتار
حرّك شعوري و فيّق ظنوني
وقالت يا أهلا ... ودخلت عالدار
وعيونها بديو .... يحاكوني
وايدين مثل الشمعتين قصار
ما عرفت كيف و ليش ضموني
ولفّوا ع خصري داير و مندار
ولولا ما أجمد كان حرقوني
والشعر ياليلي بلا أنوار
من عنبر كوانين مشحونة
وجبين طافح بالحلا فوّار
خلاّ عقول الناس مفتونة
والحاجبين الجار حد الجار
سيفين بالحدّين ذبحوني
وجوز الحلأ عا دَينتين زغار
من الجرح بعد الذبح شفيوني
والأنف قمقم شايلو العطّار
لدموع أحلى زهور ليمونة
لو شافتو بيّا عة الأزهار
بتقول منّو العطر بيعوني
وخدين متل الزنبق بنوار
أكتر ما بدي عطر عطيوني
إلــ بيشوفهم بيقول توم قمار
جاعوا و طلبوا الأكل و المونة
وشفاف حمر بيسكرو الخمار
من فرد نقطة خمر سكروني
وسنان شال الفل منها زرار
بيضا بلون العاج مدهونة
والعنق مثل الخيط عالبيكار
مسكوب لا ورقة ولا معجوني
والصدر من أتقل و أغلى عيار
متحف درر و كنوز مدفوني
وتفاحتين بيبهرو الأنظار
عالصدر ... يا ريتن يقبروني
وعالخصر عيني بتحسد الزنار
لو مطرح الزنار حطوني
تا كنت أكشف قوة الأسرار
ومعليش لو مجنون عدوني
يا ناس هيدا اللي جرى و لصار
وتتصدقوني... و تا تعذروني
روحوا معي عا بيتها شي نهار
وتفرجوا عا حسنها من بعيد
وان ضل فيكن عقل... لوموني".
***
لن نختلف على شيءٍ بعدَ اليوم
لن نختلفَ على شيءٍ بعد اليومِ، لا على قيمةِ هنري ميلر الروائيَّة ولا على قيمةِ تشارلز بوكوفسكي الشعريَّة، لن نختلف على مفردةٍ نشازٍ ولا على خللٍ في الايقاع، لأنكَ تجيدُ الضغطَ على زرِّ محو الآخر، من دون أن تشتبكَ معهُ في نقاشٍ عابرٍ قد تنتصر فيهِ لفكرتكَ ويخسر هو، ما نفعُ قصائدك وقصائدي أمامَ هولِ المحرقة التي تعصفُ بوطنك، وابتلاعِ الخرابِ الهائل لبلادكَ واستكلابِ الانتهازيين الأشرار عليها؟ أليسَ من الأجدى لنا أن نصمت؟ أتفهَّمُ جرحكَ النرجسيَّ ولوعتكَ من انقلاب عوالمك الحلميَّة المتخيَّلة، أتفهَّمُ حجم وجعك الروحي وأشمُّ وردةَ يأسك، ليتكَ تنقلبُ على نفسك وقصائدك، ربَّما لم يكن الشِعر إلا مضيعةً للوقت، كصداقتنا تماماً.
***
صوتُ ريم بنَّا
خلق الله صوتَ هذه المرأة الجميلة من تنهيدة الحبق على شرفةٍ نصراوية، أو من ترجيع المياهِ في ساحةِ عينِ العذراء، صوتها ليسَ صوتاً تماماً، بل هو شيءٌ يشبهُ رائحةَ الربيع أو حفيف السنابل في حزيران، هو تلويحةُ العصافير للشمس، أو صدى زرقةِ بحر يافا، أو ربمَّا كان قارورةَ ضوءٍ صبَّ اللهُ فيها أصواتَ نساءِ الأرض جميعاً، صوتُ هذهِ المرأة الجميلةِ هو الاسمُ الحركيُّ لعشق هذه الأرض، وهو الوجهُ المضيء لجمال المرأةِ الفلسطينيَّة، وهو نافذةٌ على سماءِ المحبَّة تحرسُ أرواحنا والأغاني، كأنَّ في صوتِ هذهِ الغزالةِ النافرةِ في ظهيرةِ قلوبنا امرأةً عاشقةً ترقصُ في هبوبِ المطر، في شفقِ الريح ونوَّار القصائد.
***
تردُّد شعري
كنتُ محكوماً بالتردُّد الجميل المراوغ عشيَّة مشاركتي في مهرجان الشعر الفلسطيني - الصوت والصدى - الذي نظمَّته أكاديمية القاسمي في باقة الغربية بتاريخ 10/3/2018 داعيةً إليه نخبةً من شعراء ونقَّاد فلسطينيِّين كبار من الجليل والمثلث ومن مناطق الضفة الغربية، كان المهرجان أشبه بتوحيد شطري البرتقالة الفلسطينيَّة أو مزج الصوت الشعري الفلسطيني بصداهُ البعيد العذب، مشاركةٌ في مهرجانٍ كهذا من الواضح أنه سيكون لها أكثر من معنى ومغزى، فهي تأتي بعد شبه عزلة أدبية أعيشها بإرادتي نائيا بنفسي عن أجواء التنافس والنديَّةِ ومهاوي الشلليَّات، في النهاية اتخذتُ قراري وذهبتُ لأقاسم غيري من شعراء تعلَّمتُ منهم خبز القصيدة، مبتهجاً بحضور رموز شعرية كبيرة ومضيئة في سماء الإبداع الفلسطيني الحديث، كأنني أُعلن تمرُّدي الشعري الشخصي على فكرة نمطية لا شعرية في الأساس ولا تعترف بأن في استطاعةِ القصيدة أن تغيَّر شيئاً ما في هذا العالم التي تسيِّرهُ قوى لا شعريَّة، تهمِّشُ الشعرَ أو تعدُّهُ مجرَّد سقط متاع لا غيرَ، ولا بدَّ من التخفَّف منه سريعاً، من هنا تأتي مشاركتي كتمرُّدٍ خصوصيٍّ جداً على نفسي وسحبها من ظلالِ عزلتها غير المبرَّرة إلى فضاء الشمس والهواء وموسيقى الأوزان ومداراتِ الطير، لم أختر القصائد التي سأُلقيها في المهرجانِ برويَّة وتفكير، كنتُ في حالةِ نشوةٍ بلقاء أصدقاء مبدعين لم ألتقِ بهم منذ سنواتٍ طويلة، أو التقينا افتراضيَّاً من على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي، وللذكرى أقول أنني دائما كتبتُ ما كتبتهُ في الظلِّ، أو حتى في ظلِّ الظلِّ، وكنت أبتعدُ قدرَ استطاعتي عن التجمُّعات والشلليات الثقافية ولم أسعَ مرَّةً لأضواءِ المنصَّات ولا لهالات المهرجانات الشعرية ولا للملتقيات الأدبية التي دائما ما كنتُ أحسُّ بعضها يُفرض عليَّ فرضاً وبإصرار كبيرٍ من الأصدقاءٍ أو من النخبة المثقفة والأكاديمية في البلاد، ولا أريد أن أخوض في تفاصيل ليس هذا سياقها، أو أن أذكر أسماء فلسطينية وعربية كبيرة كنتُ دائم التنصَّل من دعوتها وإصرارها على حضوري الشعري.
***
تونسُ الشاعرة
قبلَ أن أخلدَ للحلم، أو أشربَ نخبَ الحبيبةِ الضائعة، قبلَ أن أفكَّ سيورَ القصائد الصغيرةِ، أو أدخِّنَ سيجارة ما قبل النوم، قبل الاستسلامِ لوثائقيات التاريخ الوهمي أو للأفلام الحديثة، قبلَ القهوة الليليَّةِ، وصودا العنب المكسورة بالعبير الخفيف أو بماء اللهفة، قبلَ الكتابةِ عن أصابع امرأةٍ فقيرةٍ تشبهُ ناياتِ الغجر التي تتبعني كالريحِ في البريَّةِ، قبلَ كلِّ حبٍّ سريعٍ وامرأةٍ غريبةٍ أعترفُ أنني تلميذٌ صغيرٌ للشعريَّةِ التونسيَّةِ العظيمة، الشعريَّة التي علمتني كيفَ أفتحُ عينيَّ للندى كزنبقتين وأن أرقصَ في ربيعٍ ممطرٍ، الشعريَّة التي أنحني لها انحناءةَ عاشقٍ وأرمقها بقلبِ شجرةٍ أو بعيني نجمةٍ مطفأة، والتي تسيلُ معها العذوبةُ الروحيَّة كما يسيلُ العذابُ من أصابعِ الشعراء أو الكحلُ من عيونِ قصائد الحُبِّ وعيونِ نسوةِ الهالِ والياسمين، الشعريَّةُ الفضيَّةُ الساحرة، فارعةُ الجمال والأنوثة، التاركةُ ضفائرها الصفراء الطويلةَ على مرمى زرقةٍ لا تُحدُّ تعلِّمُ عبَّادَ شمسِ الهواءِ التحديقَ إلى أعلى، أنا ربيبُ هذهِ الشعريَّة الطافحة بالعناقيد، أنا طفلها المشاكسُ، أنا تلميذها الصغير وسأظلُّ هكذا إلى الأبد.
***
الشاعر محمد الهادي الجزيري
محمد الهادي الجزيري شاعرٌ أصيلٌ من تونس التي لن نشفى من حبِّها ولا من تموُّجاتِ خضرتها في أرواحنا، مبدعٌ استثنائيٌّ وناثرٌ في غاية الرهافة، أُحبُّ أن أقرأ له وأتابع نصوصهُ العذبة الشفَّافة وثرَّة الجمال على مواقع السوشيال ميديا وفي موقع أثير العماني وغيرها، ولكن في زحمةِ هذا الفضاء المكتظ بالأمواج المتلاطمة وبالحارثين فيها ربما تاهَ كل منا عن الآخر بالرغم من كوننا صديقين منذ سنواتٍ طويلة، ولكن أقولُ شكراً للكاتبة الفلسطينيَّة المتميزة أنوار الأنوار لأنها قادته اليَّ ووضعتهُ في طريق قدري، وقدحت شرارة الصداقة والتواصل من جديد، ما جعلهُ يقرأ بصمت مجموعتي الشعريَّة (استعارات جسديَّة) ويعيدُ تفكيكها وتشكيلها في خياله الخلاق الخصب على ضوء ذائقة جماليَّة صافية لشاعر متميز.. جميل وصادق يحملُ نصُّهُ من الأصالة والتجديد ما يحمل، أثقُ بهِ وبقصيدتهِ المختلفة، وبحسِّهِ النقدي الموضوعي أكثر حتى من ثقتي بنقاد محترفين كبار، الجميل في الأمر أنَّ الجزيري قرأني كما يجب لشاعر عاشق مختلف، مسكون بتجليات الأنوثة والجمال والبروق الخضراء، وخرجَ بقراءة تحاورني بذكاء وتجاورُ روحي بلهفة وانعتاق، وبكثير من فيض المحبة، لم يفاجأني بأصالةِ روحهِ العالية أو بنبلهِ النادر بين الشعراء، أو بمحبتهِ لفلسطين وما تبدعهُ من مزامير علويَّة وقصائد في شفافيَّة الماءِ والضوء، إلا أنهُ قدَّم قراءة أحسستُ من خلالها بتآلف روحين يجمعهما الشعر ويحرسهما قمرٌ واحدٌ في الظلام، ماذا أقولُ لتونس؟ وأنا مهما سأكتب يا صديقي المبدع، أيها الجزيري الفذ النبيل الجميل، سأظل صدى أصواتكم العظيمة يا شعراء تونس، من أبي القاسم الشابي إلى أصغر شاعر تونسي يكتبُ الآن.. مروراً بالمنصف الوهايبي ويوسف رزوقة ومحمد الصغير أولاد أحمد وبك أنتَ وبالشاذلي القرواشي ومكي الهمامي وفتحي آدم وسلوى الرابحي وعشرات بل مئات غيرهم.
***
مطرُ أبريل
مطرُ أواخر أبريل أخضرُ اللون، كأوراق الزيتونِ أو كالعشب السماويِّ اليانع، لا أتذكَّرُ متى هطلَ قبلَ هذهِ المرَّة بغزارة هكذا، ربما في عامِ ألفين واثنين، كانَ ينقرُ بلَّور النوافذ نقرَ صغارِ العصافير، أو كأجنحةِ الفراشاتِ المخضلَّة، مطرٌ ناعمٌ، شفَّافٌ، من بقايا أحلامِ الطفولة، مشرَّدٌ ما بينَ السماءِ والأرض، يشبهُ نسيماً خفيفاً أو تنهيدةَ امرأةٍ تطلُّ على الأربعينِ بكاملِ تفَّاحِ أنوثتها، أو نهراً نحيلاً يرقصُ في الفضاء بقدمين عاريتين تزيلان طلعَ الريحِ عن وردةِ الزمن اليابسة، وآثارَ العواصف الرمليَّة التي خلَّفها الشتاءُ وراءهُ، مطرٌ نحتاجهُ لنعلو ونحلمَ ونخفَّ، لنعشقَ أكثرَ أو لنكتبَ أجملَ، نحتاجهُ لنحلِّقَ أبعد، مطرُ أبريل هو الطقسُ المفقود في لوحة القصيدة، هو القصيدةُ المائيَّةُ الخضراء.
***
مدنُ الساحلِ والنجوم
مرَّةً كانَ يحدِّثني صديقي عن تاريخ مدن الساحل الفلسطيني بينما كنت بشغف أراقب النجوم وأحدِّثه عن المسافات الخيالية والسنين الضوئية التي تفصل بين كل نجمة وأخرى.
***
روحي كغيمةٍ ضالة
آويت إلى فراشي لأنام ولكن كانت روحي كغيمةٍ ضالة تعبى تجوبُ الأرض مدينةً مدينةً من أقصاها إلى أقصاها.. من أصغر كوخ خشبي في طوكيو إلى أصغر زقاقٍ متسِّخ في بوينس آيريس يعجُ بالقطط الضالة والفتيان الذين يلعبون كرة القدم .. كنتُ أتحسَّسُ الاسفلت بيدي لأصدِّق أنني هناك .. وبالفعل مسستهُ.. هل هذه أحلام يقظة من تأثير (جوجل مابس)؟ لا أعرف.. هل أفرطتُ في التدخين أو شرب القهوة السادة اليوم؟
***
طريقُ الشعر
غالباً ما تقودك طريقُ الشِعر الى واحدٍ من ثلاثةٍ.. مجد أو صعلكة أو تسوُّل.
***
خفقُ الأنفاس
نوستالجيا
أنا كائن نوستالجي.. أفضِّلُ شوكَ الماضي على حريرِ الحاضر.. كيفَ تذكِّرني بالماضي وأنت غير قادر على إرجاع لحظة واحدة منهُ؟ لماذا تعذِّبني بلفتةٍ للوراءِ وبنداءٍ على حياةٍ لن تعود؟ ألا تعرفُ أنكَ تحيلني بهذه اللفتةِ وبهذا النداءِ الأصم شجرةَ ملحٍ لا تقربها العصافير؟ إذا قالَ ناظم حكمت (أن أجمل الأيام تلك التي لم تأتِ بعد) فأنا أنقضُ كلامه الرومانسيَّ العذبَ هذا وأقولُ إن أجملَ الأيام تلكَ التي ذهبتْ بلا عودة..
أنا كائن نوستالجي كلَّما كبرتُ كلَّما ازددتُ طيشاً.
******
شعراء الظل
البشرُ الهامشيُّون هم الأكثرُ هشاشةً ورقةً وعفويَّةً على تطبيقات واتساب وفايبر، المرأة التي كنتَ تظنُّها قاسيةً أو متسلِّطةً والتي أرهقتْ الرجالَ بصدودها وعنفوانها تصبحُ شاعرةً رقيقةً وامرأةً أخرى على واتساب في رسائلها الصباحيَّةِ لجارتها أو صديقتها.. في كلِّ كلمةٍ بسيطةٍ تقولها.. مرهقة.. اشتقتُ لكِ.. كأنَّ كلامَها ترجيعاتُ موجةٍ عاشقة أو أنَّاتُ محارةٍ في محيط، الرجالُ الأشدَّاءُ المتجهِّمون يصبحون عشَّاقاً قدامى و(جنتلمانات) حقيقيِّين وهم ينقرون بأصابعهم الغليظةِ شاشاتِ هواتفهم من أماكن بعيدة، ويتركون رسائلَ قصيرةً صادقةً وخارجةً من القلبِ يحملها رنينٌ مباغتٌ وناعمٌ إلى مساءات نسائهم. كأنَّ التخاطبَ عن بُعد يصفِّي أرواحَ البشَر من الشوائبِ والنرجسيَّة.
********
فوضويَّةُ القراءة
نادراً ما كنتُ أتركُ الرواياتِ في المنتصف، لم يحدث ذلك تقريباً معي في الماضي حتى لو بلغتْ صفحاتُ الرواية 700 صفحة، ولكنني في الفترةِ الأخيرةِ تركتُ الكثيرَ من الكتب في المنتصف، روايات، دراسات، دواوين شعر وغيرها، عشرات الكتب الالكترونية والورقية، لا أعرفُ السبب، كأنهُ هروبٌ من النهايات، سواء كانت سعيدةً أو حزينةً، أو بحثٌ أبديٌّ عن فسحِ التأمُّلِ في عالمِ المادة، ولكن لكي تقرأ فأنتَ بحاجةٍ إلى الإطاحةِ بناقوسِ القلقِ الوجودي الذي يسكنُ أضلاعَكَ إلى هاويةٍ منسيَّةٍ، هكذا تركتُ رائعة الكاتب الأمريكي الشهير همنغواي (وداعاً للسلاح) بعد مئة صفحة لأقفز إلى قراءة بعض كتابات جان جينيه وبورخيس وهنري ميلر، منهم انتقلتُ إلى كتاب (اللاطمأنينة) لبيسوا ثمَّ إلى عوالم كافكا الكابوسيَّة.. فجأةً وجدتُ نفسي مشغوفاً بالشاعرين العراقي حسب الشيخ جعفر والفارسي المتصوِّف فريد الدين العطَّار، أنا قارئٌ لا منهجيٌّ، أو صرتُ قارئاً لا منهجياً، حتى أنني أغلقتُ روايةَ (عندما بكى نيتشة) للكاتب الأمريكي إرفين د. يالوم قبلَ نهايتها بقليل رغمَ تأثري وإعجابي الكبيرين بها وأعدتُ قراءةَ المجموعة القصصية الرائعة (الخيمة) للكاتب المغربي المبدع محمد شكري وصوتي الداخلي يقول: أريدُ أن أسكنَ إحدى روايات أو قصص مجنون الورد هذا.. أو أسكنَ إحدى الأغاني المغربية إلى الأبد.. كم أنتَ جميلٌ ومختلفٌ يا محمد شكري.
********
القدس
لا أذهبُ إلى القدسِ كثيراً.. أذهبُ كلَّما اشتدَّ شوقي إلى السماءِ.. كأنَّ الله أقربُ إلى القدسِ من بقيَّةِ الأرضِ.. ثمَّةَ حنينٌ لشيء ما يرتطمُ بقلبي أنَّى توَّجهتُ.. ثمَّة أنبياءٌ غيرُ مرئيين يسيرون في الطرقاتِ ويطرحونَ السلامَ على العابرين.. وخروجٌ من هذا الوقتِ إلى وقتٍ آخر.. أكثر جمالاً واتِّساعاً.. في القدسِ يتذكَّرُ كلٌّ منا أُمَّهُ وحبيبتَهُ المنسيَّةَ.. ثمَّةَ كلُّ ما يحنُّ إليهِ شاعرٌ وعاشقٌ وقدِّيسٌ ومجهولٌ.. هواءٌ ناصعٌ.. أحجارٌ معجونةٌ بدمِ البشرِ الغابرين.. أقمارٌ مائية على الأرض.. ترابٌ مجبولٌ بهالات الضوء.. أشجارٌ عاشقةٌ.. كلُّ شيء تقريباً.. وشوقٌ مضاعفٌ للسماء.
********
اعتراف
أحياناً أشكُّ بأني كتبتُ قصيدةً حقيقيَّةً واحدةً.. ربمَّا كتبتُ شيئاً يشبهُ التمويهَ النفسيَّ.. كأني أكذبُ على أنايَ وعلى الآخر.. أو كلَّما حاولتُ أن أغوصَ في نصِّي لا أجدُ في جوَّانيتهِ البوح الحقيقي الخبيء في القلب منذ الطفولة.. لا أعثر على الاعترافِ البريءِ الذي يعبِّرُ عني كإنسان وكشاعر..
القصيدةُ كتبتْ نفسَها بنفسها إذن.. وأنا مجرَّدُ ذلكَ القروي الذي لا علاقةَ لهُ بالشِعر.. والذي تشتعلُ روحُهُ بوجعٍ غامضٍ.
********
هذه التفاصيل الصغيرة جداً ..جداً .. لامرأة تحملُ طفلتها التي لا تتجاوز السنتين بحمَّالةٍ قماشيَّةٍ ملوَّنةٍ على صدرها وهي تمسكُ بكلتا يديها روايةً من رواياتِ البيست سيلر وتتصفَّحها بشغفٍ سريع وهي تنظرُ في ساعة اليد مرَّة وإلى الطفلة الشقراء مرَّة أخرى، هذه التفاصيلُ الصغيرةُ جداً.. جداً.. ليتني أملكُ الأعصاب الباردة والنفس الكافي لكتابتها.
*
(10)
بينَ الحيرةِ والشغف
مراوغة مجازية
قبل عدة أيام سألتني مخرجة وصحفية فلسطينية كبيرة عن ابتعاد الشعر الفلسطيني عن السياسة والقضيَّة الأم، وعن أسباب هذا الابتعاد، في الحقيقة فاجأتني بهذا السؤال الصعب والمحيِّر في آن، أجبتها بإجابات كثيرة غير مقنعة تبدو أقربَ إلى الحجج الواهية منها إلى أي يقينيَّات أخرى، قلتُ في البدايةِ أنني من وجهةِ نظرِ النقدِ الموضوعيِّ شاعرٌ غير سياسيٍّ ينحو منحى جماليَّاً أو عاطفيَّا أو رمزيَّاً في أغلبِ الأحيانِ ويبتعدُ قدر المستطاع عن الهموم الشائكة.. بغض النظر كانت سياسيَّة أو غير ذلك، أهتمُّ أحياناً بجمالية الفكرة الإنسانيَّة أو أكتبُ من منطلقِ مذهبِ الفنِّ للفن، أحيانا تطغى روحُ المأساةِ والخسارةِ على كتابتي الشعريَّة على حدِّ تعبير الشاعر والناقد الأردني عمر شبانة، مع مزجي لمفاهيم حبِّ الوطن بالنوستالجيا العميقة وعذاباتها، تحدثتُ عن انتهاء زمن الشعارات والخطابية وصراخ الايديولوجيا الأجوف واللغة المباشرة وفكرة الفن للفن واختلاف أساليب الكتابة والتلقي والموضوعات وقلتُ أن الوقتَ تغيَّر وأساليب كتابة الشِعر أيضا تغيَّرت وما كان يصحُّ في الماضي لا يصحُّ الآن وعلى القصيدةِ الجديدة أن تتخلَّصَ من أسمالِ الشعارتية والتقريريَّة والصراخِ الأيديولوجي الأجوف الذي يعيقُ مشيها، وذكرتُ أنَّ بابلو نيرودا ولوركا شاعران سياسيَّان حتى في أشعار الغزل التي كتبوها لحبيباتهم.. ولكني لم أقل لها الحقيقة التي انتظرتها هي مني، والتي أهجس دائماً بها بأن سبب ابتعاد الشاعر عن الصراعِ السياسي يرجع إلى أسباب كثيرة ومتشعبة، من أهمها تركيبته الروحية الهشة والقلقة وعدم تصالحه مع الأشياء من حولهِ وانكساره الأبدي على ذاتهِ المتنافرة والمسكونة بشجاراتها الداخلية، هو يريدُ استثمار لحظات هدوء قليلة من أجل الكتابة والتأمل.
محمود درويش في الفترة الأخيرة فهمَ معادلة القصيدة الصافية واتجهَ نحو الآخر البعيد والمختلف ونحو العالمية من خلال قصيدة جديدة خالية من ضجيج السياسيِّ والأفكار المسبقة والبساطة، تشيرُ إلى صراع مرير وهيَ تشرحُ وجعَ الإنسانِ الحديث، من دونِ تكرارِ لازمة معيَّنة، بل تكفي الإشارة بمجازٍ خفيٍّ إلى الموضوع.
********
عبد الوهاب البياتي
في الثالث من آب عام 1999 رحل الشاعر العراقي المبدع عبد الوهاب البياتي وأظنه كان يوم أربعاء أيضا.. أحببت البياتي حبا روحيا وانشددت أكثر للسياب ولكن شيئا ما في قصيدة البياتي جعلني أتعاطف معها.. السياب في كلِّ استدعاءاته للمرأة أو تبرُّمهِ بمرضهِ كان يبكي بانفعال وغضب بينما البياتي في كلِّ تجليَّاتِ حبِّهِ كان ينتحب بأناقة وزهوّ وكبرياء، مرة سألت الشاعر الكبير سميح القاسم عن الفرق بين البياتي والسياب فقال لي أن البياتي طوَّر أكثر في أساليب كتابة القصيدة العربية الشيء الذي لم يتح للسياب لقصر حياته معأنه كان أكثر موهبة واحتراقا بنار الشعر ولكنه مات في أوج شبابهِ وعنفوان قصيدتهِ.. البياتي يشبه محمود درويش في نقطة مهمة جدا، أنه لم يكتسب أهميته الشعرية إلا في مرحلتهِ الشعرية المتقدمة أي أن دواوينه المبكرة برأي النقد لا تنطوي على اجتراح تغيير درامي وحقيقي أو زعزعة جذريَّة في بنيةِ الشعر العربي حينذاك.
ماذا يبقى من البياتي اليوم؟ يبقى منه كل شيء، خصوصاً الشغف الفطري بالحياةِ وجماليات النحيب الإنساني في كل ما كتبَ بدءاً من أواخرِ الستينيات حتى رحيلهِ.
***
الفيسبوك على حسناته يشكِّلُ دفيئة لابتذال العلاقات الإنسانية العميقة والحقيقيَّة بنظري، وأحيانا يعمل على هدمها في سبيل الترويجِ لقيم زائفة ونفاق اجتماعي ملوَّن، لذلك أحافظ على المسافة بيني وبين كاتبي الأثير وشاعرتي الأجمل.. من فرطِ عشقي لهما أبقيتهما خارجَ متاهتي الزرقاء هذه.
***
أصبحنا نقيس حياتنا بهذهِ المتاهة الكونيَّة (الفيسبوك).. نضبط حيواتنا على توقيتِ ساعةٍ وهميَّة زرقاء منذورةٍ للأرق، نتركُ (لساعات قليلة) صفحاتنا / ممالكنا الافتراضيَّة التي شيَّدناها من رمال التخييل ونحنُ ننظرُ إلى الوراء ملهوفينَ بأعيننا الداخلية، نعودُ بعدَ منتصفِ الليلِ على عجلٍ من سهرةٍ أو فرَحٍ عائليٍّ أو قدَرٍ طارئٍ لنغرق أكثر في دوَّامة العبث واللا جدوى، ننامُ متعبينَ حيارى ونصحو بقلوبٍ مشدودةٍ إلى سرابِ اللايك.
***
في أوائل التسعينيات كنا مجموعة من التلاميذ والأصدقاء وقد جمعتنا مناسبة مع أحد أساتذتنا في الأدب العربي آنذاك، فطلب منهُ أحدُ الحاضرين أن يذكر له أغزل بيت قالته العرب، تردَّد قليلا، أخذ بعدها بإلقاء أبيات لامرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة، ولكني بعفويَّة
ذكَّرتهُ ببيت أبو صخر الهذلي الذي يقولُ فيه:
وإني لتعروني لذكراكِ هزَّةٌ كما انتفضَ العصفورُ بلَّلهُ القطرُ
فردَّدهُ وسط قهقهات وسخرية البعض، منذ ذلكَ الحين لا أحد يعرفهُ سوى بلقب (أبو العصافير).. قبلَ أيام التقيتهُ ضاحكا وذكرتُ له قصَّة بيت أبو صخر الهذلي القديمة، وقلتُ لهُ بسيطة أستاذ.. يعني عصافير أحسن من كلاب وضباع ومن أي شيء آخر، آسف لأني ورَّطتك.
***
صحَّحتُ صباحَ اليوم بيتاً من الشعر القديم نشرتهُ احدى الصديقات الشاعرات.. من غير أن أبحث في جوجل أو في المراجع الأصليَّة، سليقتي العروضية هي التي دلَّتني إلى الصيغة الصحيحة.. طبعا البيت هو جزء من أغنية نُقلت ولُحنت على خطأ في الوزن.. والذي نقلها نسي أو تناسى أن جزءاً حيويَّاً هامَّاً من قيمة شعرنا العربي وإعجازهِ يكمنُ في موسيقاه وبحوره الشعرية التي يتفوَّق برنينها على شعريَّات عالمية أخرى، نتذكَّرُ قصة الديوان الأخير لمحمود درويش وعشرات المقالات الغاضبة التي كُتبت عن موضوع الخلل الوزني فيه، والضجة والجدل اللذين أثيرا حولَ بعض السقطات والهنات العروضية التي لم يكن الشاعر مسؤولا عنها.. بل هي نتيجة تسرع الناشر من غير تسليم الديوان لمراجعته عروضيا، كانت هناك كلمات في الهامش لم يلتفت اليها أحد، وضعها محمود بخط صغير ريثما يرجعُ اليها وقتَ تنقيح النص النهائي.
الشعرية العربية القديمة بنظري شيء أقرب الى القداسة وهي منجز لا يتوجَّب علينا أن نبدِّل أو نغيِّر فيها.. إذ أنه من الاستحالة أن نتقبَّل فكرة أن امرئ القيس وأبا نواس وجرير وابن الرومي والمتنبي والمعري كانوا يلحنون في العروض والبحور الشعرية، مشكلتنا أننا لا نتعامل مع تراثنا باحترام عندما ننقلُ شيئاً منهُ أو نختار مادةً للأغاني، والكلام موجَّه بشكل خاص ل (مطربي الغفلة) فينا.
البيت هو لشاعر يُدعى الخُبز أَرزي
? - 317 هـ / ? - 939 م
نصر بن أحمد بن نصر بن مأمون البصري أبو القاسم.
شاعر غزل، علت له شهرة.
يعرف بالخبز أرزي ( أو الخبزرزي )، وكان أمياً، يخبز خبز الأرز بمربد
البصرة في دكان، وينشد أشعاره في الغزل ، والناس يزدحمون عليه ويتعجبون من حاله. وكان (ابن لنكك) الشاعر ينتاب دكانه ليسمع شعره، واعتنى به وجمع له (ديواناً). ثم انتقل إلى بغداد، فسكنها مدة، وقرأ عليه ديوانه، وأخباره كثيرة طريفة.
فلو كان لي قلبانِ عشتُ بواحدٍ وأفردتُ قلباً في هواك يُعَذَّبُ
ولي ألف وجه قد عرفتُ مكانه ولكن بلا قلبٍ إلى أين أذهبُ
أصبحَ صدر البيت الأول في الأغنية ومئات المواقع الالكترونية على هذه الصيغة
(لو كانَ لي قلبان لعشتُ بواحدٍ)
***
الشاعر، الناقد، المثقَّف العربي الذين كنا نأمل منهم أن يقدِّموا لنا طروحات ابداعية وفتوحات جديدة في الأدب والشعر والنقد والفن وغير ذلك.. خرب الفيسبوك بيوتهم وجعل منهم مهرِّجين وبهلوانات في حفلات نساء الفيسبوك التي يتقافزون فيها بلايكاتهم وتعليقاتهم مثل السناجب البائسة.. هذه تعرضُ فتنة ونعومة أنوثتها وهاتيك تتباهي بشَعرها الحريري وبظهرها المنكشف وتبرز حدائق أعالي صدرها وهذه كل خمس دقائق تنشر صورة بوضعيَّةٍ جديدة وسحرٍ مختلف، (لستُ ضدَّ هذا) ولكن نريد خلخلةً حقيقية في منجز الأدب العربي الراهن، نريد قراءة موضوعية عميقة وذات بعد رؤيوي حقيقي.
***
قبل أيام أصابني الذهول وأنا أشاهد موسوعة القذافي بمجلداتها الضخمة الفخمة تزِّين رفوف احدى المكتبات الجامعية العملاقة، والآن يكتملُ ذهولي وفجيعة الشِعر العربي بهذه الموسوعة التي يجب أن تدخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية، بينما تصلني أحيانا رسائل من شعراء حقيقيِّين يشكون فيها أنهم لا يملكون ما ينشرون به ديواناً واحداً بعدما أكلَ الشِعرُ زهور أعمارهم.
***
في التاسع عشر من آب، ذلك اليوم المغسول بشمس صيفيَّة عاشقة رحل شاعران أحببتهما، فيدريكو غارسيا لوركا وسميح القاسم.
بعد أكثر من خمسين سنة على رحيل شاعر إسبانيا العظيم كان سميح القاسم يناجي روح صنوه لوركا المختبئ في أحد بيوت غرناطة هربا من جندِ فرنكو:
فد.. ري.. كو
قنديل الحزن قمر
الخوف شجر
فانزل
أنا أعلم أنك مختبئ في البيت
مسكونًا بالحمى
مشتعلاً بالموت
فانزل
أنذا منتظر في الساحة
مشتعلاً بلهيب الوردة
قلبي تفاحة
***
عن العالم الدكتور أحمد زويل
كم نحن شعب جحود وناكر للجميل، كنا ننتظر الموت التراجيدي للعالم المصري العظيم لنتغاضى عن قيمته العلمية وعن كلِّ ما قدَّمه للانسانية من فتوحات علميَّة عظيمة وإنجازات غير مسبوقة، ونشكَّ باحترام وتقدير كل علماء ودول الدنيا له، كنا ننتظر موته لنفتح أعيننا الكليلة على عثرات قليلة في مسيرتهِ الأسطورية، من غير حتى أن نتقصَّى الحقيقة، أو نقرأ عنه أي شيء، ومن غير أن نستمع لحوار واحد من حواراته التي يفيض بها اليوتيوب، لكن أحمد زويل يبقى أحد العظماء العرب الناجحين الأفذاذ وذلك ليس باعترافنا نحن بل باعتراف العالم بأسره، كان أولى بنا أن نصمت حزناً وأن تغصَّ قلوبنا بالدمع على رحيلهِ.
***
تسكُّع
الشيء الوحيد الذي مارستهُ بكل شغف روحي ومحبة نابعة من أعماق قلبي ولن أندم عليه في النهاية هو التجوال المفتوح أو (التسكُّع) على حساب كل شيء آخر من التزاماتِ حياتي.. فالانسان لا يعيش مرتين وأنا لا أحب سردَ التفاصيل، لماذا؟ وأينَ ؟وكيفَ ؟ومتى؟
التسكُّع في نظري هو معنى الحياة الأجمل.. حتى ولو كان ضلالا.
***
لا أحد من كم الشعراء والكتَّاب الهائل عبر لايكات وتعليقات المدائح الأسطورية صحَّح عبارة تلك الشاعرة التي كتبت ( قريبةٌ من سماؤك).. بقي الخطأ كما هو لأيام ولأسابيع وبقيت هي في نظرهم (الشاعرة الرائعة.. الكبيرة.. المبدعة.. المتألقة)
***
ليالي رمضان والفيسبوك
وحدها ليالي رمضان هي التي تشعُّ من قاعِ الماضي كالنجومِ العصيَّةِ على الانطفاء.. كأنها يدٌّ تلوِّحُ لي من مجرَّةِ السنواتِ الماضية.. لا أعرفُ السبب.. لكنني تقريبا لا أتذكَّرُ من الماضي سوى التماعات هذا الشهر.. بكل ما فيها من شوق متغلغل في الشرايين.. ولأنَّ روحانياتِه متغلغلةٌ في أقاصي الروح فإن شغفي بالقراءةِ والتأمل يزداد نوعاً ما فيه مقارنةً بالشهورِ الأخرى.
ليالي رمضان تتقاطع مع تجربتي الفيسبوكيَّة بشكل مذهل.. هذه التجربة التي كانت على المستوى الشخصي مميزَّة ومدهشة ومن أغنى تجاربي، لا لأنك تستطيع أن تتواصل وتتفاعل عبر هذهِ الفسحة الزرقاء مع الآلاف من الأصدقاء وتتأثر بهم وكأنك تجلسُ معهم في غرفةٍ واحدة.. بل لمحاولتك بناء شبكة صداقات حقيقية عميقة مع أفراد حقيقيين يبعدون عنك آلاف الكيلومترات.. أصدقاء يسألون عنكَ إذا ما غبتَ لأيام قليلة أكثر ربما ممَّا يسأل أصدقاؤك الواقعيون... شكرا لتلك الصديقة والمثقفة الرائعة التي حثَّتني مرارا على دخول هذا الفضاء اللا متناهي الجمال والتأثير قبل انضمامي الفعلي إلى الفيسبوك بسنوات وأظن كان ذلك في عام 2007، والتي كانت قارئة ذكية لكل قصائدي وأتذكر أن اسمها كانَ كرمل وهي من فلسطينيي الأردن.
ليسَ رمضان فقط الذي يختلفُ.. الأشياء والقصائد أيضا تختلفُ فيه.. تصبحُ أكثر شفافيَّةً وصدقاً ووهجاً ولمعاناً.. حتى الإنسان اللا ديني وغير الصائم يحبُّ رمضان.. كأنهُ يصالحهُ مع نفسهِ، كأنَّ هذا الشهر هو نسيمُ الحب الإلهي الذي يهبُّ على صيفِ الوجودِ بأسرهِ.
***
غالبا ما تشكِّل الكتابة توازناً روحانياً لي أو تبديداً لطاقةٍ غيرِ مرغوبٍ بها إذا احتبست فانها لا ريب ستكون ضارَّةً.. عندما تحتبس قصيدةٌ ولا أستطيع كتابتها لأيامٍ أو ربما لأسابيع على الرغمِ من تمايلِ أطيافها في مخيِّلتي فإنني أُرهق نفسي بالأعمال الشاقة حول البيت.. أخلق عملا من لاشيءٍ.. أو أذهب مشياً على الأقدام في رحلة إلى وادي صفوريَّة الذي يبعد عن بيتي حوالي سبعة كيلومترات وأعود.. ثم أخلد بعدها للنوم وأنا منطفئ من التعب.
إذا احتبست القصيدة أياما فأنت ستقاتل الهواء من العصبية بلا سبب.. حتى من غير أن يقلِّد أحد الأشقياء الصغار صوتَ الكلب قريباً من نافذة نومك.. أو يمازحك أحد الأصدقاء باتصال عبثي وهو يرغي كلاما غير مفهومٍ.. أو يقضُّ راحتكَ معتوهٌ آخر عبرَ إتصال مزعج في السادسة صباحاً بصوتٍ يشبه زعيق صفارةِ الإنذار.
***
لماذا يصرُّ بعض(الشعراء) الذين لا يعرفون البحور والأوزان على كتابة القصيدة الموزونة؟ طالما أنك لا تعرف البحر الكامل من البحر المتوسط لماذا تكتب عشرة أسطر على إيقاع الكامل وفي السطر الحادي عشر وبطريقة فجائية من دون سابق إنذار تصدمنا بجدار نثري سميك وغير موزون..؟ يا رجل إرحمنا.. هلكتنا.. كرهتنا بالبحور والأوزان.. تسوق بنا وكأنك في سباق رالي متهور.. تخفض من الغيار الخامس إلى الأول فجأة وتفرمل وأنت في أقصى سرعة.
***
الرجل المحظوظ في نظري هو ذلك الذي لا تتهمه زوجته بأنه متزوج عليها في الفيسبوك.. لا تصرخ وتولول ما أن تلمح صورة احدى صديقاته على اللابتوب: هذه هي.. هذه زوجتك الجديدة.. فعلتها وتزوجتَ علي.. يقول لها أنها مجرد صورة على الصفحة الرئيسية وأن آلاف الكيلومترات تفصله عن صاحبتها. حينها كل فلاسفة العالم وأنبيائه لا يقنعونها بأنه ليس متزوجا عليها كما تظن.. فقط صورة صديقة عابرة لا غير من الممكن أن تفعل الأفاعيل.
***
(المثقف العربي) ما أن يجلس على كرسي تحرير صحيفة أو مجلة مثلا فسرعان ما تصبح مزرعته السعيدة التي ورثها عن أبيه وأمهِ وسائر أجدادهِ. هو بهذا لا يختلف عن الطاغية العربي بشيء.. طبعا من غير تعميم.
***
(شاعرٌ لم ينل حقه) أصبحت أسمع هذه العبارة كلَّ يومٍ تقريباً من شعراء أصدقاء وشعراء لا أعرفهم حتى.. عن أي حق تتحدثون؟ أنا متنازل عن كل حق.. ثمَّ أنني لا أحيا حياتي كشاعر.. أنا لا أجيد تمثيل دور شاعر وكثيرا ما أهرب من أناسٍ عرفوا بطريقة ما أنني أكتبُ.. ليس بسبب مفاهيم سائدة تجعل من الشاعر مجرد شخص خيالي مريض بالوهم في عالم مادي بل بسبب خجل وراثي.. ويحدثُ كثيراً أن أفرح عندما يرشقني من أتخاصم معه من الأصدقاء بعبارة ( انت شاعر كذابي ومش عارف من وين بتسرق الشعر).. لكن أن تكون عابرا في شارعٍ ما ويتقدم منك رجل ستيني بسعاله وتبغه ويطالبك أن ترتجل شعراً..( بدك تقولي بيت شعر.. مديح.. هجاء.. غزل.. مش عارف شو.. ما بتركك) فذلك هو مأزقي الحقيقي.. أختلق له ألف عذرٍ سدى وأجيبه بأني لست شاعر ارتجال ولست شاعراً شعبياً.. لست زغلول الدامور ولا غيره.. ( عرفت انك شاعر وبدك تكتبلي قصيدة الآن) شو هالعلقة.. كيف أخرج من هذا المأزق؟ حتى لو كان حقي جائزة نوبل فإنني متنازل عنه.( واذا ما أخذت حقي شو رح يصير يعني أو شو رح يتغير بالدنيا؟)
***
أجملُ ما في الجوائز الإبداعية تلكَ التي تأتي بلا انتظار.. وأن تذهب لمن هو خارج توَّقعات الفوز بها، هي لفتة مهمِّة للمبدع البعيد عن دوائر أضوائها الذهبية، ورسالة غامضة أو مفهومة ضمنا لهؤلاء الذين انتظروها بلا جدوى، حتى شارفت أعمارهم على الانطفاء.
***
صوتها وهو يلقي قصائدي كانَ عبق فلسطين وزهورها وأشجارها السماوية وخريفها الملوَّن الذي لم أبرأ من حنيني اليه بعد، جمعَ فلسطين كلُّها في هذه البانوراما الخريفيَّة الشعرية بكل بهاء وضوء وألق منساب.
***
في الزمن الافتراضي من المستحيل تصفية هذه الأطنان من النصوص الفيسبوكية لاستخراج ذرة ذهب شعرية واحدة.. هذا الشيء يشبه البحث عن محارة في محيط، ولأن الفارقَ ما بينَ مبدعي ومدَّعي الفيسبوك هو حرف واحد لا غير، أصبحَ المبدعُ الحقيقيُّ كمن يشكُّ بذائقتهِ.
***
رحيل الروائي والمترجم العراقي المبدع حسين الموزاني وحيداً في منفاهُ البرليني خسارةٌ لا تقاس ودمعةٌ لا تجفُّ، خلال معرفتي القصيرة بهِ كانَ مثالَ المثقَّف الحقيقي الذي لا يعنيه لغوُ الكلام ولا الجدلُ العقيم لفرط انشغالهِ بالبحث عن المعنى الأعمق والأكمل والأنقى للجمال والابداع والكتابة.. كأن لا نصيبَ للمبدعين في هذه الحياةِ سوى القلق الوجودي العظيم والوحشة الأبدية والرحيل في صمتٍ وحزنٍ بعيداً عن ترابِ الوطن الأم.
***
لا أعرف كيف من الممكن أن يكون شاعرٌ له تاريخهُ ومنجزهُ واسمه مجرَّدَ شبِّيح بغيض؟ على أساس أن جوهر الشعر هو الإيمان بالحريَّة والمحبة والجمال والقيم الإنسانية العليا، هل يجد في هذا الخراب السوريالي الجحيمي الكامل الذي يطبقُ على سوريا كلِّها ما يُقنعهُ ك (شاعر) أو ك (مثقف) أو ك (إنسان)؟
***
ليست القصيدة سوى لعنةٍ جميلة، وشاعرٌ لا يرتضي لعنتهُ لا يُعوَّل عليه.
***
هل سأشفى من حبِّ قصائد الشاعر السعودي الكبير علي الدميني؟ لا أظن، قبلَ عشرينَ عاماً تتبعت هذا الشاعر المبدع بأنفاس محبوسة، جذبتني قصيدته بصوتها السحري كما جذبت السيرينات عوليس، منذ قراءتي لشهادتهِ المعنونة ب (لستُ وصيَّا على أحد) في كتاب (أفق التحولات في القصيدة العربية) وقد ضمَّ شهادات شعرية لأبرز الشعراء العرب وذلك في منتصف صيف 2001، كانَ الدميني أحد أجمل آبائي الشعريين وأحد الشعراء الأفذاذ الذين تأثرت بهم، كان صوتهُ قادرا على الاحتفاظ بأصالتهِ ونقائه ونصاعتهِ وألقهِ الأسطوري حتى لو تردَّد في قلبي مئات المرَّات.. وذلك هو الإمتحان الذي يجب على القصيدة أن تجتازه في طريقها للجمال الصرف والمجاز الصافي.. قصيدتهُ انتصار للحب، للحريَّة، للإنسانية، قلبي الآن نجمة مضيئة وليس مجرَّة فحم مطفئة، قلبي نجمة مشتعلة، وشبه ممسوسٍ بغبارِ الجمال الفضيِّ، لأنَّ يد هذا الشاعر المتفرِّد هي التي حملت أحد دواويني برمادِ غواياته السريِّ وبعثرته في وجه الشمس.
***
يتمنَّى الشاعرُ أن لا يتبدَّى له خسرانُ الشِعر المبين في صراعهِ اليوميِّ مع المادة.
***
طريقُ الشِعر محفوفةٌ بطمأنينةِ القلقِ الجميل.
***
قد تمتدُّ يدُ أحدهم لمحو إحدى حبيباتهِ القديمات من على سبُّورةِ ذاكرتهِ.. بعد أن تسوِّل له نفسهُ بنعمةِ النسيان.. ولكن أن يفعل شاعرٌ هذا مع إحدى ملهماته الأثيرات.. فذلك هو يأسُ الشعراء الأعمق.
***
يحدثُ أن يتوقَّف شاعرٌ عن الكتابة أو يكتبَ صمتهُ الأبديَّ البليغَ كما فعلَ رمبو.. وبمنتهى البساطة.. لا من أجلِ شيءٍ وليسَ لأنَّ أحلامه انهارتْ.. أو لأنَّ حبيبةً أو فكرةً هجرتهُ، بل لأنهُ سقطَ في عجزٍ روحيٍّ عن تحويل ما في الحياةِ من أشياءٍ لا تُحصى إلى شِعر.. العجزُ أحياناً موتٌ مجازي، والشاعرُ يشبهُ تلكَ الآلةَ السحريَّةَ التي تحوِّلُ القبحَ إلى جمالٍ والقوَّةَ إلى هشاشةٍ والأرضَ إلى سماء.
***
الأُمُّ والشِعرُ.. هل من المصافاتِ أن يتقاسما نفسَ اليومِ؟
رغمَ كلِّ شيءٍ كانا أجملَ اختصاراتِ الحياةِ، حلمَ البداياتِ وشغفَ المُشتهى.
***
أن أصدرَ ديواناً ولا يُكتب عنه خبرٌ في الصحافة الأدبية أمرٌ طبيعيٌّ جدَّاً بالنسبة لي ولا يزعجني إطلاقاً.. وهو أفضل بمليون مرَّة ممَّا يقعُ فيهِ الكثيرون من سقطات قويَّة.. كأن يكتب أحدهم خبراً عن صدورِ ديوانهِ الجديد واصفاً نفسه ب(الشاعر الكبير).. من المستحيل أن أصدِّقَ شاعراً يصفُ نفسه ب (الشاعر الكبير) حتى لو كانَ بابلو نيرودا ينطقها أمامي، كلمةُ شاعر هذه تشبهُ علاقةً سريَّةً بيني وبين قلبي، لا علاقةَ للآخر بها، وهذا ليسَ تواضعاً ساذجاً بل ثقةٌ مطلقةٌ بقصيدتي.
***
منذ خمس سنوات لم أفقد اللغة كما أفقدها الآن، أو تنكسر رغبتي بالكلامِ من دون سبب، أو لأسباب لا أعرفها، وأستبعدُ أن تكون هذه الفظاعة السريالية التي يعيشها عالمنا العربي، أو نفور نفسي من تضخُّمِ (أنا) البعضِ في فضاءاتِ السوشيال ميديا أو من هذيانات رومانسية مهترئة لا تمتُّ للواقع بصلة، منذ شهرين أحاول كتابة منشور واحد يزيدني قناعةً بجمالِ الحياةِ السريِّ، ولكني كمن يجاهدُ العبثَ حتى في هذا الأمر، كم هو صعبٌ أن تركضَ خلفَ خمسةِ آلاف صديقٍ في هذا المدى المترامي الزرقةِ، مع أنهم كلهم رائعون ويحدون بشكل حيوي من غربتك الوجودية، إلا أنَّ كلَّ هذا الركض الأعمى على حساب صحتك ووقتك وراحة قلبك وعائلتك، ولكن الحياة بكاملِ حالاتِ صعودها ونزولها تحتاجُ إلى هذا التوازن الروحي الإفتراضي الضروري، لا لشيء.. بل كي يستمرَّ خفقانُ الشعلة.
***
العبارةُ السوريةُ الرقيقةُ (دخيل قلبك) تعادلُ كلَّ القصائد في نظري.. لا سيما وأنَّ معناها المجازي هو (أُحبُّ قلبكَ).. أو معنى قريبٌ من هذا المعنى.. هذه العبارةُ تحملُ في طيَّاتها مزاميرَ عشقٍ لا تنتهي، خصوصاً عندما تقولها امرأةٌ لرجل بشكلٍ مباغتٍ ومن دونِ انتظار، عبارةٌ كأنها وردةٌ حمراء أو أمطارٌ حزيرانية تغسلُ غبارَ الظهيرةِ.
***
تابعتُ ردود الفعل التي أثارها اكتشافٌ نادرٌ لظهورِ أيقونة الأدب الفرنسي مارسيل بروست في فيلم زواج يعودُ إلى عام 1904، اندهشتُ أيضاً من إثارة الرأي الأدبي على الساحة العالمية ومن الجدل حولَ هذا الاكتشاف غير المسبوق، وكيفَ أن أستاذاً جامعياً كنديَّاً برتبة بروفيسور متخصِّص بدراسةِ أدب هذا الروائيِّ الفذ هو الذي اكتشفَ بعدَ لأيٍ ومتابعةٍ طويلةٍ اللحظاتِ السريعةَ لنزول الكاتب على درجِ الكنيسةِ التي أقيمَ فيها إحتفال زواج إبنة إحدى دوقات فرنسا والتي تربطها علاقة صداقة ببروست الذي يظهرُ في الفيديو معتمراً قبَّعةً طويلةً وغيرَ متقيِّد بطقوس ومراسيم الاحتفال، وهو المتمرِّد الأبدي على التقاليد الموروثة سواء في الأدب أو المجتمع، طبعاً الكاتب مارسيل بروست على حد قول غراهام غرين هو أعظم روائي في القرن العشرين لإنجازه أضخم عمل روائي في تاريخ الأدب الإنساني على مرِّ العصور، وهو مكوَّن من سباعيتهِ ذائعةِ الصيت (في البحث عن الزمن الضائع) التي ترجمت إلى أغلبِ لغاتِ العالم فضلاً عن العربية، ولكنها تعدُّ من أصعبِ الرواياتِ العالميَّةِ قراءةً على الإطلاقِ، لوعورة وكثافة لغتها وطولها إذ يبلغُ عدد صفحاتها أكثر من أربعة آلاف وثلاثمئة صفحة ويبلغُ عدد شخصياتها أكثر من ألفي شخصية، روايةٌ من مليون ونصف المليون مفردة مزجَ فيها الكاتب المتخيَّل بالواقعي والمجازي بالحقيقي هل هناك من يستطيع أن يتفرَّغ لقراءتها قراءة متبصِّرة الآن؟ ربَّما الذين يقرأون بروست الآن هم رجال الأكاديميا ودارسوه وهذا ما أسرَّهُ لي أحد أساتذة الجامعات ذات مرَّة.. وأضافَ أن كاتباً عبقريا كمرسيل بروست سيبقى عصيَّاً على اكتشافِ عوالمهِ السحريَّة إلى الأبد، حتى لو كلَّفنا عشرات الأساتذة المختصِّين بفك رموز عملهِ الأسطوري الذي كتبهُ من 1909 إلى 1922 مريضاً بالربوِ ولم يكن إلاَّ محاولةً يائسةً بإمساك خيوط الزمن الهارب.
***
لا أفهم مغزى هذه المقارنات والمفاضلات التي ينظِّرُ لها بعض النقَّاد هنا وهناك بين الشعراء، وفي أحيان كثيرة يعقدون مقارنة غريبة عجيبة بينَ شاعرين اثنين يتنافران ويختلفان كلَّ اختلاف ولا تتقاطعُ خيوط تجربتيهما مع بعضها البعض، ناهيك عن أن لكلِّ شاعر عالمهُ السري ولغته الخصوصيَّة جداً، من قال أن شعريَّة المتنبي تشبهُ شعريَّة أبي تمام؟ صحيح أن أبا تمام كانَ بمثابة أستاذٍ للمتنبي ولكن نفس المتنبي الشعري مختلف تماماً عن نفس أستاذهِ وطريقة صياغته أيضا تأخذ منحىً وأسلوباً مغايراً، المتنبي هو شاعرٌ فطرة وسليقة بينما أبو تمام يرتكزُ على صناعةِ قصيدتهِ وتنقيحها حتى ولو أغرق في المجازِ والبديع وشطَّ عن المعنى المراد، كذلك هو الأمر مع الشاعرين الكبيرين الفلسطيني محمود درويش والسوري علي أحمد سعيد أدونيس وإن صرَّح الأخير في أكثر من موقف ولقاء أن درويش يسبحُ في فضاءٍ شعريٍّ قريبٍ من فضائه هو.. ولكن من يقرأ بعمق تجربةَ كلٍّ منهما يعرفُ أنهما شاعران مختلفان ولا تنتمي لغةُ أحدهما إلى لغة الآخر.. مع تأثر بسيط لدرويش بلغة أدونيس الشعرية في بداياته، مع أنني أميل إلى اعتقاد أن لغة درويش الشعريَّة أقرب إلى بساطة وجمال لغة الشاعر العراقي سعدي يوسف منها إلى لغة أدونيس التي ترهقها الفكرة المؤطَّرة والذهنية والهاجس الفلسفي والغموض، وأوافقُ الرأي الذي يقول أن جمالية اللغة الشعرية لدى درويش تتفوَّق في كثير من المواضع على جماليَّة لغة أدونيس الشعريَّة بالرغم من أن القضيَّة تحكمها الأذواق لا أكثر، درويش شاعر موهبة وفطرة كالمتنبي وأدونيس شاعر حدس رؤيوي كأبي تمام له كشوفات وفتوحات غير مسبوقة على مستوى التجريب الشعري، ولكنهُ لا يتقيَّد بنظام عروضي كدوريش الذي تنصاعُ قصيدته لنظام التفعيلة بصورة صارمةٍ وهذا نادراً ما نجدهُ عند أدونيس.
***
لا شيءَ يثيرُ الاشمئزاز أكثر من قراءة كتابات تمجيد المثلية الجنسية والسحاق، أحترم خصوصيات الآخرين وحرياتهم الشخصية ولكن الأمر غيرُ سويٍّ ولا منطقي بنظري، أقرأ عشرات التعليقات والردود بل ربما المئات منها ولا أدلي برأيي الشخصي وكأنَّ الأمر لا يعنيني، أبقى صامتاً كصخرةٍ، لا أريد أن أقتنع بهذه الجدالات التي تدخلني في دوار سريعٍ وغضب روحي، لا قوانين في الطبيعة تقبل هذه الفكرة التي لا تعادلَ فيها، أسألُ نفسي كيف ولماذا يدافعُ الآخرون عن هذا الخطأ / الخطيئة التي أرفضها من منطلق جسدي قبل أن يكون ديني أو عقائدي، كيفَ يتزَّوجُ رجلٌ برجلٍ وامرأةٌ بامرأةٍ فيما كلاهما خلقا لكي يكمِّل أحدهما نقصان الآخر في الحياة، من الممكن جدا أن أختلف مع الكثيرين حول هذا الموضوع ولكنني لن أندم على رأي أو قناعةٍ ما دمتُ مستسلما للفطرة القرويَّة الجميلة.
***
لا أعرف إن كانت هذه القصائد التي أنشرها تباعاً هي ذاتها التي أردتُ كتابتها فعلا.. لا أدري.. ولكن أحيانا أمتلئُ بالشعر ولا أكتبهُ.. أكونُ ربما في ظرف غير مناسب أو بعيداً عن القلمِ والورقة أو عن حاسوبي الشخصي.. ربما تكون قصائدي المنسيَّة أجمل بكثير من تلك المكتوبة والمنشورة ولكنني لا أحفظها.. أحيانا تتشكَّلُ القصيدة نهاراً وتأخذ شكل قصيدة النثر وعندما أجلسُ لأكتبها في الليلِ أجدها تلبَّست لبوس التفعيلة من غير قصد وجعلت تركضُ كالغزالةِ خلف فكرة القصيدةِ النثرية التي تشكَّلت في النهارِ كغيمة.. لا شكل للقصيدة.. القصيدةُ هيَ التي تشكِّلُ نفسها بنفسها وتتكوَّرُ كنهدٍ صغير.. كقبلةٍ على طرفِ فمِ امرأة.. هيَ التي تبدأُ كهبوبِ نسيمِ الحُب.
***
(11)
قوسُ قزحٍ على جبلِ الكرملِ
بين نجوميَّةِ الشاعر وأهميَّتهِ
في الآونة الأخيرة لفت انتباهي جدلٌ حول مسألة أهميَّة المبدع ودور الإعلام والنقد ودور المؤسسات الثقافية وغير الثقافية في تلميع إسمه وصورته وصنع هاله من النجوميَّة حوله، مع وجود فرق شاسع بين النجومية وبين الأهمية، فهناك شعراء عظام لم يكونوا نجوماً بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، عاشوا حياتهم بكل خيباتها وانكساراتها على الهامش، الشعريات العالمية المختلفة تشهد على ذلك ومنها الفرنسية والانجليزية.. لوتريامون..بودلير.. نرفال.. رمبو.. ادغار ألن بو.. ديلان توماس.. شيلي.. ووردزورث.. والقائمة طويلة جدا.. عندنا هناك مثال على ذلك في الشعرية العربية ينطبق على تجربتي نزار قباني وبدر شاكر السيَّاب.. نزار نجم شعري كبير ومتوهِّج.. السياب شاعر مهمٌّ وعابر للزمن.. هنا لا نقلِّل من قيمة نزار ولكن السياب شعريَّا بنظري ربما يكون أهمَّ من كلِّ مجايليهِ بما فيهم نزار، وتحديداً في مرحلة صعود قصيدةِ التفعيلة، وإن افتقرت حياتهُ إلى هالة النجوميَّة تلك، من الممكن أن لا يتفق معي الكثير من النقاد في رأيي ولكن في حينهِ كانَ السيَّاب الشاعر الذي اخترع لغةً مائيَّةً بالغةَ الخصوصيَّة تستندُ على الرومانسية الواقعية من جهةٍ وعلى نزوع إلى التعبير عن خلجات النفس بلغة جديدة ومختلفة، فيها نفس وجودي متدفق من جهةٍ أخرى، هو بكلِّ بساطة ورغم قصر حياته حاولَ اجتراح آفاق مجازية تعبِّر شعريَّا عن حالةِ القلق التي كان يعاني منها الشاعر العربي الحديث، مع أن عمر السياب الشعري لم يتعدَ العشرين سنة.. وامتد عمر نزار الشعري الى ما فوق خمسين سنة فكرَّرَ نفسه في قصائد لا تحصى، السياب توهَّج وانطفأ سريعاً ولكنه ترك بصمةً لا تُمحى وغيَّر مجرى القصيدة العربيَّة إلى الأبد، بينما كانَ نزار شاعر حب جميل ولغة شفافة عذبة تدغدغُ القلوب رغم أنه لم يترك أثراً عميقاً في الشعريَّة العربية كأدونيس مثلاً، أو محمود درويش أو سعدي يوسف، يبقى واحداً من أجمل عشرة شعراء عرب على مر العصور.
***
الشاعر محمد بنطلحة
وأنا أبحث عن صفحة الشاعر المغربي الكبير الصديق محمد بنطلحة على فيسبوك أجدهُ يبعثُ لي طلبَ صداقة وبعد ذلك يردُّ على تحيَّتي برسالةِ محبة هي من أجمل وأرقى وأبهى الرسائل التي تلقيتها من شاعر أحبُّهُ وأحترم منجزهُ الأدبي المدهش، نعم أحبُّ هذا الشاعر المختلف والحائز على جوائز شعريَّة عربيَّة وعالميَّة كثيرة منها جائزة الأركانة، وأُحبُّ قصائدهُ الانعطافيَّة البلوريَّة التي تشكِّلُ جسراً بين الشعرية العربيَّة والشعريَّة العالميَّة لأنها تشبهُ بصفائها المرآة الروحيَّة لكل من يقرأها ولأنها على مستوى عالٍ من الأناقة التعبيريَّة والصدق الفني والتجريب الشجاع ولأن الصديق العزيز محمد يمتلكُ من الشفافية والأصالة والنبل وقيم المحبة والموهبة الحقيقيَّة ما لا نجدهُ عند الكثير من أقرانهِ الشعراء، ما يخوِّلهُ إلى أن يُعتبر في نظر النقد العميق والجاد أحد أجمل الأصوات الشعريَّة العربيَّة الراهنة التي تحتلُ مكانةً محترمةً على ساحة الشعر في العالم والتي تعملُ على مشروع شعري مهم بصمت وهدوء وبلغة شديدة الخصوصية والتميُّز، شاعرَ قلبي محمد أستعيرُ منكَ ما قلتهُ أنتَ...
دعْ لي يا نديمي
جوربَ الدفلى
وشِسْعَ الأرغن الحجريِّ
أو عرِّج على آثار ضرب الخطِّ في سبأ
فإن سريرةَ الممحاةِ معراجي
وإن دمي غريمي.
***
حالةُ نرفانا
حالةُ النرفانا التي قلَّ نظيرها والتي رأيتها بأمِّ عيني في مساء الأحد الخامس عشر من يوليو عام ٢٠٠٧ تؤكِّد أن هذا الرجل الوسيم ذا المسحة الطفولية الحزينة والكبرياء الرومانسي الآسر شخصٌ غير عادي أبداً، كان يبعد عني بضع قبلات ولكنني لم أستطع أن أخلِّص نفسي من مزاحمة الآلاف لاحتضانهِ، كانَ نجماً شعريَّاً بكلِّ ما تنطوي عليه هذه الكلمة من معانٍ ودلالات، أمسيتهُ النادرة تلك حقَّقت تآلفاً وطنيَّاً حميماُ وإن بشكل مؤقت، مع الاستئثار الرسمي لجهة معيَّنة بالحدث والأضواء، كيفَ استطاعَ درويش جمع كل ألوان الطيف الفلسطيني في قوس قزحٍ يستندُ على جبلِ الكرملِ الأشم؟ كيفَ وحَّدَ تيارات السياسة والأدب المختلفة والمتضاربة تحت سقف واحد في أمسيته الرائعة تلك؟ سرعان ما انتهت النرفانا الشعريَّة وغاب الشاعر في الدهليز العميق بلمح البصر كقمرٍ مصابٍ بالعشق، ذلك الكائنُ الأسطوريُّ المسمَّى محمود درويش كان محاطاً بوهجِ محبَّةٍ يضيءُ القلوب إلى الأبد.
للذين يقولون أن المغني اللبناني مارسيل خليفة كانت له يدٌّ ما في صناعةِ نجوميَّة درويش الشعريَّة أقول أن مارسيل خليفة لا علاقة له بأهمية محمود درويش ودراسات كنفاني وغيرهِ لأدب المقاومة الفلسطيني في بدايات درويش لم يكن لها أهمية تذكر أيضاً في مسيرته آنذاك.. أهميةُ شاعر مثل درويش تستندُ على قوة تجربته وموهبته وكاريزماه الشخصية وقصيدته، الإعلام لا يصنع شاعراً ولكن درويش استفاد من قضيَّة وطنه وعرفَ كيفَ يوظِّفها مجازيَّاً وبأبعاد إنسانيَّة جميلة وراقية في قصيدتهِ، وكان يجدِّد ذاته الشعرية وينقلبُ عليها بعد كل ديوان.. شعره الكوني الانساني أهمُّ بمليون مرة من شعره المقاوم وهذا الشيء جعل طبقة كبيرة من مثقفي اليهود في اسرائيل تقرأهُ بكلِّ إعجاب بقيمته الشعرية الإنسانية الكبيرة، أحمد شوقي والبياتي وقباني والسياب كُتبت عنهم رسائل أكاديمية كثيرة ولا تحصى ولكن هل هناك دراسات جديدة عن البياتي وقباني مثلا؟ محمود كانت شعريته أعمق وأبعد أثراً لذلك فهي ستعيش أكثر وستدعمها الدراسات الأكاديميَّة وستضيء جوانبها، لذلك هو برأيي الشخصي يعدُّ الشاعر الثاني بعد المتنبي من حيث الأهميَّة في الشعر العربي كلِّه، وربما تكون شاعريَّة أحمد شوقي بينهما، فامتلاك درويش الموهبة الفذة وكل مقوِّمات الشهرة والنجومية كشاعر ساعدَ في تكريسِ شاعريَّته لحراسةِ حلم فلسطين وفي أن يصبح آخر الشعراء الإنسانيِّين العظام، هو شاعرٌ آمن بحلمه منذ البداية فتحقق، وتحقَّف كما يريدُ هو، لا سواهُ وكفى.
***
شعراء الفضاءِ الأزرق
لا أكاد أُحصي عدد الشعراء والكتَّاب على مواقع التواصل الاجتماعي، أن تُحصي عددهم فتلك مهمَّة مستحيلة كأن تعد ذرَّات رمل في صحراء شاسعة أو تحصي محاراً في محيط متلاطم، المشكلة الحقيقيَّة في المواقع الاجتماعيَّة أنها ساهمت ولو بصورة غير مباشرة بتضخِّم الأنا الوهميَّة حتى حدود الغرور لدى الكثير من الشعراء والكتَّاب، فنادراً ما تجدُ شاعراً أو كاتباً يقرأُ لزميلهِ قراءة متبصِّرة أو متأنيَّة بهدف معرفة الآخر وتتبُّع خيوط تجربته الكتابية والوقوف على منابعها الحقيقيَّة، ربما يكونُ الانغلاق على الذات السمة الغالبة التي لا أستطيع استبعادها من تفكيري وأنا أتابع صفحات أصدقائي على مواقع السوشيال ميديا، هذه السمة هي التي تؤدي في النهاية إلى القطيعة الشخصيَّة وحتى إلى العداء الصريح.
***
رائحةُ أيلول
لأيلول رائحةٌ تشبهُ غموضَ رائحةِ الحُب، هو من أجملِ الأشياءِ التي يصعبُ تفكيكها، أجملُ القصائد هي تلك التي تولدُ في أيلول، هناكَ براعمُ غير مرئيَّةٍ في الهواء الطلق، هناك نسيمٌ أنثويٌّ يغسلُ الصباحاتِ والعشيَّاتِ بمرورهِ العذب الأنيق، أيلولُ أرجوحةُ الشهور، عاشقٌ تغرَّبَ في صحراء الكناية، امرأةٌ تحلُّ ضفيرتها على مرأى خضرةِ الزيتون، لو لم يكن أيلول في الأرض لاخترعته خيالات الشعراء.
***
صداقةٌ افتراضيَّة
أن يكون لديك 5000 صديق على أحد مواقع السوشيال ميديا أغلبهم من خارج فلسطين، ليس معناه أنك سوبر ستار وهمي أو نجم افتراضي أو فقاعة شخصيَّة تظنُّ نفسها مهمَّة في أحد المجالات التي تحبُّها، فالكتابة على الحائط الأزرق مجانية إلى حد السخافة وتشبه الحرث في البحر، والصداقات الافتراضية بقدر ما تبدِّد العزلة والوحدة فإنها تكرِّسها وتعمِّقُ هوَّتها مع الزمن، للصداقة في هذه الفضاءات وجهان، ظاهرٌ يريك الابتسامة والتودُّد والجمال الإنساني، وخفيٌّ متجهِّم موغل في الأنانية والازدواجية والخصومة، صداقتك التي بنيتها خلال خمس أو ست سنوات مع الآخر من الوارد جدا أن تنتهي بضغطة زر واحدة وفي أي وقت يشاء الطرف الآخر.. فكيانك محكوم بمزاجيتهِ ونرجسيتهِ الافتراضيَّتين.. وإلا فما معنى أن تنتهي صداقةُ من كان من أقرب أصدقائك إليك ولا يمرُّ يوم أو يومان إلا ويكلِّمك؟ وما معنى أن تؤدِّي كلمة تودِّد واحدة إلى محو علاقةٍ استمرَّت لأكثر من خمس سنوات مبنيَّةً على الثقة والعفويَّة والصدق، حافرةً في التفاصيل الإنسانية البريئة والصغيرة جدَّاً، من دون أن تلتفت لحظةً واحدةً لصوت الرغبة أو لفحيح النزواتِ العابرة؟
***
(صبرا فتاةٌ نائمة)
(كانت ليلةً غريبةً جداً وهادئةً، كانت السماءُ مضاءةً بالقنابل الضوئية وكأن المخيَّم تحوَّل إلى مدينة أشباح، لم ندرك حينها أن مجزرة من أفظع مجازر التاريخ البشري الحديث تُرتكب هناك، عندما شاهدنا الذي حصل لم نكن لنصدِّق أعيننا) كانَ هذا مقطعاً من شهادة أحد الصحفيين الأجانب عن مجزرة صبرا وشاتيلا التي حصلت في السادس عشر من سبتمبر عام 1982.
ولكنك عندما تستذكر تاريخ مجزرة رهيبة كمجزرة صبرا وشاتيلا في ذكراها الخامسةِ والثلاثين فإنك تنسى أسبابها ولا تفكِّر بكلِّ تلك الحيثيات السياسيَّة والتفاصيل الدقيقة، لا تعنيك الوثائقيات التي شاهدتها أكثر من مرَّة على يوتيوب ولا النصوص الأدبيَّة التي خلدَّت قسوةَ الإنسان على أخيه الإنسان وفظاعة الانتقام ووحشيته، لا تتمثَّلُ شيئاً الآن يعيدُ ذاكرتك إلى رمل ذلك المخيَّم المسربل بالدماء، لأنك فقط تريدُ أن تحتفظ برائحة لبنان البحريَّة في نفسك، لبنان وطن الجمال الذي لم يكن يعني لك شيئا سوى الرحابنة وفيروز وجبران والشعراء الذين فُتنتَ بهم، وصوت زغلول الدامور المعجون بالآس، وغنج النساء الساحرات، ولأنك تعرف أن هناك أسراراً مخفيَّة رهيبةً ما زالت طيَّ الكتمان حول هذه النقطة السوداء في تاريخ لبنان الحديث، ما الذي سيعيد توازنَ روحك أمام هذا الخراب الإنسانيِّ الصاعق.. لا شيء.. فأجملُ القصائد لو اختبرتها حتماً ستنطفئ أمام فوضوية الموت ومجانيَّة الفظاعة والوحشيَّة، كم حياةً نحتاجُ حتى ننسى صبرا وشاتيلا ونحنُ نصرخ بملء أرواحنا: لماذا؟!
***
خذ من تحبُّك
قلتُ في إحدى قصائدي (قيلَ لي في قرىً في شمالِ فلسطينَ
خذْ من تُحبُّكَ لا من تُحبّْ) وهذا مجرَّد قولٍ نقلتهُ إلى قصيدتي كما هو بعدَ أن سمعتهُ خلال نقاشٍ رجلين حولَ علاقةِ الرجلِ بالمرأة، لاحظتُ بعد نشري القصيدة تفاوت وجهات النظر واختلاف بعض النساء عليها وامتعاضهن منها ولهنَّ الحقُّ في ذلك، مع أني على الصعيدِ الشخصيِّ لا أقفُ ضدَّ فكرةٍ محدَّدةٍ مسبقةٍ كما أقفُ أمامَ سذاجةِ هذهِ الفكرة التي تبدو لي عمياء، أو خاليةً من المنطق.. إذ كيفَ يتزوَّجُ الرجلُ من لا يحب؟ كم من الساديَّةِ تدخلُ في تجربةِ الحبِّ التي من طرفٍ واحدٍ؟ والأنكى من ذلك أن أسمع أحد اصدقائي المثقفين يبرِّرُ لي هذه الفكرة دائماً بقولهِ: أن تحبَّكَ امرأتك خيرٌ من أن تحبَّها أنتَ فتستغلُّ هذا الحبَّ المفرط لتحقيقِ رغباتها ومطالبها.. أن تحبك فمعناهُ أنها ستتنازلُ عن أنانيَّتها وتتعلَّقُ بك إلى الأبد.. وكأنَّ المرأةَ كائنٌ قُدِّرَ له أن يبذلَ ويخلصَ ويحبَّ ويضحِّي من غيرِ انتظار مقابلِ، وفي هذا استحالةٌ لا يقبلها عقلٌ ولا يرضاها قلب، أيُّها الرجل تزوَّج من تحبُّها.. من تحبُّها بقوَّةٍ ودعكَ من خرافاتِ التقاليدِ البالية.
***
(12)
عن الشِعرِ والأنوثةِ وأوَّلِ المطر
حكي عالماشي
لمن نكتبُ الشِعر وننشرهُ ونطبعهُ بعدَ ذلكَ في دواوين أنيقةٍ في زمنٍ لا تجدُ أحداً يسأل عنه.. أو يسعى لقرائته وشراءِ الدواوين الشعريَّة سوى نخبة النخبة أو الشعراء أنفسهم؟ أمسِ صباحا كنت في مدينة شفاعمرو أقرب المدن في الداخل الفلسطيني إلى قلبي وقريتي، التقيت هناك بأصدقاء مثقفين أعتز بهم.. قمت بإهدائهم نسخاً من دواوين شعريَّة لي كانت معي في حقيبة تلازمني أحياناً عندما أزور بين الفينة والأخرى مدناً فلسطينيةً كحيفا أو الناصرة أو يافا أو جنين أو نابلس وغيرها.. أزور المكتبة البلدية وأتركُ عدةَ نسخٍ من هذا الديوان او ذاك، لتكون هناك وللتخفُّفِ من وجعٍ وجوديٍّ في داخلي لصراخ هذه الكتب المركونة في بيتي منذ سنوات، البارحة صدمني أحدُ الأصدقاء بوابل من أسألة وجودية.. لماذا توزِّع ولا أحد يقرأ؟ ولماذا لا تبحث عمَّن يدعمك.. معنويا.. ماديا؟ مركز ثقافي؟ مؤسسة ثقافية ربحيَّة تشتري منك الكتابَ ولو بربعِ أو حتى خمسِ سعرهِ؟ وما الذي تنتظرهُ من هذا الأمر؟ أليسَ الأجدى أن توفِّر تعبكَ ومالك وتستثمرهما في أشياء أكثر أهميَّةً وجدوى مشيراً إلى إرسالي لكتبي عبر البريد الأرضي والجوِّي لأصدقاء ومكتبات في البلاد وخارجها؟ كانَ يتكلَّم بحرقة ولأنه مقرَّب مني ويعرف أنني لستُ مليونيراً؟ وأمارس أحيانا أعمالا شاقةً لأعتاش.. أوضحتُ له أن الكتابةَ لديَّ إيمانٌ طفوليٌّ ممزوجٌ بتسليةٍ عبثيَّة لا أستغني عنها.. فيها أجدُ معنىً لحياتي ولا أنظرُ إليها على أنها خسارةٌ مطلقةٌ، أعطاني في النهاية رقم أحد الأشخاص وقال لي أنه بائع كتبٍ لمكتباتِ المدارس والمدن والقرى، عندما هاتفتهُ في المساء وطرحت عليه الفكرةَ أصبحَ يصرخُ ويولولُ كالمجانين ويقول لي: (كل شي ولا كتب الشعر والأدب.. مش مستعد أشتريها ولو بقرش أصفر.. وما تسألني ليش؟!)
***
نيكوتين إلكتروني
أن يصيب خلل ما حاسوبك الشخصي وتستيقظ صباحا مكتفيا بالهاتف الخلوي الذي لا تستسيغ أستعماله فيسبوكيا وبك كل عطش الدنيا للنيكوتين الالكتروني.. دليل قاطع على تحولنا لكائنات افتراضية طائرة.. واختبار نفسي لذيذ يؤكد التواشج الحميم الجميل في العلاقة والتعلق بالآخر.
***
لغةُ الفيسبوك
يستعمل بعض الأصدقاء والصديقات لغةً جارحة.. قاسية.. عارية تصلُ أحيانا حد الشتيمة الشخصية وهم يعبرون عن امتعاضهم من تجاهل أصدقائهم لمنشوراتهم وصورهم على مواقع السوشيال ميديا وعدم تفاعلهم بتاتا مع وجودهم فيها.. مع أن هذا غباء أو شيء قريب منه.. تماما كالاحتفاء بأصدقاء افتراضيِّين لم تحظ منهم ولو بلفتة واحدة عبر خمس سنين.
***
أوَّلُ المطر
منذ الصباحِ والمطرُ الأوَّلُ يهطلُ، حيناً بغزارةٍ وحيناً آخر برذاذٍ خفيفٍ، كم أُحبُّ المطرَ الأوَّلَ أو أوَّلَ المطر والذي نسمِّيهِ (الوسميَّ).. لم أهدأ اليوم.. لأكثر من ساعتين وأنا أتأملُّهُ بعينيْ عاشق، أمُدُّ يدي من نافذة غرفتي وأشمُّ رائحتهُ النهارية.. تلكَ الرائحة المعجونة بخميرة أزهار بريَّة، والتي تحملُ شيئاً من رائحةِ السماء، وشيئاً من رائحةِ غبارِ الأرضِ، وأشياءَ لا تحصى من الأحاسيس الجميلةِ والذكريات، أُبلِّلُ قلبي بمطر تشرين.. أتقافزُ تحتهُ كالقطِّ الصغير، لا أعرفُ ما هو تشرين، أقربُ الشهورِ إلى روحي التي وُلدت مساءَ أربعاءٍ فيهِ،وحملتْ بعض غموضهِ وبرودة شمسهِ وشغفَ نهاراتهِ بالجمال، تشرينُ قصيدةٌ غامضةٌ نقرأها مئات المرَّات وفي كلِّ مرَّةٍ نكتشفُ فيها شيئاً مغايراً أو مختلفاً عمَّا وجدناهُ في قراءاتنا السابقة، تشرين هو مهدُ الشعراءِ المصنوعُ من قطنِ الغيمِ ومن براءةِ الينابيعِ الصغيرةِ، تشرينُ يدُ امرأةٍ من الجليلِ موشومةٍ بالحنَّاء.. خصرُ فتاةٍ أهيف.. روحُ شاعرٍ منسيٍّ.. قصائدُ ضاعتْ في مهبِّ رياحِ الخريف، لا أعرفُ ما هو تشرين.
***
فرادةُ حسين القهواجي
أكتبُ وأبحثُ عن الحقيقيِّين في الواقع وفي العوالم الإفتراضيَّة.. أكتبُ وأشطبُ، أكتبُ وأنسى.. أكتبُ وأرمي في سلَّةِ المهملاتِ.. أبحثُ عن كلِّ شيءٍ يعيدُ توازنَ روحي إليَّ، عن كلِّ شيءٍ يضيءُ روحي ولو كانَ بحجمِ ذرَّة رملٍ أو نقطةِ ماء، أبحثُ وأفشل ولكن كيف لم أعثر على إنسان كحسين القهواجي الشاعر والكاتب التونسي الذي غادر عالمنا قبل أيَّام؟ كانَ حسين القهواجي ذاكرةَ القيروان المشعَّة وحارس قلبها وأحلامها، وأحد أصفى منابعِ البراءةِ والدهشةِ في الشعر العربي الحديث، مثقَّف جوَّال بروح فراشة أو نجمةٍ أو شجرة، تركَ شيئاً من شغفهِ في آجُّرِ أعمدةِ القيروان ومبانيها العتيقةِ، في وهجِ صلصالها وفضاءاتها الانهائيَّةِ، كم تركَ حسين في داخلي من يقين بالشِعرِ وبالفنِ وبحبِّ الجمالِ حتى ولو كانَ بعيداً وعصيَّ المنال، تنفَّسَ حسين عبر النثرِ الشعريِّ العفويِّ الممسوسِ بالصدق واللهفة وتركَ واءهُ عدَّة دواوين هي بنظري من أصدق تجارب قصيدة النثر التونسيَّة، نذكرُ من أعماله «غراب النبوءات»، «باب الجلادين»، «كمان البيت وشمعدانه»، «أحفاد سقراط وصلوا قرطاجة»، «فجر من وراء الزيتون ينهض».
رثاهُ الكاتب أنيس الشعبوني رثاءً رقيقاً صادقاً حيث قالَ عنهُ ( حسين القهواجي كان يعتبر نفسه حارساً للمدينة (القيروان) ولروحها كأنّه أحد أوليائها الصالحين، وقد أحبه كل الذين زاروا القيروان لشاعريته المفرطة وعمق إلمامه بتاريخ المدينة).
***
الشِعرُ في عُهدةِ الأنوثة
قرأنا في كتب التراث والأدب الجاهليِّ كيفَ أن كلَّ شاعرٍ كبير كانَ يتخذُّ راويةً لهُ، والراويةُ هو شاعر مفترض أو مشروع شاعرٍ مستقبلي مهمتهُ إلقاء قصائد ذلك الشاعر والتي يحفظها عن ظهرِ قلبٍ في المحافلِ والأندية، كانَ بمثابة جهة إعلامية تساعد على انتشار وسيرورة شِعر من يروي لهُ، والشعراء جميعاً، هم في أول أمرهم بالشعر رواة شعر، ولا يكون الشاعر منهم شاعراً حتى يحفظ الشعر ويرويه، لانَّ الحفظ يساعده على قول الشعر ونظمه فيما بعد، ويكون تمرينناً أوليَّاً له، فأكثر شعراء العرب في الجاهليَّة وصدرِ الإسلامِ هم رواة في الاصل، حفظوا من الشعر ما ساعدهم على النظم، يضاف اليه موهبة الشاعر وسليقته فيه. وقد يقال إن الشاعر الراوية أمكن في الشعر وأقدر عليه من الشاعر، الذي لا يروي من الشعر الا نزراً يسيراً، أو لا يحفظ منه شيئاً، لأن الشاعر الراوية يتعلم من فنون الأقدمين ومن خبرتهم وتجاربهم في النظم ما يخفى على من ليس له علم سابق بهِ.
وقد ذكر أهل الأخبار أسماء عدد من شعراء الجاهلية في قول الشعر بروايته وحفظه، ثم صاروا من أكابر الشعراء فيما بعد، نذكر منهم زهير بن ابي سلمى، فقد بدأ حياته في الشعر راويةً لشعر "أوس بن حجر"، وكان أوس راوية الطفيل الغنوي وتلميذه. ومنهم "كعب بن زهير بن ابي سلمى"، فقد كان راويةً لوالدهِ، ثم "الحطيئة"، فقد بدأ الشعر براوية شعر "زهير" وآل زهير. وكان "زهير" راويةَ "طفيل" الغنوي أيضاً، وكان "أمرؤ القيس" راوية "أبي دواد" الإيادي، وكان الأعشى راوية لشعر "المسيَّب بن علس"، والمسيَّب خال الأعشى.
ولا نكاد نجد شاعراً لم يحفظ شعرَ غيره من الشعراء المتقدمين عليه، أو من المعاصرين له، ولا يكون شاعراً فحلاً في الشعر، إلا إذا حفظ من شعر غيره من الشعراء الفحول، فحفظ الشعر يدربُّهُ ويقوِّيهِ على نظمهِ، وكذلك كان أمرُ الشعراء الجاهليِّين، ويؤيد هذا الرأي ما نجدهُ في الأخبار من حفظ الشعراء شعر غيرهم، ومن مناقشتهم للشعراء في شعرهم، مما يدلُّ بالطبع على حفظهم له.
ما جرَّني لكتابة هذا التعريفِ برواةِ الشعر القدماء ظاهرة فيسبوكيَّة إستوقفتني موخرَّاً بشيءٍ من الحيرةِ والإستغراب، بعدما اكتشفتُ أن إحدى الصديقات احتفتْ بأحد نصوصي الشعريَّة قبل ما يقارب العام، حيث حصل ذلك النصُّ المنشور في صفحتها على 249 لايك و94 تعليق.. بينما لم يحظَ بصفحةِ كاتبهِ على عُشرِ هذا العدد من اللايكاتِ.. وبلا أيِّ تعليقٍ، مع الإشارةِ إلى أن عدد أصدقاء صفحتهِ يشكِّلُ أضعافاً مضاعفةً لعدد أصدقاءِ صفحةِ الصديقةِ التي نشرت القصيدة، هنا ينبثقُ السؤال الملِّح والأبديُّ.. هل على الشاعر أن يتخِّذَ من المرأة راويةً على طرازٍ حديثٍ لشعرهِ كي توصلهُ إلى حدودٍ تُرضي نرجسيَّته الشعريَّة؟ هل عليهِ أن يعلِّقَ قصائدهُ على حبالِ الأنوثةِ والجمالِ لكي يقرأها الآخرون في زمنِ متاهاتِ الرياءِ والمجاملات والنفاقِ الاجتماعيِّ؟
***
طعمُ الشغف
وأنا في الطريقِ للقاء الشاعر الفلسطينيِّ الصديق المقيم في الجليل الفلسطيني عبد المحسن نعامنة كنت أفكِّرُ بصدر بيت المتنبي (على قلقٍ كأنَّ الريحَ تحتي) وأحاولُ تحويرهُ ليصبحَ (على شوقٍ كأنَ الريحَ تحتي) ذلكَ أن صداقتنا الافتراضيَّة طالتْ وصارً يجبُ على أن نضفي عليها جمال اللمسة الواقعيَّة ونستبدلَ المجازَ بالحقيقة، فكثيرا ما محضني هذا المبدع الأصيل محبته الصافية عبر منشورات تدلُّ على إعجابه ببعض ما أنثرهُ في الفضاءات الزرقاء وكنتُ كلَّما رأيتُ ما خطَّت أناملهُ من وفاءٍ يتلبَّسُ لبوس الكلمات أقولُ في سرِّي: شكرا لقلبك صديقي على هداياك الجميلة والمدهشةِ.. نادراً ما أصادف رجالاً بمثل شفافيَّتك وبساطة روحك وأناقتها حتى وأنت في خضمِّ العمل الشاقِّ الذي تمارسهُ لتعتاشَ.. أتذكَّرُ حينَ قلت لي ذات يومٍ أيها العزيز بأنَّ القصيدةَ هي كلمة نقولها ونمضي.. شجرةٌ نزرعها لآخرين.. وأنا أوافقك وأثق بك.. بصداقتك الحقيقيَّة القريبة من الحبِّ ونبلِ الصدق.. كلِّي فرحٌ غامرٌ بما أقرأ لك من أدبٍ يدلُّ على روح مثقفة متوثبة ثائرة وحالمة بالحرية.. أحسُّ بروحك الوثابة في كل جملةٍ، أحسُّ بثورة روحك كجمرٍ تحت الرماد يعانقُ الريحَ الخضراء، صداقتنا باقية وستكتملُ وقد كان يجب أن نحوِّلَ الافتراضَ الى واقع منذ زمن.. بعد انتظار خمس سنوات ونصف.. سأقولُ بأنني أنتمي إليك.. إلى هذه الطبقة المقدَّسةِ التي تأكل خبزها المغمَّس بعرق الجبين.. وهي تضحكُ في وجهِ عذاباتِ الحياة بعذوبةِ الأنهار.. قابلتُ في حياتي مئات الأدباء والشعراء ولكن لقائي المرتجل بك على عجل كان استثنائيا ومميَّزاً.. كان الشغفُ الصافي يحملني.. يفكِّرُ عني.. يحرِّكني كأوراقِ شجرِ الخريفِ في تلكَ الظهيرةِ الغامضةِ، ليس لأنك من نفس الجيل الذي أنتمي اليهِ شعريَّاً وعمريَّاً فحسب، ولا لأن أفكارنا السياسية تتوافق.. ولا لأن الأرواح جنود مجنَّدة فما تعارف منها ائتلف وما تنافر اختلف.. بل لأسباب عديدة.. لا أجد المجاز المناسب الذي يشرحها الآن، ولكن سأفسِّرها بالقصائد ذات يومٍ، وأنا الذي كثيراً ما طلبتُ منك أن تكرِّس نفسك للكتابة وتحرص على كل حرف وتحميه من الضياع.. أن تكملَ نقصانَ هؤلاء الشعراء المنسيِّين، وأن تلتفت الى نبض قلبك والى هذه الرسالة التي نمهر حياتنا لها.. من غير انتظار مقابل.. فالشعر هو مجاز حياتنا المجرد.. هو هامش يتأرجح بين المتن والحقيقة.. هو أحدُ أجمل وأعلى وأكملِ تجلياتنا.
***
قصيدةٌ بلا أيديولوجيا
يتهمُّ البعضُ قصيدتي بأنها قصيدة بلا أيديولوجيا أو أنها خالية من موقف فكري سياسي محدَّد، لا أعرف أيَّة أيديولوجيا يريدون مني أن ألبسها لقصيدة ترقص حرَّة وشبه عارية تحت المطر وفي الهواء الطلق؟ الأيديولوجيا بنظري تختلف اختلافاً جذريَّاً وقاطعاً عن مفاهيم سائدة وبالية لا أعتبرها تدخل في صلب ما تعنيه لي هذه الأيديولوجيا ولا تبلور رأياً نقديَّاً بحتاً وموضوعيَّاً بالنسبة لكتابتي الشعريَّة، فقصيدتي ليست دفاعاً عن فكرة سياسيَّة أو دينيَّة أو قوميَّة.. بقدر ما هي لمسةٌ شغفيَّة وبعدٌ إنسانيٌّ وخربشةٌ بريئةٌ على الماء، مجازُ القصيدة هو فضاءُ حريِّتها.. لذلك فهي دائماً مع الخاسر والضحيَّة على حدِّ قول الرائي الإسباني العظيم فيدريكو غارسيا لوركا، سبقَ وعبرَّتُ بنصوص كثيرة عن الخراب الهائل الناتج عن الخريف العربي وخسرتُ أصدقاءً رائعين ولكنني كنتُ مرتاحاً لأنَّني نطقت بكلماتٍ كانت روحي تغصُّ بها، سألني مرةً صديق: مع من قصيدتك؟ فأجبتهُ: مع تشي جيفارا، مع الحريَّة الخاسرة، مع لثغة طفلةٍ في الخامسة، مع نقشِ حنَّاءٍ على يدِ امرأةٍ فلَّاحةٍ، قصيدتي هي فرحي وحزني وغضبي وحُبِّي واكتمالي ونقصاني، أيدولوجيا قصيدتي الحقيقيَّة هي إعتناقُ الجمالِ كما هو بدون رتوش إضافيَّة، ورفضُ مرايا التاريخ الأسود.. هي محاولة للقفز عن كوابيس حصلت في أمكنةٍ ما في هذه الأرض.. كوابيس أحاولُ نسيانها ورفضها منذُ حروبِ البشريَّةِ الأولى إلى ما يجري الآن في سوريا واليمن والعراق وغيرها.
***
ظهيرة ورديَّة
في مدينةِ جنين في شمالِ قلبِ فلسطين تحسُّ بطيبةِ وكرمِ وأناقةِ روحِ الشعبِ الفلسطينيِّ وأصالتها.. في جنين والقدس وغزَّة ورام الله ونابلس وغيرها من مدنِ الضفَّة الغربيَّة.. تشعرُ بانتمائكِ الروحي لهذا الشعبِّ العظيم بالرغم من الحواجز الوهميَّة.. أقولُ في جنين تحسُّ بذلك الأمان النفسي الجميل الذي لا تمنحك إياهُ لا حيفا ولا الناصرة ولا يافا، وتشعرُ بعفويَّةِ الناسِ وبساطتهم ونبلِ أخلاقهم، في ظهيرةِ جنين الخريفيَّةِ الورديَّةِ كانت طفلةٌ بشعرٍ ذهبيٍّ وعينينِ بحريَّتين، طفلةٌ آيةً في الجمالِ والعذوبةِ، أظنُّها في السادسةِ أو السابعةِ من عمرِها، تتسوَّلُ المارَّةَ في منطقةِ المدينةِ الصناعيَّة.. تقتربُ من كلِّ رجلٍ بخطىً خجولةٍ وصوتٍ مرتعشٍ (ساعدني عمَّو.. الله يخليك).. يكرمها الجميع بسخاء.. للوهلةِ الأولى تكسرُ هذه الطفلةُ قلبي.. تطفرُ من قلبي دمعةٌ وأنا أقتربُ منها وأُعطيها ما فيهِ النصيب.. أنحني عليها وأسألها (عمَّو ليش تشحدي.. ما عندك أهل؟) فتنزلقُ من عينيها دمعةٌ غير مرئيَّة وهي تجيبني بصوتها المائيِّ (عمَّو.. أبي متوفي وأُمي مريضة).. تنكسرُ روحي من هولِ حرمان الأب.. ومن ضعفِ الأُم.. لأوَّلِ مرَّةٍ أنكسرُ بهذا الوجعِ أمامَ طفلةٍ في ظهيرةٍ ورديَّة.
***
(13)
وردٌ على رمادِ القصيدة
سهمُ النقدِ الذي لا يجرح
لاحظتُ أن الكثير من أصدقائي الشعراء العرب يمتعضون ويأخذون على خاطرهم حينما يُصوِّبُ ناقدٌ ما سهماً صغيراً ليِّناً من جعبتهِ إلى بعض مفاصلِ تجاربهم الشعريَّة.. مع أن هذا السهم النقدي لا يجرحُ أبداً وأقلُّ حتى من أن يخدشَ ولكنهُ يتركُ أثراً سلبيَّاً لا يُمحى في نفسِ صاحب التجربةِ المنقودة، لا أعرفُ ممَّ ينبعُ هذا الغضب؟ أهو عدمُ ثقةٍ بالقصيدةِ بشكل خاص أو التجربةِ بشكل عام؟ مرَّةً قالَ الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري أن أكبر كارثة يُمنى بها الشاعر إبداعيَّاً فقدانُ الثقةِ بما يكتبُ، حينها يستطيعُ أصغر ناقدٍ في الدنيا أن يستثيرَ أعصابهُ ويشتِّتَ فكرته، وأتذكَّر حادثةً جرت بينَ أمير الشعراء أحمد شوقي وبين الموسيقار محمد عبد الوهاب حين وجدهُ الأوَّل حزيناً بسبب النقد الجارح الذي كيلَ لهُ في الصحافةِ المصريَّةِ المكتوبة، فما كان من شوقي إلا أن أحضر جميع الجرائد التي نشرت مقالات النقد وطلبَ من عبد الوهاب أن يقفَ عليها بعدَ أن صفَّها عموديَّاً وسألهُ: هل رفعتكَ أم حطَّتك؟ لا يخفى علينا طبعاً المعنى المجازي الذي قصدهُ أميرُ الشعراء شوقي من وراء فعلتهِ تلك، ولكن هذه الحادثة كانت نقطةً مفصليَّة هامَّة في تجربةِ عبد الوهاب الفنيَّة، بالنسبةِ لي شخصيَّاً طالما فضَّلتُ النقد الإيجابيَّ على المديح والإطراء، وطالما تمنَّيتُ ممَّن كتبَ عن تجربتي أن لا يكونَ محابياً مطرياً أو مدَّاحاً مجاملاً على حسابِ صداقةٍ أو ودٍّ.. بالقدر الذي أريدهُ فيهِ أن يكونَ صارماً وقاسيَّاً وباحثاً عن الهفواتِ الصغيرةِ في قصائدي.. فالنقد الصريح أنفع لتجربةِ الشاعرِ من كلام المديح، بعبارةٍ أخرى.. لماذا يُرهبنا النقدُ إلى هذا الحد؟
***
سيبقى الشعرُ حارسَ أحلامنا
فقط في دور النشر العربيَّة أصبح الشعرُ سلعةً كاسدةً أو موضوعاً بلا قُرَّاء، كل دار نشر يتوَّجه إليها شاعرٌ ما بغضِّ النظر عن مستوى كتابتهِ، فإنها تتأفَّف وتتململ كأنما بُليت بمصيبةٍ تقصمُ الظهر والرجلين معاً.. إحدى دور النشر المرموقة ولأسبابٍ شخصيَّةٍ كثيرة أمتنعُ عن ذكر اسمها لأنَّ ما حدثَ لي معها أصبحَ شائعاً وكثير الحدوث مع غيري من الشعراء والكُتَّابِ الشباب لدى دور نشر لا تُحصى، ظلَّت هذهِ الدار ولأكثر من عامٍ تمارسُ عليَّ نوعاً من الكذبِ المبطَّن، وأحياناً (الإستهبال) الصريح وأنا أستفسرُ عن نشر مجموعتي الشعريَّة التي وعدوا بطباعتها وكانوا يصرُّون في ردِّهم عليَّ أنها جاهزة ومعدَّة للطباعةِ وبعد شهور طويلة يقولون أنها طُبعتْ وموجودة في مطبعة دار النشر وبعد ذلك بشهور يقولون أنها في طريقها لتُعرض في مكتبةِ الدار نفسها.. وفي كلِّ مرَّة أتصِّلُ بهم يؤكدِّون فيها على فراغهم من نشرها وهم يستعدِّون لتسويقها وتوزيعها ووو الكثير الكثير من الكذب و(الإستهبال) الخرافي حتى جعلوا من المحيط الأطلسي بيارات حمضيَّات.. ولكن الحقيقة أنه لم تُطبع حتى ولو كلمة واحدة من الديوان،لا أدري السبب.. أيكونُ الإستخفافَ بقيمةِ الشعر إلى هذهِ الدرجة؟ لا يا أصحاب بعض دور النشر أو النشل كما أطلق عليكم أحد الأصدقاء، لن أقف عند هذهِ التجربة الموجعة، يا من تريدون إلغاء الشعر أو تسليعه أو المقايضة بهِ أو تدجينه وحبسه في الأقفاص المكيَّفة.. لا.. سينتصرُ الشعر عليكم وعلى أفكاركم المحكومةِ بالأرقام.. الشعر باقٍ وسيبقى نارنا المقدَّسة وحارس قلوب العشَّاق ومصباح أحلامنا في الليالي والنهارات وسيِّد رغباتنا.. سيبقى خارجِ أُطر حساباتكم وتصنيفاتكم ودوائركم الضيِّقة وهوائكم الفاسد.. لن تقيِّدوهُ بنظريَّاتِ أرقامكم والمصارف البنكيَّة والترَّهات.. سينتصرُ عليكم الشعر حتى لو خُيِّل لكم أنكم نجحتم في هزيمتهِ المؤقَّتة.. سيبقى الشعرُ وستذهبون وحدكم بحسابتكم وأرقامكم وترَّهاتكم إلى هاويةِ الجحيم.
***
أتذكَّرُ سيناء
أتذكَّرُ سيناء، بجبالها الرماديَّةِ المشغولةِ بقوسِ قزحٍ ورديٍّ في الظهيرةِ.. أتذكَّرُ أهلها الطيِّبين وهم يدعون أيَّ ضيفٍ عابرٍ أن يقاسمهم أنفاسَ الشيشة أو البيض المقلي وصحن الفول المدمَّس ونضارةَ النهارِ الأزرق، أتذكَّر سيناء وأهلها يصنعون من حديدِ الخيالِ محاريثَ وحذواتٍ لخيولِ الصحراء.. أتذكَّرُ دربها المستقيمَ يقسمها لنصفين متوازيين، الأوَّلُ للشمسِ والثاني للقمرِ.. مدىً ورديَّاً لا يُحدُّ ضارباً للزرقةِ.. فلَّاحةً تغسلُ وجهها بماءِ صنبورٍ من فضَّةِ الولهِ والاستعارةِ، قوافلَ تغربُ خلفَ الكثبان الرمليَّة، وأغانٍ مبعثرةً كأغاني الغجرِ على طريقِ الكحلِ والنعاس، أتذكَّرُ ذلك الزمنَ الجميلَ المخشوشن/ الناعم، الحميميَّ العذب، براءةَ ناسهِ وبساطتهم وشغفهم بالحياة.. أتذكَّرُ كلَّ شيءٍ تقريباً قبلَ دخولنا في زمن ملوكِ الطوائف وفوضى الدماءِ ومجانيَّةِ الحروبِ والمراثي.
***
رمادُ القصيدة
أتركُ ديواني بعدَ طباعتهِ لشهور.. لسنوات.. وأنا أتجنَّبُ اكتشافَ أيَّ خطأٍ تعاميتُ عنهُ فيهِ، ثمَّ أعودُ إليهِ كالملهوف.. أتصفَّحهُ على عجلٍ ثمَّ أقرأه رويداً رويداً بصوتٍ داخليٍّ، أتلمَّسهُ كأعمى يتحسَّسُ تمثالاً في مدينةٍ شرق أوسطيَّة، كامرأةٍ ولهى تتقرَّى يدَ حبيبها، أبتعدْ عن ذاتي الشعريَّة لأراها تلتصقُ بي كقطَّةٍ خريفيَّة، تمسِّدُ ظهرَها بي، أقولُ في نفسي: من هذا الرجلُ الغريبُ الذي كتبَ هذهِ القصائدَ؟ ومن أجلِ منْ؟ أُحدِّقُ في تعرجاتِ الحبرِ كمن يبحثُ عن زنبقةٍ غير ورئيَّة، وكأني أراهُ للوهلةِ الأولى، الآن أختبرُ رضايَ عن قصيدتي بمقاييسَ ومعاييرَ ثانويَّةٍ لا تخطرُ على بالِ أحد، ثمَّةَ رائحةٌ للقصائد، ناصعةٌ.. شفَّافةٌ.. كحليَّةٌ.. زرقاء، رائحةٌ تشبهُ شهوةَ الريح، لا شرقيَّة ولا غربيَّة، تشبهُ طعمَ الوله، خفيفةٌ، حزيرانيَّةٌ تملأ القلبَ بنرجسيَّةِ عاشق ونداءاتِ قدِّيس، أضعُ قصيدتي على المحك، أتخلَّى عنها كما تفعلُ أمُّ صغارِ النوارسِ، أتركها في الريحِ الشرقيَّةِ، وأنا مطمئنٌ إلى شيئين اثنين، تحليقها المتناسق أو سقوطها في هاويةِ النسيان، أتركُ رغبتي في القصيدةِ حتى تصيرَ رماداً.. ثمَّ أُذرِّيها بفرحِ ذلكَ الرجلِ الغريب.
***
مملكةُ الصمت
الذي يقرأ تاريخ سوريا الحديث الممتد من سيطرة حزب البعث فيها بالحيلة والغدر على مقاليد الحكم حتى يوما هذا، أو يشاهد الوثائقيات التي لا تُحصى عن إذلال الإنسان وقهره ومحو كيانه بالكامل يُصدم من هول الظلم الذي مورس على البشر في مملكة صمت مريع أشبه بجحيم أرضي، ولا يكادُ يصدِّق فظاعة المجازر المجانيَّة الخرافيَّة التي أُرتكبت بحق الأبرياء من أطفال ونساء، وربَّما يدخلُ في حالةٍ من الذهولِ وهو يفكِّرُ بسرياليَّة والقسوةِ والعنصريَّةِ والاستبداد وطائفية فرِّق تسد التي مارسها هذا النظام الفاشيُّ المجرم على شعب حر شريف ليس له من ذنب سوى حبِّهِ للحياةِ وتطلُّعهِ للحريَّة، من الصعب نسيان الذكريات التي تقطرُ دماً.. رماداً.. لهيباً وعذاباً من أطرافِ شهادات السجناء المرعبة وهم يتكلَّمون عن تجارب اعتقالهم في أقبيةِ المخابراتِ السريَّة، من الصعب أن تصدِّق كيفَ أن بشراً تحمَّلوا من أجلِ حياةٍ أجمل وحلمٍ بغدٍ وردي كلَّ أساليب التنكيل والمحو الجسدي والنفسي والتعذيب الذي لا أجدُ لغةً تسعفني لأصفهُ مدةً تقتربُ اليومَ من نصف قرنٍ ولم يحطِّموا بعد تمثال طاغيتهم المجازي ويرموه في البحر، وكلَّما اقتربوا من ساحلِ الانتصارِ باعاً ابتعدَ ذراعاً عنهم لخذلان دول العالم المنافق لهم، لا تزال أفكار الطاغية الغامض تحكم سوريا بالحديد والنار ولو بشكل غير مباشر حتى وهو في قاع قبره وما ابنه سوى دمية هزيلة تحركها أطياف هذه الأفكار السوداء فوقَ خرابِ البلاد.
***
وردةٌ محايدة
أنا على حيادٍ تام من الزمن، على حيادِ فراشةٍ على سياجِ الضوءِ، أو زهرةِ صُبَّارٍ في الخريفِ السريع، أكتبُ ما أريدُ، مقطعاً نثريَّاً رديئاً عن طاغيةٍ فتكَ بشعبهِ، قصيدةً في مديحِ الأُمهات، فكرةً لوصفِ امرأة حامل، أُغنيَّةً عن حبٍّ ضائع، أكتبُ ما أُريدُ ولكن على حياد غيمةٍ بحريَّة، أكرهُ المسافات المليئة بالفراغ والنداءات المكتومة والأصداء الذابلة، تلك المسافات التي رسمها بشرٌ عاطلون عن الحبِّ والحريَّةِ والفرح حول حيواتِ الآخرين، أوجعتني محاكم التفتيش الممتدة على جسد تاريخنا المظلم، وأوجعتني قبلاتِ الرعيَّة على نعل الطاغية المبتسم لأعمدةِ النورِ في قصرهِ، في هذا النهارِ الأزرقِ المأخوذ من لوحةٍ لسلفادور دالي ما الذي يريدهُ شاعرٌ مجهول سوى أن يبكي بصمتٍ أمامَ جمالِ امرأةٍ مقهور؟ أو يتركَ وردةً على طاولةِ الأُمومة؟ ما الذي يريدهُ الغريبُ سوى أن يملأ قلبه بهواء الحنين إلى أوَّلِ النساء والبلدان؟
***
يومُ إدمون
البارحة رحلَ شاعرٌ طالما استوقفتني قصائدهُ بالغة العذوبة ومسرحياتهُ المنسوجة بذكاء نادر، شاعرٌ ومسرحيٌّ وروائيٌّ ذو حسٍّ سردي جميل،وإنسان في غايةِ النبلِ وجمال الروح، رحلَ إدمون شحادة محمَّلاً بنهاياتِ القصائد وبداياتِ الشجنِ الروحي، بنداءات الحبق الجليلي وترجيعاتِ الحجلِ في مرجِ ابن عامر، سأفتقدك يا صديقي الجميل إدمون فاغفر لي عزلتي، سأفتقد اتصالاتك الدائمة وكأننا نعرف بعضنا البعض من عشرات السنين، سأفتقد صوتك الجميل العذب المائي المنبعث من مجرَّة سحريَّة أو بئرٍ خضراء، أتذكَّر لقاءاتنا الأولى في مكتبتك في أوَّلِ الناصرة، وذاتَ صيفٍ في كرملِ حيفا، أتذكَّرُ مرحك وتواضعك وعفويَّتك وشفافيَّة الأديب ورقَّة وعذوبة الشاعر فيك، وحرصك على لغتكَ الشعريَّة، تلكَ اللغة التي رحت تتعهدها كحديقة، صداقتنا لم تكن عابرةً ولم تكن سطحيَّةً كصداقات البعض، بل كنتَ من القلائل الأثيرين والقريبين من القلب رغم فارق العمر بيننا والذي ينيف على أربعةِ عقود، أمس أحببتُ أن أبكي بصمت كما تبكي الطير عليك، على صداقتك الاستثنائيَّة، على مرحلة أغنتْ حياتي بطاقةٍ إبداعيَّة لا تنتهي، على نهارات خريفيَّة ضاجَّة بحفيف القصائد، لن أقولَ وداعاً ولكن أقول الى الملتقى.
***
تفاصيلٌ سريَّة
تكتبُ امرأةٌ عن أنوثتها وتفاصيلها السريَّة، أُخرى تخاصمُ عاشقاً وتطردهُ عن نوافذ رغبتها.. ثالثةٌ تكتبُ لحبيبها بفمها على ورقٍ يتنهَّد، في عوالمِ النساء الثلاث يبحثُ شاعرٌ عن صفائهِ التعبيريِّ ومجازهِ الخصوصيِّ، يصقلُ حجراً هوائيَّاً ويلمِّعُ بهِ جسدَ ايزيس، كم من الوقتِ ينقصهُ كي يرتقي إلى هاويةِ الرغبة؟ تكتبُ امرأةٌ عن مزاجيَّتها المفرطةِ ويشطبُ شاعرٌ قصيدتهُ النثريَّة الملأى بالاستغاثاتِ النهريَّةِ وزنابق العطش، تكتبُ امرأةٌ على زجاجِ مراياها شهوتها الرماديَّة، ويمسحُ رجلٌ عابرٌ كحلَ فراشتها عن ظلالِ أصابعها.
***
السائرُ في المنام
جمالكِ يعذِّبني عذاباً جميلاً، منذ رأيتكِ والفراشات تلسعُ قلبي لسعاً خفيفاً، أعرفُ بأنني سأتورَّطُ تورُّطاً لا بدَّ منهُ كي أكتب بعض قصائدٍ أو هذياناتٍ محمومةٍ، أعرفُ أيضاً بأنني سأتبرَّأُ من هذا الشِعرِ عندما أفيقُ منكِ، أنا السائرُ في المنامِ والمسرنمُ بوصاياكِ، جمالكِ هو الشيء الوحيد الذي أتمنَّى أن اشربَ مسحوقهُ السحريَّ ممزوجاً بالماءِ أو بالنبيذ، لستُ ديكَ جنٍّ آخر ولا أحبُّ طعمَ الرماد، لا أحبُّ الكلماتِ المعلَّبةَ ولا مراثي الأُنوثةِ، لستُ ديكَ جنٍّ آخرَ ولستِ حبيبتهُ ورد، لستُ امرئ القيسِ ولستِ فاطمةَ، لستُ نيرودا ولستِ ماتيلدا، لستُ دالي ولستِ غالا، لن تكوني قصيدتي الشتائيَّةَ، ولن أكونَ سوى توجُّسكِ من رائحةِ اللوز.
***
(14)
تأخَّرتِ قليلاً عن غوايتي
صرخةُ فان غوخ
يدان تتشابكان في مكانٍ ما، نحيلتانِ كقصبتيْ سكَّر، خفيفتانِ كنداءِ تمثال جريح، تنطفئانِ في المتن وتشتعلانِ في الهامش، محاطتانِ بصرخةٍ تصعدُ من قاعِ بئرٍ معطَّلة، تشبهُ نحيب غيمةٍ في خاصرةِ امرأةٍ، أو عواءَ فنسنت فان غوخ في ذلك الفيلم الشهير، تهبُّ من العدم الأرضيِّ ومن جهةِ الريح الرماديَّة، تحرِّكُ حريرَ المرايا والستائر الورديَّة المجعَّدة، تهزُّ أواني الخزف بخفَّة ريشةٍ، وتحترقُ في المراثي الطويلة، أه ما أجمل وأكمل هذهِ الصرخة المضمومة كقبضةِ عاشقةٍ على زهرةِ لوتس بريَّة، المفتوحة على تجلِّياتِ اللغة والقداسة، يا لكَ من ساحرٍ رجيمٍ يا فنسنت، حتى وأنت مغيَّبٌ عن ذاكرتك وحدائقك المنسيَّة، وفي صخب لياليك واعترافاتك، كلَّما أغمضتُ عينيَّ على نجومك الصفراء المتناثرة على قماش أزرق تناسلتْ حقولُ عبَّادِ الشمسِ في مخيَّلتي المشدودةِ إلى حذوةِ فرس، كأغنيةٍ مشدودةٍ إلى السديم، أو كجاريةٍ على طرفِ رغبةِ نخَّاس، أبداً لن تموتَ صرختكَ، سيلتفتُ اللهُ إليها، وإلى قصائدك غير المكتوبة، قصائدك التي استبدلت الكلمات بالخطوطِ المتقاطعةِ وبالألوانِ المائيَّة وبالسنابلِ المنفرطة من ضفائر النساء.
***
القصيدةُ والحُب
الأبياتُ التي أحذفها من القصيدة الجديدة ليست أقلَّ جمالاً وفتنةً من القصيدةِ ذاتها ، بل ربمَّا تكونُ همساتُ النزوة التي انسحبتْ وراءَ السطور، أو أصداءُ الرغبة الخافتة التي ارتضت أن تستترَ وراء نصاعة الورق ورذاذ الحبر، أجملَ بكثير من القصيدةِ المكتوبة وهذا ما عناهُ أحدُ المبدعين بقوله أن الكتابة الحقيقيَّة هي مهنةُ الحذف، ولكن كم هو صعب أن تتركَ ذائقتك تتأرجحُ بين شطري قصيدة، هذه الحالة تشبهُ تماماً حالة حذف حبٍّ ما تمكَّن من قلبك ولكنك تعجزُ عن فعلِ هذا، يتسلَّطُ ذلك الحبُّ الافتراضيُّ عليكَ لدرجة أنك تبقى منقاداً له بحاسةٍ سحريَّة ماكرة، وبشغف إنساني جميل، تحاولُ مراراً حذف الجزء الهلامي منهُ في ذاكرتك أو تمتدُّ يدكَ لتمسحَ تلكَ السطور البيضاء من القصيدة المكتوبة ولكن بلا فائدة، فالحبُّ الغامض والاستعارات المجرَّدة كلاهما يلتمعُ في قلبكَ وذهنك كالوميض، يحاصرك من جهاتك الستِّ، القصيدةُ الغائبةُ كالحبِّ تماماً، لا تستطيع أن تحذفها من قلبك، أو تطلقها كالعصافيرِ الأليفةِ في فضاءِ البيتِ، نصفها صداقةٌ مكتوبةٌ بضوءٍ شحيحٍ ونصفها الآخر حبٌّ يستعصي على الكتابة وعلى النسيان.
***
اللغةُ حين تكونُ في عباءةِ القبيلة
لم أكتب أدب مذكرات ولم أُفكر بكتابته على الرغم من حبي الجارف له، لا لأنه لا يستهويني كثيراً أو بسبب خوفي من السقوطِ في رداءةِ النثر والتيهِ في مجاهيلهِ، بل لأسباب كثيرة أهمُّها أنني لم أدرِّب نفسي على البوح بما فيهِ الكفاية، لم أُخرج لغتي بعد من عباءةِ القبيلة وعاداتها وموروثاتها ونداءاتها العصيَّةِ، بكلماتٍ أُخرى لم أُحرِّر كتابتي كما كنتُ أحلم بذلك وأنا أقرأ كتابات هنري ميلر أو محمد شكري أو جونيشيروا تانيزاكي أو ماريو فارغاس يوسا مثلا، لمن يسألني عن المذكراتِ أقولُ: دواويني التي حشرتها في عشرةِ كتب هي مذكراتي ويومياتي السريَّة، فمن الممكن جدا أن يبحث فيها الآخرون عن اللغة الشفافة والرغبات المطويَّةِ تحتَ عباءةِ القبيلةِ الفضفاضة، بالنسبة لأدب المذكرات أعجبتني في مرحلةٍ ما مذكرات آنا فرانك، خصوصاً ذلك التدفق الحيوي الغريزي المشبع بشهوة السرد والمشافهة، وكنتُ أقفُ مشدوهاً عند كل سطر من قصةِ غرامها وأحبسُ أنفاسي متسائلاً: كيفَ لطفلةٍ مراهقةٍ لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها أن تكتب بمثل هذا التدفق التعبيري المذهل وبمثل التكثيف الجمالي المدهش لأصغر التفاصيل، وبلغة نقيَّة ناصعة بلغت بها آنا الصغيرة قمة البلاغة والمجاز، كيف تستطيع طفلة بمفردها أن تخطَّ واحداً من أهمِّ كتبِّ أدب المذكراتِ في تاريخِ البشريَّةِ الحديث؟
***
زليخةُ السريَّة
زليخةُ التي أعنيها في مزاميري السريَّة لم تهرمْ بعد.. كأنها لا تكبرُ، ولا تتقدَّمُ بها سنواتُ القهر نحوَ النهاية، زليخةُ الموزَّعةُ في القصائد القصيرةِ والمطوَّلات امرأةٌ ليستْ كباقي النساء، ضفائرها كسنابلِ القمحِ الذهبيَّة وليديها عطرُ الليمون والحبق، هي من صنفِ نسوةٍ لا يشيخُ جمالهنَّ حتى بعد الخمسين، كلُّ شاعرٍ بلا زليخة لا يُعوَّلُ عليه، كلُّ ديوانٍ بلا قمصانها ناقصٌ، كلُّ بحرٍ بلا تنهداتها سريرٌ مهملٌ، كلُّ أبجديَّةٍ بلا ناياتها قصبٌ جريحٌ، كل وجودٍ لا يحتويها عدم.
***
عينا إلسا
أُفكِّرُ بعيني إلسا، حبيبةِ لويس أراغون وأنا أعدُّ زنجبيل المساء على عجلٍ، أُفكِّرُ بشبيهةِ إلسا وأنا أُراقبُ عصفوراً ورديَّاً غريباً حطَّ على مقربةٍ مني كي يبتلَّ بماء حزني، كلَّما وقعت عيناي على تلك الفتاة في إحدى الأغاني الساحليَّةِ أُناجيها في سرِّي بشِعر السيَّاب: رأيتُ شبيهةً لكِ شَعرها ظلَمٌ وأمطارُ وعيناها كينبوعين في غابٍ من الحورِ.. هل فيها شيءٌ من إلسا؟ لا أدري، ولماذا إلسا بالذات؟ أيضاً لا أدري، المهم أنني أفكِّرُ بعيني إلسا وبأشياءَ كثيرةٍ، كعادتي دائماً، لم أتغيَّر.. أُفكِّرُ بالعدم وأنا أُفكِّرُ بعيني إلسا.
***
الحياةُ كحلم
أنظرُ إلى الحياةِ من طاقةِ حلم مشاكس، هكذا أنا منذ الطفولة، الحياة هي حلمُ كبيرٌ نرفدهُ بأحلام صغيرة أُخرى، ملوَّنة، شفَّافة، عصيَّة، مستحيلة، لكنها تشكِّلُ طاقة دعم روحي ومعنوي ومجازي لنا في هذهِ الحياة المعطوبة، شخصيَّاً لا أتنفَّسُ هواء الحياة إلا من فجوةِ جدارِ هذا الحلمِ بالرغم من الخيبات والانكسارات التي لا تُحصى، كلَّما خبا وهجُ حلم ما أستضيءُ بوهجٍ حلمٍ جديد آخر، وهكذا، اُريدُ أن أقضي هذه الحياة حالماً وغيرَ ملتفتٍ لنهاياتِ السنوات التي تذكرِّني بلحظاتِ الفشلِ والإخفاقِ والانكسار، لا تعنيني بتاتاً نهاياتُ السنواتِ التي انفرطت من سبحةِ حياتي بل مطالعُ القصائد والأغاني، ولا أعاتبُ نفسي أو ألومها على عجزي عن تحقيق أحلامي الصغيرة، ما دمتُ أُحاولُ أن أكتبَ شيئاً يجعلُ لحياتي معنىً خصوصيَّاً فلا بأس.
***
القصيدةُ والأسطورة
ما ينقصُ القصيدة العربيَّة الآن هو التخفُّف قدر المستطاع من الهمِّ الوجودي وماديَّة اللحظة الراهنة والرجوع إلى الموروث الشعبي العربي والعالمي بشقيِّهِ الواقعي والخرافي المتخيَّل، فلو نظرنا إلى الشعريَّات الأخرى في العالم لوجدنا امتزاجها بالأساطير والحكايا الشعبيَّة والخرافة، عبر تأثرها بالموروث القصصي الخيالي وبكتب من صنف ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة وميثولوجيا وأساطير الشعوب القديمة وغيرها، تضفي الأُسطورةُ على العمل الأدبي بعداً رمزيَّاً إنسانيَّاً عالي المستوى، وتمنحه دلالاتٍ غنيَّةً تعملُ على تحفيزِ الخيالِ والذاكرة للامساكِ بخيوطِ الفكرةِ الملوَّنة، ونرى أن الشعراء التموزيِّين العرب وضعوا الاهتمام باللاواقعي والخرافي نصب أعينهم بعد اطلَّاعهم على نماذج شعريَّة كثيرة في الشعر الأجنبي تسعى على توظيف الأساطير داخلَ النص، فلا يخفى اعتمادُ الشعراء الانجليز على هذا العنصر الهام وفي مقدمتهم ت س اليوت في (الأرض اليباب) وشكسبير في عدد لا بأس بهِ من مسرحياته الشعريَّة الهامَّة لا سيما (هملت) و (عطيل) و (العاصفة)، وأيضاً نجد في الأدب الروسي في القرن التاسع عشر نزوعاً قويَّاً إلى توظيف الأُسطورة كما نلحظ ذلك في المطوَّلة الشعريَّة (روسلان ولودميلا) لأمير شعراء روسيا ألكسندر بوشكين.
***
إيماءات
أنت جنَّةُ الغيبِ والعنبِ يا جان ديفال ونظرةُ بودليرَ مفتاحها
*
بينَ يديْ حزنكَ المائيِّ يا سركون بولص تغتصبُ براءةَ القصيدةِ امرأةٌ بشَعرٍ غجريٍّ من مدينةِ أين
*
تلبسُ الكلماتُ ابتسامتكِ البيضاءَ كالأشجارِ تومضُ بأزهارِ الغيم
*
القبوُ المظلمُ يعذِّبُ روحَ الرَّحالةِ الذي يحملُ الأرضَ على شكلِ فقاعةٍ في قلبهِ، القبوُ المظلمُ مبنيٌّ بشكلٍ هندسيٍّ غريبٍ على رأسِ طائرٍ فينيقيٍّ
*
لجمالها طعمُ الحنطةِ ورائحةُ الحبقِ المحروق، لبياضها طعمُ الوجع
***
تأخَّرتِ قليلاً عن غوايتي
ضعي يدكِ على نافذة قلبي وانسحبي من قصيدتي بكاملِ ظلالكِ الحياديَّةِ، لن أتلصَّص بعدَ هذا الغيابِ على تفاصيلكِ الصغيرةِ وغيرتك من الأخريات، لن يعني لي جمالكِ الحزينُ المراوغُ شيئاً ولا حتى شقاؤكِ سوف يستثيرُني، لو قرأتُ أناشيد بتراركة أو غزليَّات كواسيمودو مثلاً بدلَ كتابةِ خطابات بائسة لكِ لكنتُ أكثر سعادةً، لو استبدلتكِ في الوقتِ المناسبِ برقصةٍ واحدةٍ لمونيكا بيلوتشي لأصبحتُ أكثرَ شاعريَّةً، لو استبدلتكِ بتقاسيمِ نايٍ غامض لجرى الماءُ من تحتِ قصائدي، لو تأخَّرتِ قليلا عن غوايتي لأصبحتْ أعلى وأجملَ وأكمل.
***
(15)
حنينٌ يستيقظُ في الظهيرة
عثوري على السيَّاب
حادثةُ عثوري على تجربة بدر شاكر السيَّاب الشعريَّة أو بتعبير أكثر دقَّةً تعثري باسمهِ تعتبر بالنسبة لي حالةً لا تخلو من الطرافة والغرابة ولم تحصل لديَّ مع شاعر آخر غيرهِ، لم أنتبه أبداً لتجربة السيَّاب في البدايات وكنت متأثراً بغيرهِ كأحمد شوقي وخليل مطران وجبران وأبي القاسم الشابي وغيرهم من أعمدة النهضة الشعريَّة، حتى أنني لم أسمع باسمهِ أبداً قبل مرحلة الدراسة الثانويَّة.. بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى أي في أوائل سنوات التسعين من القرن المنصرم عثرت على احدى المجلات الأدبية الفلسطينية العريقة وأظنها مجلَّة (عبير) وهي من المجلات الفلسطينية المرموقة وكانت تمجِّد في سياقِ موضوعاتها انتفاضة الحجارة الأولى، وكانَ من ضمن المادة الأدبيَّة للمجلَّة حوار أدبيٌّ جميل مع شاعر فلسطيني لا يحضرني اسمه الآن، وفي الحوار إشادة عظيمة بتأثره بشاعر عراقي حداثي فذ اسمه بدر شاكر السياب، استطاع بموهبته الشعريَّه الجبَّارة أن يغيِّر المفاهيم السائدة في الشعر العربي عبر ثورة عارمة على نظام الأوزان الشعريَّة التقليديَّة، بحيثُ نجح في كسر عمود الشعر العربي وحاولَ توزيع تفاعيل السطر الشعري الجديد بذكاء ومهارة وفقا لمعاني الجمل الشعريَّة، وذلك تأثراً بالشعر الانجليزي وخصوصاً (ت س اليوت) و (بيرسي شيلي) وغيرهم من الشعراء الانجليز، منذ ذلك الحين وأنا أفكر ببدر، وأبحثُ عن نصوصه الشعريَّة الحارة، وأذكر أنني تصفَّحتُ كتاباً ضخماً بعنوان (شاعر الأناشيد والمراثي) للناقد اللبناني (ايليا حاوي) عن السيَّاب وأعجبني جداً، وكنتُ حين أقرأ لبدر شيئاً أعثر عليه في أي كتاب أدبي تصيبني رعشةٌ ما أو أنتقلُ روحيَّاً إلى مناخات فردوسيَّة جماليَّة سيَّابية بامتياز، مناخات يشتبكُ فيها الحلم والكابوس وتتضافر في فضاءاتها الحقيقةُ والأسطورة.
***
من أنتَ؟
الغريب والمحيِّر أنه فقط أصحاب الأقنعة المستعارةِ يسألونك: من أنتَ؟ وأبداً لا أجيبُ على سؤالٍ كهذا، خصوصاً إذا كان السؤالُ موجَّهاً من هؤلاء، وهم يطلُّون عليكَ من حضيض الخفاء والعتمة، يفركون أعينهم بالأصابعِ، ويصفعونك بسؤال أبديٍّ بليد.. من أنت؟!
***
نعمةُ الحذف
حذفتُ شاعراً عابراً خُيِّل له أنهُ أربكَ قصيدتي حين ظنَّ واهماً أنها بحاجةٍ اليهِ والى جائزته البائسة كتجربتهِ الشعريَّة، وحذفني شاعر كبيرٌ أُحبُّهُ لأنني قلتُ في تعليق تحت مديحٍ كالتهُ له إحدى الناقدات الجميلات ما معناهُ أن زمن الأُسطورة والفردية في الشعر العربي قد أوشك على الانتهاء وما الشاعر إلا صوت متفرِّع من كورس غنائي في سيمفونيَّة كونيَّة هائلة فيها الصوت الجميل وفيها الصوتُ النشاز، وحذفتُ شاعراً آخرَ لأنه كالرحى التي تطحن الحجارة، يملأ رأسي جعجعةً فارغةً منذ ست سنوات، وحذفني شاعرٌ آخرُ لأن المسكين يترصَّد بي في كلِّ حرف أكتبهُ ويظنُّ أنني أنافسهُ أو أهدِّدُ غروره الشعري وأن قصيدتي تشكِّل خطراً على نرجسيته المبالغِ فيها والفائضةِ عن حدها، وحذفني شاعرٌ فاشلٌ لأسباب لا أعلمها حتى الآن، وحذفتُ شاعراً أفشلَ منه لأنه منذ أربعين سنة يكتبُ القصيدة نفسها ما يجعلهُ يحسُّ بشفقتي عليه وعلى قصيدتهِ عبر حاستهِ السادسة ولا أُريدُ لهُ أن يتذوَّقَ هذا الإحساس المرير بشفقتي علي ما يكتب، وحذفني شاعرٌ بعد نقاشٍ طويل في مسألةٍ عروضيَّة بسيطةٍ أصابَ فيها وأخطأتُ أنا، أو لشكِّهِ بأنني أُحبُّ امرأةً يحبُّها وتستعصي عليه، لا تهمُّني صداقاتُ أشباه الشعراء أو معرفتهم، وأكبرُ شاعر على وجه هذه الأرض يستحق الحذف والرفض والنسيان وعدم تحيته بكلمة واحدة لو صادفتهُ في شارعٍ في مدينة بعيدة إذا كانَ هو نفسهُ استعلائياً وأنانياً وكاذباً في قرارةِ نفسهِ ويرفض الآخر ولا يرى غير أناهُ في قاموسِ الوجود الإبداعي، يستحقُ الرفض روحيَّاً، لكن ذلك لا يلغي قراءةَ منجزهِ، إذا كان ما يكتبهُ جديراً بالقراءة.
***
زغلول الدامور قيثارةٌ من السماء
سأشتاقُ إلى عصافير الشمال الملوَّنة التي سكنت تجاويف صوت زغلول الدامور، سأفتقدُ تنهدَّاتِ النعناعِ في أصابعِ امرأةٍ جنوبيَّة، ونداءاتِ الجبالِ على ناياتِ الغجرِ الرحَّلِ، أنا الذي كنتُ أرى في نغمتهِ ما أريدُ، وأتنسَّمُ عطرَ الزمن كأعمى يستدلُّ بنسيمِ الزنابقِ على الأشياء، جوزف الهاشم الأسطورة، القيثارة السماويَّة، النهر السحريُّ، ملكُ الزجلِ غير المنازع، صاحبُ الموَّال الأكثر عذوبةً وصفاءً واكتمالاً، يرحلُ بعد امتدادِ سبعةِ عقودٍ على تضاريسِ الغناءِ الجبليِّ العالي، لا أتذكر في أيِّ سنةٍ كان يتهادى صوته في سوقِ الناصرةِ القديم، صادحاً بالعتابا وبالمعنَّى والقرادي، ربما كانَ ذلك في نهايات الثمانينيات، شيءٌ في صوتهِ المغسولِ بالحبق والماس والبنفسج جعلني أتعلَّق بهِ، وبكثيرٍ من الشغف الطفوليِّ ( يا حلوه كاس حبك جرِّعيني/ وقبل ما تصدميني جي رعيني/ خيالك في طريقو جر عيني/ وصرت برموشها لم التراب).. اختزن الزغلول في نبرات صوته الشجيَّة أناقةَ روح لبنان، جماله، طبيعته، ماءهُ، هواءهُ، ترابهُ النديَّ وغناء حورياته الفاتنات، اختزن واختزل كل شيء، يخيُّل لي أنه المغني الأجمل للوجع والفرحِ اللبنانيين ومنشدُ تغريبةِ العشَّاق، من لم يطرب لتجليَّات جوزف الهاشم الزجليَّة من الصعب عليه أن يشَّم روائح لبنان عن بعد مئات الكيلومترات، صوته أشبهُ بوردةٍ حمراء من غيمٍ وماءٍ تتفتَّحُ على حدائق ونوافير وكنائس ومآذن وقرى في الجبالِ ونهاراتٍ زرقاء وليالٍ لا تنام، الترجيعات التي كان يتركها في دواخلنا محيِّرة هي تكفي من حيث الجمال والعذوبة والتجلِّي أن تطهرنا من النزوة والندم، هي قادرة أن تؤمئ للحروبِ أن إهدأي قليلاً فثمَّةَ من يريدُ التأمُّلَ أو الحلم، سأشتاقُ إلى عصافيرِ الشمالِ وإلى ترجيعات القيثارةِ السماويَّة (خذيني بعطفك وحلمك وعدلك/ لحتى ان غبت برجعلك وعدلك/ حلفتلك بجي وقلبي وعدلك/ وعد زغلول مش موعد غراب).
قصيدة (صدفة) لزغلول الدامور
صدفة التقو بعيونها عيوني
وعالبيت من غير وعد عزموني
وقلبي فلت مني و سبقني وطار
ومدامعي عالدرب دلوني
ولحقت قلبي و عملت مشوار
عبساط جانح ريح مجنونة
ومن غيرتي عليها خيالي غار
و تحارَب جنوني مع جنوني
وصّلت ... ولقيت القلب محتار
والــ عازمتني مقدّرة فنوني
وأحلى ما إيدي تحترق بالنار
عا بابها دقيت بجفوني
وسمعت صوت بيشبه الأوتار
حرّك شعوري و فيّق ظنوني
وقالت يا أهلا ... ودخلت عالدار
وعيونها بديو .... يحاكوني
وايدين مثل الشمعتين قصار
ما عرفت كيف و ليش ضموني
ولفّوا ع خصري داير و مندار
ولولا ما أجمد كان حرقوني
والشعر ياليلي بلا أنوار
من عنبر كوانين مشحونة
وجبين طافح بالحلا فوّار
خلاّ عقول الناس مفتونة
والحاجبين الجار حد الجار
سيفين بالحدّين ذبحوني
وجوز الحلأ عا دَينتين زغار
من الجرح بعد الذبح شفيوني
والأنف قمقم شايلو العطّار
لدموع أحلى زهور ليمونة
لو شافتو بيّا عة الأزهار
بتقول منّو العطر بيعوني
وخدين متل الزنبق بنوار
أكتر ما بدي عطر عطيوني
إلــ بيشوفهم بيقول توم قمار
جاعوا و طلبوا الأكل و المونة
وشفاف حمر بيسكرو الخمار
من فرد نقطة خمر سكروني
وسنان شال الفل منها زرار
بيضا بلون العاج مدهونة
والعنق مثل الخيط عالبيكار
مسكوب لا ورقة ولا معجوني
والصدر من أتقل و أغلى عيار
متحف درر و كنوز مدفوني
وتفاحتين بيبهرو الأنظار
عالصدر ... يا ريتن يقبروني
وعالخصر عيني بتحسد الزنار
لو مطرح الزنار حطوني
تا كنت أكشف قوة الأسرار
ومعليش لو مجنون عدوني
يا ناس هيدا اللي جرى و لصار
وتتصدقوني... و تا تعذروني
روحوا معي عا بيتها شي نهار
وتفرجوا عا حسنها من بعيد
وان ضل فيكن عقل... لوموني".
***
لن نختلف على شيءٍ بعدَ اليوم
لن نختلفَ على شيءٍ بعد اليومِ، لا على قيمةِ هنري ميلر الروائيَّة ولا على قيمةِ تشارلز بوكوفسكي الشعريَّة، لن نختلف على مفردةٍ نشازٍ ولا على خللٍ في الايقاع، لأنكَ تجيدُ الضغطَ على زرِّ محو الآخر، من دون أن تشتبكَ معهُ في نقاشٍ عابرٍ قد تنتصر فيهِ لفكرتكَ ويخسر هو، ما نفعُ قصائدك وقصائدي أمامَ هولِ المحرقة التي تعصفُ بوطنك، وابتلاعِ الخرابِ الهائل لبلادكَ واستكلابِ الانتهازيين الأشرار عليها؟ أليسَ من الأجدى لنا أن نصمت؟ أتفهَّمُ جرحكَ النرجسيَّ ولوعتكَ من انقلاب عوالمك الحلميَّة المتخيَّلة، أتفهَّمُ حجم وجعك الروحي وأشمُّ وردةَ يأسك، ليتكَ تنقلبُ على نفسك وقصائدك، ربَّما لم يكن الشِعر إلا مضيعةً للوقت، كصداقتنا تماماً.
***
صوتُ ريم بنَّا
خلق الله صوتَ هذه المرأة الجميلة من تنهيدة الحبق على شرفةٍ نصراوية، أو من ترجيع المياهِ في ساحةِ عينِ العذراء، صوتها ليسَ صوتاً تماماً، بل هو شيءٌ يشبهُ رائحةَ الربيع أو حفيف السنابل في حزيران، هو تلويحةُ العصافير للشمس، أو صدى زرقةِ بحر يافا، أو ربمَّا كان قارورةَ ضوءٍ صبَّ اللهُ فيها أصواتَ نساءِ الأرض جميعاً، صوتُ هذهِ المرأة الجميلةِ هو الاسمُ الحركيُّ لعشق هذه الأرض، وهو الوجهُ المضيء لجمال المرأةِ الفلسطينيَّة، وهو نافذةٌ على سماءِ المحبَّة تحرسُ أرواحنا والأغاني، كأنَّ في صوتِ هذهِ الغزالةِ النافرةِ في ظهيرةِ قلوبنا امرأةً عاشقةً ترقصُ في هبوبِ المطر، في شفقِ الريح ونوَّار القصائد.
***
تردُّد شعري
كنتُ محكوماً بالتردُّد الجميل المراوغ عشيَّة مشاركتي في مهرجان الشعر الفلسطيني - الصوت والصدى - الذي نظمَّته أكاديمية القاسمي في باقة الغربية بتاريخ 10/3/2018 داعيةً إليه نخبةً من شعراء ونقَّاد فلسطينيِّين كبار من الجليل والمثلث ومن مناطق الضفة الغربية، كان المهرجان أشبه بتوحيد شطري البرتقالة الفلسطينيَّة أو مزج الصوت الشعري الفلسطيني بصداهُ البعيد العذب، مشاركةٌ في مهرجانٍ كهذا من الواضح أنه سيكون لها أكثر من معنى ومغزى، فهي تأتي بعد شبه عزلة أدبية أعيشها بإرادتي نائيا بنفسي عن أجواء التنافس والنديَّةِ ومهاوي الشلليَّات، في النهاية اتخذتُ قراري وذهبتُ لأقاسم غيري من شعراء تعلَّمتُ منهم خبز القصيدة، مبتهجاً بحضور رموز شعرية كبيرة ومضيئة في سماء الإبداع الفلسطيني الحديث، كأنني أُعلن تمرُّدي الشعري الشخصي على فكرة نمطية لا شعرية في الأساس ولا تعترف بأن في استطاعةِ القصيدة أن تغيَّر شيئاً ما في هذا العالم التي تسيِّرهُ قوى لا شعريَّة، تهمِّشُ الشعرَ أو تعدُّهُ مجرَّد سقط متاع لا غيرَ، ولا بدَّ من التخفَّف منه سريعاً، من هنا تأتي مشاركتي كتمرُّدٍ خصوصيٍّ جداً على نفسي وسحبها من ظلالِ عزلتها غير المبرَّرة إلى فضاء الشمس والهواء وموسيقى الأوزان ومداراتِ الطير، لم أختر القصائد التي سأُلقيها في المهرجانِ برويَّة وتفكير، كنتُ في حالةِ نشوةٍ بلقاء أصدقاء مبدعين لم ألتقِ بهم منذ سنواتٍ طويلة، أو التقينا افتراضيَّاً من على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي، وللذكرى أقول أنني دائما كتبتُ ما كتبتهُ في الظلِّ، أو حتى في ظلِّ الظلِّ، وكنت أبتعدُ قدرَ استطاعتي عن التجمُّعات والشلليات الثقافية ولم أسعَ مرَّةً لأضواءِ المنصَّات ولا لهالات المهرجانات الشعرية ولا للملتقيات الأدبية التي دائما ما كنتُ أحسُّ بعضها يُفرض عليَّ فرضاً وبإصرار كبيرٍ من الأصدقاءٍ أو من النخبة المثقفة والأكاديمية في البلاد، ولا أريد أن أخوض في تفاصيل ليس هذا سياقها، أو أن أذكر أسماء فلسطينية وعربية كبيرة كنتُ دائم التنصَّل من دعوتها وإصرارها على حضوري الشعري.
***
تونسُ الشاعرة
قبلَ أن أخلدَ للحلم، أو أشربَ نخبَ الحبيبةِ الضائعة، قبلَ أن أفكَّ سيورَ القصائد الصغيرةِ، أو أدخِّنَ سيجارة ما قبل النوم، قبل الاستسلامِ لوثائقيات التاريخ الوهمي أو للأفلام الحديثة، قبلَ القهوة الليليَّةِ، وصودا العنب المكسورة بالعبير الخفيف أو بماء اللهفة، قبلَ الكتابةِ عن أصابع امرأةٍ فقيرةٍ تشبهُ ناياتِ الغجر التي تتبعني كالريحِ في البريَّةِ، قبلَ كلِّ حبٍّ سريعٍ وامرأةٍ غريبةٍ أعترفُ أنني تلميذٌ صغيرٌ للشعريَّةِ التونسيَّةِ العظيمة، الشعريَّة التي علمتني كيفَ أفتحُ عينيَّ للندى كزنبقتين وأن أرقصَ في ربيعٍ ممطرٍ، الشعريَّة التي أنحني لها انحناءةَ عاشقٍ وأرمقها بقلبِ شجرةٍ أو بعيني نجمةٍ مطفأة، والتي تسيلُ معها العذوبةُ الروحيَّة كما يسيلُ العذابُ من أصابعِ الشعراء أو الكحلُ من عيونِ قصائد الحُبِّ وعيونِ نسوةِ الهالِ والياسمين، الشعريَّةُ الفضيَّةُ الساحرة، فارعةُ الجمال والأنوثة، التاركةُ ضفائرها الصفراء الطويلةَ على مرمى زرقةٍ لا تُحدُّ تعلِّمُ عبَّادَ شمسِ الهواءِ التحديقَ إلى أعلى، أنا ربيبُ هذهِ الشعريَّة الطافحة بالعناقيد، أنا طفلها المشاكسُ، أنا تلميذها الصغير وسأظلُّ هكذا إلى الأبد.
***
الشاعر محمد الهادي الجزيري
محمد الهادي الجزيري شاعرٌ أصيلٌ من تونس التي لن نشفى من حبِّها ولا من تموُّجاتِ خضرتها في أرواحنا، مبدعٌ استثنائيٌّ وناثرٌ في غاية الرهافة، أُحبُّ أن أقرأ له وأتابع نصوصهُ العذبة الشفَّافة وثرَّة الجمال على مواقع السوشيال ميديا وفي موقع أثير العماني وغيرها، ولكن في زحمةِ هذا الفضاء المكتظ بالأمواج المتلاطمة وبالحارثين فيها ربما تاهَ كل منا عن الآخر بالرغم من كوننا صديقين منذ سنواتٍ طويلة، ولكن أقولُ شكراً للكاتبة الفلسطينيَّة المتميزة أنوار الأنوار لأنها قادته اليَّ ووضعتهُ في طريق قدري، وقدحت شرارة الصداقة والتواصل من جديد، ما جعلهُ يقرأ بصمت مجموعتي الشعريَّة (استعارات جسديَّة) ويعيدُ تفكيكها وتشكيلها في خياله الخلاق الخصب على ضوء ذائقة جماليَّة صافية لشاعر متميز.. جميل وصادق يحملُ نصُّهُ من الأصالة والتجديد ما يحمل، أثقُ بهِ وبقصيدتهِ المختلفة، وبحسِّهِ النقدي الموضوعي أكثر حتى من ثقتي بنقاد محترفين كبار، الجميل في الأمر أنَّ الجزيري قرأني كما يجب لشاعر عاشق مختلف، مسكون بتجليات الأنوثة والجمال والبروق الخضراء، وخرجَ بقراءة تحاورني بذكاء وتجاورُ روحي بلهفة وانعتاق، وبكثير من فيض المحبة، لم يفاجأني بأصالةِ روحهِ العالية أو بنبلهِ النادر بين الشعراء، أو بمحبتهِ لفلسطين وما تبدعهُ من مزامير علويَّة وقصائد في شفافيَّة الماءِ والضوء، إلا أنهُ قدَّم قراءة أحسستُ من خلالها بتآلف روحين يجمعهما الشعر ويحرسهما قمرٌ واحدٌ في الظلام، ماذا أقولُ لتونس؟ وأنا مهما سأكتب يا صديقي المبدع، أيها الجزيري الفذ النبيل الجميل، سأظل صدى أصواتكم العظيمة يا شعراء تونس، من أبي القاسم الشابي إلى أصغر شاعر تونسي يكتبُ الآن.. مروراً بالمنصف الوهايبي ويوسف رزوقة ومحمد الصغير أولاد أحمد وبك أنتَ وبالشاذلي القرواشي ومكي الهمامي وفتحي آدم وسلوى الرابحي وعشرات بل مئات غيرهم.
***
مطرُ أبريل
مطرُ أواخر أبريل أخضرُ اللون، كأوراق الزيتونِ أو كالعشب السماويِّ اليانع، لا أتذكَّرُ متى هطلَ قبلَ هذهِ المرَّة بغزارة هكذا، ربما في عامِ ألفين واثنين، كانَ ينقرُ بلَّور النوافذ نقرَ صغارِ العصافير، أو كأجنحةِ الفراشاتِ المخضلَّة، مطرٌ ناعمٌ، شفَّافٌ، من بقايا أحلامِ الطفولة، مشرَّدٌ ما بينَ السماءِ والأرض، يشبهُ نسيماً خفيفاً أو تنهيدةَ امرأةٍ تطلُّ على الأربعينِ بكاملِ تفَّاحِ أنوثتها، أو نهراً نحيلاً يرقصُ في الفضاء بقدمين عاريتين تزيلان طلعَ الريحِ عن وردةِ الزمن اليابسة، وآثارَ العواصف الرمليَّة التي خلَّفها الشتاءُ وراءهُ، مطرٌ نحتاجهُ لنعلو ونحلمَ ونخفَّ، لنعشقَ أكثرَ أو لنكتبَ أجملَ، نحتاجهُ لنحلِّقَ أبعد، مطرُ أبريل هو الطقسُ المفقود في لوحة القصيدة، هو القصيدةُ المائيَّةُ الخضراء.
***
مدنُ الساحلِ والنجوم
مرَّةً كانَ يحدِّثني صديقي عن تاريخ مدن الساحل الفلسطيني بينما كنت بشغف أراقب النجوم وأحدِّثه عن المسافات الخيالية والسنين الضوئية التي تفصل بين كل نجمة وأخرى.
***
روحي كغيمةٍ ضالة
آويت إلى فراشي لأنام ولكن كانت روحي كغيمةٍ ضالة تعبى تجوبُ الأرض مدينةً مدينةً من أقصاها إلى أقصاها.. من أصغر كوخ خشبي في طوكيو إلى أصغر زقاقٍ متسِّخ في بوينس آيريس يعجُ بالقطط الضالة والفتيان الذين يلعبون كرة القدم .. كنتُ أتحسَّسُ الاسفلت بيدي لأصدِّق أنني هناك .. وبالفعل مسستهُ.. هل هذه أحلام يقظة من تأثير (جوجل مابس)؟ لا أعرف.. هل أفرطتُ في التدخين أو شرب القهوة السادة اليوم؟
***
طريقُ الشعر
غالباً ما تقودك طريقُ الشِعر الى واحدٍ من ثلاثةٍ.. مجد أو صعلكة أو تسوُّل.
***