ثمة ذكرى صغيرة وغائمة ، عن أننى فى ليلة شاتية ، أصررت على نزول البحر . كنا فى الغروب ، والكون رحب : سماء وسيعة بألوان ذات وهج ، والبحر موجات من فضة زرقاء .
كانت أمى تتوشح بشال من قطيفة بيضاء . تضم طرفيه على كتفيها الناحلتين بيد واحدة ، وبأخرى تقبض على كفى المؤرجحة بينها وبين أبى . لا أرى وجهها المحجوب عنى أبداً ، فى لفة الإيشارب الكبير الداكن . كنت أسمعها خفيفاً ، تخاطب أبى . وبيدها التى تمسك بى تشير فى النواحى . ولعلها كفّت عن السير لحظة ، وانتظرته ، حينما تراجع وراءنا خطوات ، كى يُفلت سعلة متواصلة محمومة ، ويتفل فى الهواء .
أجل . ربما كان الأقربون لأبى فى العمل ، قد وصفوا له النسمة البحرية ، ساعة المطر ، لشكاية لا يقطعها مثل سعاله ، عن علة تسكن صدره .
وأنا تطلعت إلى البعيد . ولم أكن أعرف كيف يكون لى أن أبوح بسحر انشداهى المفاجىء ، لسماع رغرغة الموجة أقرب ما يمكن : إذ هى تهوى متكسرة من العلوّ . وتأتى هادرة مرغية لتغطى ساقىّ المخوّضتين فى وحل الرمال .
وصرخت فى أبى :" أريد أن أذهب إلى هناك " … وأفلتُ يداً .
قال : " أنت مجنون مثل أمك " .
هجمت يده العريضة تنتزعنى إليها ، عندما رآنى أبكى ، محاولاً تخليص أصابعى من كف أمى . وراح يهددنى بخوار يحاكى خوار تنين البحار السبعة ، القابع تحت الماء بقرب البر . فمه المهول مفتوح بلا حدود ، من أول البحر إلى آخره . والذى يطبقه مرة واحدة على فرائس ضالة . كلما امتلأ الفم الخرافى بأولاد صغار مثلى ، لم يسمعوا لآبائهم كلاماً .
حتى أمى ، مضت تشاركه . أطلقت من أقفاص خيالها ، سراح كائنات ليل مرعبة : مسوخ شوهاء مقطوعة الأوصال . والدم الأسود النازف ، يشخب حاراً من جروح عفنة ، مثل حفرات غائرة دونما قرار . إذا هى صادفت الولد الضال ، غيبّته داخلها والتأمت عليه . لا يطلع له جسد أبداً ، إلا بدقّات الطبل والدفوف .
قال أبى : " أنظر . هانحن فى العراء ولا وجود للطبل الآن " . وانحنى يسعل بقوة .
لكننى انفلتُ أخيراً ، واندفعت أجرى . جريت وجريت ، حتى شحبت أصوات صراخهما ورائى . التفت ورأيتهما ، على البعد : نقطتين صغيرتين ، تتخايلان بارتعاش ، فى العتمة الساقطة . ورحت أخلع ثيابى ..
ثمة أخيلة وأشباح ، لتذكارات مطموسة وهاربة عن أننى انطلقت أركض عارياً وحدى ، ونهنهة باكية وسعلات تملأ أصداؤها الفضاء من حولى .
كنا فى أول الليل . وحبّات قليلة من المطر ، قد بدأت تتساقط ..
كائنات ليل
ثمة ذكرى صغيرة وغائمة ، عن أننى فى ليلة شاتية ، أصررت على نزول البحر . كنا فى الغروب ، والكون رحب : سماء وسيعة بألوان ذات وهج ، والبحر موجات من فضة زرقاء .
كانت أمى تتوشح بشال من قطيفة بيضاء . تضم طرفيه على كتفيها الناحلتين بيد واحدة ، وبأخرى تقبض على كفى المؤرجحة بينها وبين أبى . لا أرى وجهها المحجوب عنى أبداً ، فى لفة الإيشارب الكبير الداكن . كنت أسمعها خفيفاً ، تخاطب أبى . وبيدها التى تمسك بى تشير فى النواحى . ولعلها كفّت عن السير لحظة ، وانتظرته ، حينما تراجع وراءنا خطوات ، كى يُفلت سعلة متواصلة محمومة ، ويتفل فى الهواء .
أجل . ربما كان الأقربون لأبى فى العمل ، قد وصفوا له النسمة البحرية ، ساعة المطر ، لشكاية لا يقطعها مثل سعاله ، عن علة تسكن صدره .
وأنا تطلعت إلى البعيد . ولم أكن أعرف كيف يكون لى أن أبوح بسحر انشداهى المفاجىء ، لسماع رغرغة الموجة أقرب ما يمكن : إذ هى تهوى متكسرة من العلوّ . وتأتى هادرة مرغية لتغطى ساقىّ المخوّضتين فى وحل الرمال .
وصرخت فى أبى :" أريد أن أذهب إلى هناك " … وأفلتُ يداً .
قال : " أنت مجنون مثل أمك " .
هجمت يده العريضة تنتزعنى إليها ، عندما رآنى أبكى ، محاولاً تخليص أصابعى من كف أمى . وراح يهددنى بخوار يحاكى خوار تنين البحار السبعة ، القابع تحت الماء بقرب البر . فمه المهول مفتوح بلا حدود ، من أول البحر إلى آخره . والذى يطبقه مرة واحدة على فرائس ضالة . كلما امتلأ الفم الخرافى بأولاد صغار مثلى ، لم يسمعوا لآبائهم كلاماً .
حتى أمى ، مضت تشاركه . أطلقت من أقفاص خيالها ، سراح كائنات ليل مرعبة : مسوخ شوهاء مقطوعة الأوصال . والدم الأسود النازف ، يشخب حاراً من جروح عفنة ، مثل حفرات غائرة دونما قرار . إذا هى صادفت الولد الضال ، غيبّته داخلها والتأمت عليه . لا يطلع له جسد أبداً ، إلا بدقّات الطبل والدفوف .
قال أبى : " أنظر . هانحن فى العراء ولا وجود للطبل الآن " . وانحنى يسعل بقوة .
لكننى انفلتُ أخيراً ، واندفعت أجرى . جريت وجريت ، حتى شحبت أصوات صراخهما ورائى . التفت ورأيتهما ، على البعد : نقطتين صغيرتين ، تتخايلان بارتعاش ، فى العتمة الساقطة . ورحت أخلع ثيابى ..
ثمة أخيلة وأشباح ، لتذكارات مطموسة وهاربة عن أننى انطلقت أركض عارياً وحدى ، ونهنهة باكية وسعلات تملأ أصداؤها الفضاء من حولى .
كنا فى أول الليل . وحبّات قليلة من المطر ، قد بدأت تتساقط ..
مطر مفاجىء
- " كنت أظن أنك ربما لن تأتى " .
كان يتكىء إلى سور الحديقة القصير . خطا خارجاً من الطوار . رفع يده إلى الميدان الكبير ، وحاول أن يبدو مرحاً :
- " إننا لم نأخذ هذا المطر فى الاعتبار ! " .
كانت قد أمطرت منذ قليل . بدت الناس والأشياء كما لو أنها اغتسلت الآن . راحا يتفاديان الحُفر الصغيرة التى امتلأت بالمطر . وراقب هو خيوط الضوء التى انكسرت على أسطح الحُفرات القريبة:
- " لماذا ظننت أننى ربما لن آتى؟ " .
- " لا أعرف . لا أعرف بالضبط " .
لاح ذلك الشحوب فى بياض وجهها المستدير ، وقد زال قليلاً : " لا أعرف .. أوقاتاً أقول لنفسى أن ما أريده .." والتفتت إليه : " لن يتحقق على نحو ما .." رأى عينيها الكبيرتين تضيقان وهى تواصل: " إذا لم يتحقق على نحو آخر " وتطلعت إلى الأمام ، وراح جانب وجهها يرتعش : " أنت لا تنزل النهر مرتين أبداً ، ما أريده شىء صعب .. صعب جداً " .
قال لها :
- " ذلك ليس صحيحاً أبداً . أشياؤنا التى نفعلها اليوم بقلب ميّت ، هى نفس تلك الأشياء التى نفعلها فى اليوم التالى بقلب نابض " .
وشبك راحة يده بين أصابعها الدقيقة ، وسألها :" هل لديك تفسير؟".
سرت برودتها إليه لفترة . غير أنها أفلتت يدها الصغيرة بارتجافة مفاجئة ، وخبأتها داخل جيب معطفها الأرجوانى الثقيل ، وصعدت الطوار . كانا يتقدمان فى اتجاه القناة ، تحت صف المصابيح القوية العالية . أخرج علبة سجائره وقال :
- " قلت هذا لك من قبل . ربما قلته . وأنت لا تريدين أن تصدقى !" .
هدأت خطواتهما رويداً ، وهما يدخلان تحت سقيفة المرساة المرتفعة . وكان الهواء قد استحال نسيماً رقيقاً الآن . حاول أن يتطلع إلى وجهها ، فلم يرها فى وقفتها تلك . كانت تنحرف بعينيها فى الماء بعيداً ، وقد أمسكت بكلتا راحتيها فى الحاجز الحديدى البارد ، المطلىّ بلون الفضة . وفى البعيد ، راح يجتذبه ألق حبّات الضوء الخافت التى ارتعشت على طول الجانب الآخر . لكنه ، رفع وجهه إلى عتمة السماء فوقه ، ومضى يفتش عن نجمة وحيدة وراء تلك النجمات ( نجمته الصغيرة ، البعيدة التى يراها وحده ، وتومض فى عينيه ) . هتف باسمها فاستدارت إليه :
- " هل قلت لك من قبل أن الجزيرة التى كانت هنا .. " .
- " لم تكن هناك جزيرة فى أى وقت ! " .
واقترب من وجهها . رأت شيئاً يلوح فى عينيه عندما قاطعته . واستشعرت دفء أنفاسه :
- " من قال هذا ؟ " .
لكنها انفلتت . تخطته ورفعت صوتها قليلاً :
- " لماذا تحاول أن تجعلنى أصدق أن جزيرة كانت هناك ؟ ".
- " هناك . كانت جزيرة بالفعل وقلت لك أن .. " .
- " حتى لو كانت هناك جزيرة وكنت تحلم أن تبنى فوقها بيتاً، ما شأنى أنا ؟ " .
نفضت راحتيها .ووارتهما جيبا معطفها الصوفى الثقيل ، بينما تراجعت فى اتجاه الحاجز البارد ، وسكنت . كان الجانب الآخر من القناة ، الذى تركته المعدية الكبيرة الآن هناك ، يلوح وكأنه غرق فى غلالة من ضوء شفيف . وحين تنبه إليها أخيراً ، رأى كتفيها العريضتين تعلوّان فى انتفاضة مرتعشة ، وقد راحت تنتحب فى الظلام دون صوت :
- " هل نركب تلك المعدية إذن ؟ " .
- " لا . أريد أن أقول لك ما أقوله لنفسى دائماً ، وانصرف ".
سارا .
كانا ينتهيان على اسفلت الشوارع النظيفة نحو الميدان الكبير . ارتعشت نسمة حادة ، فيما سقطت قطرة أو قطرتان . وعندما تطلع إليها ، رأى فى وجهها شيئاً عرفه تماماً .
كان عليها أن تقول ، أخيراً . فى المطر الذى راح يتراسل الآن ،فجأة ..
ترنيمة للصباح
كانت تنتهى بقهوة الصباح إلى الردهة . توقّفت قليلاً فى منتصف الرقعة الزاحفة لضوء النافذة الرمادى . وضعت الفنجان على المنضدة الصغيرة . وراحت تثب فى اتجاه الركن ، إلى سرير الوليد الذى استيقظ ، باكياً . وجعل يحرك أطرافه فى الهواء .
كان هو ، واقفاً فى مواجهة المرآة الكبيرة ( حيث يرى نفسه والملابس ) : يعقد ربطة عنقه ويغنى . حين تخطته ومالت على الصغير وابتسمت ، للذى بدا لها قليلاً ما تكتشف . وبينما تربعت ضامة إليها الولد ، سمعته يرفع صوته عالياً بالغناء الذى فاجأها . ضحكت ، وألقمته حلمة ثديها ، ومضت بغمغمة خافتة تهدهده . فكرت كيف ينتقل بعفوية وخفة ، عبر مقاطع الأغنيات التى أحبتها ، وخالته ما يزال يذكرها ـ ربما ـ منذ الصبا الباكر .
قالت : " لابد وأن أباك كان حلو الصوت " .
كف فجأة . وقرر أن يذهب فى الحال . لكنه فى الصمت الذى حلّ، أدرك أن التى عقدها ليست تلك التى أراد أولاً . وأن صوته الذى انطلق بالغناء ، ربما يكون قد انشرخ حين سكت . ورأته هى ( فيما ظلت تراقبه بابتسامة ) وقد انحنى على ربطات العنق الأخرى ، وتوقعت أن يعود إليها فى آخر الأمر .
قالت : " الزرقاء " .
قال : " هذه ؟ " .
قالت : " لا . الأزرق النيلى " .
قال : " هذه ؟ " .
قالت : " لا . الأخرى ذات الدوائر الرمادية " .
ارتدى الجاكيت . وفكّر كم أغنية فى هذا الصباح . وتقّدم لينظر .
قال : " أتظنين أنها تليق ؟ " .
قالت : " إنها تليق جداً " .
حاول وهو يرشف قهوته ، أن ينأى بعينيه بعيداً . كى يتحاشى النظر إليها الآن : وهى قد أنامت الصغير ، وتفرغت للتطلع . تعلقت عينيه بإطارات الصور على الجدران . الصور التى لم يكن من بينها واحدة للأب . جاهد أن يتذكر ملامح وجهه الهاربة . نظر إلى ساعته ، فاكتشف أن كُم قميصه ظل محلولاً . وأنه انحسر قليلاً ، حتى بان احتراق تلك البقع البنية الداكنة ، حول معصم اليد اليسرى. خرج . نزل درجتين أو ثلاثاً . وهناك ، فى ضوء السلم الأقلّ . توقف ، كى يترك لأصابعه أن تندس ما بين عنقه وياقة القميص . قفل عائداً . رآها وقد غادرت الركن ، وتقدمت إلى الطرقة .
قال : " سأرتدى الجينز ؟ " .
قالت : " الجينز ؟ " .
قال : " أشعر باختناق " .
شعر وهو يتجه إلى المقعد أن عليه أن يستريح تماماً . لذا دفع باب حجرتهما الداخلية ، واستراح .
وكانت هى تقترب من باب الحمّام ، دون أن تجد الرغبة كافية فيما اعتزمت فعله . أسرّت لنفسها بأن أحواله تبّدلت حقاً ، وأنها لم تعد تفهمه ، وأنها ستدخل وتغلق على نفسها الباب ، وتغيب طويلاً.
لكنها ، حين خرجت وسارت إلى الدولاب . تنبهت إلى صوتها وقد راح يعلو ( هى الأخرى ) بما يشبه ترديد الغناء ، فاطلقت ضحكة . والتفتت إلى صورتها فى المرآة . رأت الوليد ، ورأته أيضاً : على الفراش ممدداً ، مغمض العينين . وقد التف جسده بملاءة بيضاء . بعد ما ألقى بكل ما يرتدى إلى مقعد خشبى فى الجوار .
مطر مفاجىء
- " كنت أظن أنك ربما لن تأتى " .
كان يتكىء إلى سور الحديقة القصير . خطا خارجاً من الطوار . رفع يده إلى الميدان الكبير ، وحاول أن يبدو مرحاً :
- " إننا لم نأخذ هذا المطر فى الاعتبار ! " .
كانت قد أمطرت منذ قليل . بدت الناس والأشياء كما لو أنها اغتسلت الآن . راحا يتفاديان الحُفر الصغيرة التى امتلأت بالمطر . وراقب هو خيوط الضوء التى انكسرت على أسطح الحُفرات القريبة:
- " لماذا ظننت أننى ربما لن آتى؟ " .
- " لا أعرف . لا أعرف بالضبط " .
لاح ذلك الشحوب فى بياض وجهها المستدير ، وقد زال قليلاً : " لا أعرف .. أوقاتاً أقول لنفسى أن ما أريده .." والتفتت إليه : " لن يتحقق على نحو ما .." رأى عينيها الكبيرتين تضيقان وهى تواصل: " إذا لم يتحقق على نحو آخر " وتطلعت إلى الأمام ، وراح جانب وجهها يرتعش : " أنت لا تنزل النهر مرتين أبداً ، ما أريده شىء صعب .. صعب جداً " .
قال لها :
- " ذلك ليس صحيحاً أبداً . أشياؤنا التى نفعلها اليوم بقلب ميّت ، هى نفس تلك الأشياء التى نفعلها فى اليوم التالى بقلب نابض " .
وشبك راحة يده بين أصابعها الدقيقة ، وسألها :" هل لديك تفسير؟".
سرت برودتها إليه لفترة . غير أنها أفلتت يدها الصغيرة بارتجافة مفاجئة ، وخبأتها داخل جيب معطفها الأرجوانى الثقيل ، وصعدت الطوار . كانا يتقدمان فى اتجاه القناة ، تحت صف المصابيح القوية العالية . أخرج علبة سجائره وقال :
- " قلت هذا لك من قبل . ربما قلته . وأنت لا تريدين أن تصدقى !" .
هدأت خطواتهما رويداً ، وهما يدخلان تحت سقيفة المرساة المرتفعة . وكان الهواء قد استحال نسيماً رقيقاً الآن . حاول أن يتطلع إلى وجهها ، فلم يرها فى وقفتها تلك . كانت تنحرف بعينيها فى الماء بعيداً ، وقد أمسكت بكلتا راحتيها فى الحاجز الحديدى البارد ، المطلىّ بلون الفضة . وفى البعيد ، راح يجتذبه ألق حبّات الضوء الخافت التى ارتعشت على طول الجانب الآخر . لكنه ، رفع وجهه إلى عتمة السماء فوقه ، ومضى يفتش عن نجمة وحيدة وراء تلك النجمات ( نجمته الصغيرة ، البعيدة التى يراها وحده ، وتومض فى عينيه ) . هتف باسمها فاستدارت إليه :
- " هل قلت لك من قبل أن الجزيرة التى كانت هنا .. " .
- " لم تكن هناك جزيرة فى أى وقت ! " .
واقترب من وجهها . رأت شيئاً يلوح فى عينيه عندما قاطعته . واستشعرت دفء أنفاسه :
- " من قال هذا ؟ " .
لكنها انفلتت . تخطته ورفعت صوتها قليلاً :
- " لماذا تحاول أن تجعلنى أصدق أن جزيرة كانت هناك ؟ ".
- " هناك . كانت جزيرة بالفعل وقلت لك أن .. " .
- " حتى لو كانت هناك جزيرة وكنت تحلم أن تبنى فوقها بيتاً، ما شأنى أنا ؟ " .
نفضت راحتيها .ووارتهما جيبا معطفها الصوفى الثقيل ، بينما تراجعت فى اتجاه الحاجز البارد ، وسكنت . كان الجانب الآخر من القناة ، الذى تركته المعدية الكبيرة الآن هناك ، يلوح وكأنه غرق فى غلالة من ضوء شفيف . وحين تنبه إليها أخيراً ، رأى كتفيها العريضتين تعلوّان فى انتفاضة مرتعشة ، وقد راحت تنتحب فى الظلام دون صوت :
- " هل نركب تلك المعدية إذن ؟ " .
- " لا . أريد أن أقول لك ما أقوله لنفسى دائماً ، وانصرف ".
سارا .
كانا ينتهيان على اسفلت الشوارع النظيفة نحو الميدان الكبير . ارتعشت نسمة حادة ، فيما سقطت قطرة أو قطرتان . وعندما تطلع إليها ، رأى فى وجهها شيئاً عرفه تماماً .
كان عليها أن تقول ، أخيراً . فى المطر الذى راح يتراسل الآن ،فجأة ..
ترنيمة للصباح
كانت تنتهى بقهوة الصباح إلى الردهة . توقّفت قليلاً فى منتصف الرقعة الزاحفة لضوء النافذة الرمادى . وضعت الفنجان على المنضدة الصغيرة . وراحت تثب فى اتجاه الركن ، إلى سرير الوليد الذى استيقظ ، باكياً . وجعل يحرك أطرافه فى الهواء .
كان هو ، واقفاً فى مواجهة المرآة الكبيرة ( حيث يرى نفسه والملابس ) : يعقد ربطة عنقه ويغنى . حين تخطته ومالت على الصغير وابتسمت ، للذى بدا لها قليلاً ما تكتشف . وبينما تربعت ضامة إليها الولد ، سمعته يرفع صوته عالياً بالغناء الذى فاجأها . ضحكت ، وألقمته حلمة ثديها ، ومضت بغمغمة خافتة تهدهده . فكرت كيف ينتقل بعفوية وخفة ، عبر مقاطع الأغنيات التى أحبتها ، وخالته ما يزال يذكرها ـ ربما ـ منذ الصبا الباكر .
قالت : " لابد وأن أباك كان حلو الصوت " .
كف فجأة . وقرر أن يذهب فى الحال . لكنه فى الصمت الذى حلّ، أدرك أن التى عقدها ليست تلك التى أراد أولاً . وأن صوته الذى انطلق بالغناء ، ربما يكون قد انشرخ حين سكت . ورأته هى ( فيما ظلت تراقبه بابتسامة ) وقد انحنى على ربطات العنق الأخرى ، وتوقعت أن يعود إليها فى آخر الأمر .
قالت : " الزرقاء " .
قال : " هذه ؟ " .
قالت : " لا . الأزرق النيلى " .
قال : " هذه ؟ " .
قالت : " لا . الأخرى ذات الدوائر الرمادية " .
ارتدى الجاكيت . وفكّر كم أغنية فى هذا الصباح . وتقّدم لينظر .
قال : " أتظنين أنها تليق ؟ " .
قالت : " إنها تليق جداً " .
حاول وهو يرشف قهوته ، أن ينأى بعينيه بعيداً . كى يتحاشى النظر إليها الآن : وهى قد أنامت الصغير ، وتفرغت للتطلع . تعلقت عينيه بإطارات الصور على الجدران . الصور التى لم يكن من بينها واحدة للأب . جاهد أن يتذكر ملامح وجهه الهاربة . نظر إلى ساعته ، فاكتشف أن كُم قميصه ظل محلولاً . وأنه انحسر قليلاً ، حتى بان احتراق تلك البقع البنية الداكنة ، حول معصم اليد اليسرى. خرج . نزل درجتين أو ثلاثاً . وهناك ، فى ضوء السلم الأقلّ . توقف ، كى يترك لأصابعه أن تندس ما بين عنقه وياقة القميص . قفل عائداً . رآها وقد غادرت الركن ، وتقدمت إلى الطرقة .
قال : " سأرتدى الجينز ؟ " .
قالت : " الجينز ؟ " .
قال : " أشعر باختناق " .
شعر وهو يتجه إلى المقعد أن عليه أن يستريح تماماً . لذا دفع باب حجرتهما الداخلية ، واستراح .
وكانت هى تقترب من باب الحمّام ، دون أن تجد الرغبة كافية فيما اعتزمت فعله . أسرّت لنفسها بأن أحواله تبّدلت حقاً ، وأنها لم تعد تفهمه ، وأنها ستدخل وتغلق على نفسها الباب ، وتغيب طويلاً.
لكنها ، حين خرجت وسارت إلى الدولاب . تنبهت إلى صوتها وقد راح يعلو ( هى الأخرى ) بما يشبه ترديد الغناء ، فاطلقت ضحكة . والتفتت إلى صورتها فى المرآة . رأت الوليد ، ورأته أيضاً : على الفراش ممدداً ، مغمض العينين . وقد التف جسده بملاءة بيضاء . بعد ما ألقى بكل ما يرتدى إلى مقعد خشبى فى الجوار .
كانت أمى تتوشح بشال من قطيفة بيضاء . تضم طرفيه على كتفيها الناحلتين بيد واحدة ، وبأخرى تقبض على كفى المؤرجحة بينها وبين أبى . لا أرى وجهها المحجوب عنى أبداً ، فى لفة الإيشارب الكبير الداكن . كنت أسمعها خفيفاً ، تخاطب أبى . وبيدها التى تمسك بى تشير فى النواحى . ولعلها كفّت عن السير لحظة ، وانتظرته ، حينما تراجع وراءنا خطوات ، كى يُفلت سعلة متواصلة محمومة ، ويتفل فى الهواء .
أجل . ربما كان الأقربون لأبى فى العمل ، قد وصفوا له النسمة البحرية ، ساعة المطر ، لشكاية لا يقطعها مثل سعاله ، عن علة تسكن صدره .
وأنا تطلعت إلى البعيد . ولم أكن أعرف كيف يكون لى أن أبوح بسحر انشداهى المفاجىء ، لسماع رغرغة الموجة أقرب ما يمكن : إذ هى تهوى متكسرة من العلوّ . وتأتى هادرة مرغية لتغطى ساقىّ المخوّضتين فى وحل الرمال .
وصرخت فى أبى :" أريد أن أذهب إلى هناك " … وأفلتُ يداً .
قال : " أنت مجنون مثل أمك " .
هجمت يده العريضة تنتزعنى إليها ، عندما رآنى أبكى ، محاولاً تخليص أصابعى من كف أمى . وراح يهددنى بخوار يحاكى خوار تنين البحار السبعة ، القابع تحت الماء بقرب البر . فمه المهول مفتوح بلا حدود ، من أول البحر إلى آخره . والذى يطبقه مرة واحدة على فرائس ضالة . كلما امتلأ الفم الخرافى بأولاد صغار مثلى ، لم يسمعوا لآبائهم كلاماً .
حتى أمى ، مضت تشاركه . أطلقت من أقفاص خيالها ، سراح كائنات ليل مرعبة : مسوخ شوهاء مقطوعة الأوصال . والدم الأسود النازف ، يشخب حاراً من جروح عفنة ، مثل حفرات غائرة دونما قرار . إذا هى صادفت الولد الضال ، غيبّته داخلها والتأمت عليه . لا يطلع له جسد أبداً ، إلا بدقّات الطبل والدفوف .
قال أبى : " أنظر . هانحن فى العراء ولا وجود للطبل الآن " . وانحنى يسعل بقوة .
لكننى انفلتُ أخيراً ، واندفعت أجرى . جريت وجريت ، حتى شحبت أصوات صراخهما ورائى . التفت ورأيتهما ، على البعد : نقطتين صغيرتين ، تتخايلان بارتعاش ، فى العتمة الساقطة . ورحت أخلع ثيابى ..
ثمة أخيلة وأشباح ، لتذكارات مطموسة وهاربة عن أننى انطلقت أركض عارياً وحدى ، ونهنهة باكية وسعلات تملأ أصداؤها الفضاء من حولى .
كنا فى أول الليل . وحبّات قليلة من المطر ، قد بدأت تتساقط ..
كائنات ليل
ثمة ذكرى صغيرة وغائمة ، عن أننى فى ليلة شاتية ، أصررت على نزول البحر . كنا فى الغروب ، والكون رحب : سماء وسيعة بألوان ذات وهج ، والبحر موجات من فضة زرقاء .
كانت أمى تتوشح بشال من قطيفة بيضاء . تضم طرفيه على كتفيها الناحلتين بيد واحدة ، وبأخرى تقبض على كفى المؤرجحة بينها وبين أبى . لا أرى وجهها المحجوب عنى أبداً ، فى لفة الإيشارب الكبير الداكن . كنت أسمعها خفيفاً ، تخاطب أبى . وبيدها التى تمسك بى تشير فى النواحى . ولعلها كفّت عن السير لحظة ، وانتظرته ، حينما تراجع وراءنا خطوات ، كى يُفلت سعلة متواصلة محمومة ، ويتفل فى الهواء .
أجل . ربما كان الأقربون لأبى فى العمل ، قد وصفوا له النسمة البحرية ، ساعة المطر ، لشكاية لا يقطعها مثل سعاله ، عن علة تسكن صدره .
وأنا تطلعت إلى البعيد . ولم أكن أعرف كيف يكون لى أن أبوح بسحر انشداهى المفاجىء ، لسماع رغرغة الموجة أقرب ما يمكن : إذ هى تهوى متكسرة من العلوّ . وتأتى هادرة مرغية لتغطى ساقىّ المخوّضتين فى وحل الرمال .
وصرخت فى أبى :" أريد أن أذهب إلى هناك " … وأفلتُ يداً .
قال : " أنت مجنون مثل أمك " .
هجمت يده العريضة تنتزعنى إليها ، عندما رآنى أبكى ، محاولاً تخليص أصابعى من كف أمى . وراح يهددنى بخوار يحاكى خوار تنين البحار السبعة ، القابع تحت الماء بقرب البر . فمه المهول مفتوح بلا حدود ، من أول البحر إلى آخره . والذى يطبقه مرة واحدة على فرائس ضالة . كلما امتلأ الفم الخرافى بأولاد صغار مثلى ، لم يسمعوا لآبائهم كلاماً .
حتى أمى ، مضت تشاركه . أطلقت من أقفاص خيالها ، سراح كائنات ليل مرعبة : مسوخ شوهاء مقطوعة الأوصال . والدم الأسود النازف ، يشخب حاراً من جروح عفنة ، مثل حفرات غائرة دونما قرار . إذا هى صادفت الولد الضال ، غيبّته داخلها والتأمت عليه . لا يطلع له جسد أبداً ، إلا بدقّات الطبل والدفوف .
قال أبى : " أنظر . هانحن فى العراء ولا وجود للطبل الآن " . وانحنى يسعل بقوة .
لكننى انفلتُ أخيراً ، واندفعت أجرى . جريت وجريت ، حتى شحبت أصوات صراخهما ورائى . التفت ورأيتهما ، على البعد : نقطتين صغيرتين ، تتخايلان بارتعاش ، فى العتمة الساقطة . ورحت أخلع ثيابى ..
ثمة أخيلة وأشباح ، لتذكارات مطموسة وهاربة عن أننى انطلقت أركض عارياً وحدى ، ونهنهة باكية وسعلات تملأ أصداؤها الفضاء من حولى .
كنا فى أول الليل . وحبّات قليلة من المطر ، قد بدأت تتساقط ..
مطر مفاجىء
- " كنت أظن أنك ربما لن تأتى " .
كان يتكىء إلى سور الحديقة القصير . خطا خارجاً من الطوار . رفع يده إلى الميدان الكبير ، وحاول أن يبدو مرحاً :
- " إننا لم نأخذ هذا المطر فى الاعتبار ! " .
كانت قد أمطرت منذ قليل . بدت الناس والأشياء كما لو أنها اغتسلت الآن . راحا يتفاديان الحُفر الصغيرة التى امتلأت بالمطر . وراقب هو خيوط الضوء التى انكسرت على أسطح الحُفرات القريبة:
- " لماذا ظننت أننى ربما لن آتى؟ " .
- " لا أعرف . لا أعرف بالضبط " .
لاح ذلك الشحوب فى بياض وجهها المستدير ، وقد زال قليلاً : " لا أعرف .. أوقاتاً أقول لنفسى أن ما أريده .." والتفتت إليه : " لن يتحقق على نحو ما .." رأى عينيها الكبيرتين تضيقان وهى تواصل: " إذا لم يتحقق على نحو آخر " وتطلعت إلى الأمام ، وراح جانب وجهها يرتعش : " أنت لا تنزل النهر مرتين أبداً ، ما أريده شىء صعب .. صعب جداً " .
قال لها :
- " ذلك ليس صحيحاً أبداً . أشياؤنا التى نفعلها اليوم بقلب ميّت ، هى نفس تلك الأشياء التى نفعلها فى اليوم التالى بقلب نابض " .
وشبك راحة يده بين أصابعها الدقيقة ، وسألها :" هل لديك تفسير؟".
سرت برودتها إليه لفترة . غير أنها أفلتت يدها الصغيرة بارتجافة مفاجئة ، وخبأتها داخل جيب معطفها الأرجوانى الثقيل ، وصعدت الطوار . كانا يتقدمان فى اتجاه القناة ، تحت صف المصابيح القوية العالية . أخرج علبة سجائره وقال :
- " قلت هذا لك من قبل . ربما قلته . وأنت لا تريدين أن تصدقى !" .
هدأت خطواتهما رويداً ، وهما يدخلان تحت سقيفة المرساة المرتفعة . وكان الهواء قد استحال نسيماً رقيقاً الآن . حاول أن يتطلع إلى وجهها ، فلم يرها فى وقفتها تلك . كانت تنحرف بعينيها فى الماء بعيداً ، وقد أمسكت بكلتا راحتيها فى الحاجز الحديدى البارد ، المطلىّ بلون الفضة . وفى البعيد ، راح يجتذبه ألق حبّات الضوء الخافت التى ارتعشت على طول الجانب الآخر . لكنه ، رفع وجهه إلى عتمة السماء فوقه ، ومضى يفتش عن نجمة وحيدة وراء تلك النجمات ( نجمته الصغيرة ، البعيدة التى يراها وحده ، وتومض فى عينيه ) . هتف باسمها فاستدارت إليه :
- " هل قلت لك من قبل أن الجزيرة التى كانت هنا .. " .
- " لم تكن هناك جزيرة فى أى وقت ! " .
واقترب من وجهها . رأت شيئاً يلوح فى عينيه عندما قاطعته . واستشعرت دفء أنفاسه :
- " من قال هذا ؟ " .
لكنها انفلتت . تخطته ورفعت صوتها قليلاً :
- " لماذا تحاول أن تجعلنى أصدق أن جزيرة كانت هناك ؟ ".
- " هناك . كانت جزيرة بالفعل وقلت لك أن .. " .
- " حتى لو كانت هناك جزيرة وكنت تحلم أن تبنى فوقها بيتاً، ما شأنى أنا ؟ " .
نفضت راحتيها .ووارتهما جيبا معطفها الصوفى الثقيل ، بينما تراجعت فى اتجاه الحاجز البارد ، وسكنت . كان الجانب الآخر من القناة ، الذى تركته المعدية الكبيرة الآن هناك ، يلوح وكأنه غرق فى غلالة من ضوء شفيف . وحين تنبه إليها أخيراً ، رأى كتفيها العريضتين تعلوّان فى انتفاضة مرتعشة ، وقد راحت تنتحب فى الظلام دون صوت :
- " هل نركب تلك المعدية إذن ؟ " .
- " لا . أريد أن أقول لك ما أقوله لنفسى دائماً ، وانصرف ".
سارا .
كانا ينتهيان على اسفلت الشوارع النظيفة نحو الميدان الكبير . ارتعشت نسمة حادة ، فيما سقطت قطرة أو قطرتان . وعندما تطلع إليها ، رأى فى وجهها شيئاً عرفه تماماً .
كان عليها أن تقول ، أخيراً . فى المطر الذى راح يتراسل الآن ،فجأة ..
ترنيمة للصباح
كانت تنتهى بقهوة الصباح إلى الردهة . توقّفت قليلاً فى منتصف الرقعة الزاحفة لضوء النافذة الرمادى . وضعت الفنجان على المنضدة الصغيرة . وراحت تثب فى اتجاه الركن ، إلى سرير الوليد الذى استيقظ ، باكياً . وجعل يحرك أطرافه فى الهواء .
كان هو ، واقفاً فى مواجهة المرآة الكبيرة ( حيث يرى نفسه والملابس ) : يعقد ربطة عنقه ويغنى . حين تخطته ومالت على الصغير وابتسمت ، للذى بدا لها قليلاً ما تكتشف . وبينما تربعت ضامة إليها الولد ، سمعته يرفع صوته عالياً بالغناء الذى فاجأها . ضحكت ، وألقمته حلمة ثديها ، ومضت بغمغمة خافتة تهدهده . فكرت كيف ينتقل بعفوية وخفة ، عبر مقاطع الأغنيات التى أحبتها ، وخالته ما يزال يذكرها ـ ربما ـ منذ الصبا الباكر .
قالت : " لابد وأن أباك كان حلو الصوت " .
كف فجأة . وقرر أن يذهب فى الحال . لكنه فى الصمت الذى حلّ، أدرك أن التى عقدها ليست تلك التى أراد أولاً . وأن صوته الذى انطلق بالغناء ، ربما يكون قد انشرخ حين سكت . ورأته هى ( فيما ظلت تراقبه بابتسامة ) وقد انحنى على ربطات العنق الأخرى ، وتوقعت أن يعود إليها فى آخر الأمر .
قالت : " الزرقاء " .
قال : " هذه ؟ " .
قالت : " لا . الأزرق النيلى " .
قال : " هذه ؟ " .
قالت : " لا . الأخرى ذات الدوائر الرمادية " .
ارتدى الجاكيت . وفكّر كم أغنية فى هذا الصباح . وتقّدم لينظر .
قال : " أتظنين أنها تليق ؟ " .
قالت : " إنها تليق جداً " .
حاول وهو يرشف قهوته ، أن ينأى بعينيه بعيداً . كى يتحاشى النظر إليها الآن : وهى قد أنامت الصغير ، وتفرغت للتطلع . تعلقت عينيه بإطارات الصور على الجدران . الصور التى لم يكن من بينها واحدة للأب . جاهد أن يتذكر ملامح وجهه الهاربة . نظر إلى ساعته ، فاكتشف أن كُم قميصه ظل محلولاً . وأنه انحسر قليلاً ، حتى بان احتراق تلك البقع البنية الداكنة ، حول معصم اليد اليسرى. خرج . نزل درجتين أو ثلاثاً . وهناك ، فى ضوء السلم الأقلّ . توقف ، كى يترك لأصابعه أن تندس ما بين عنقه وياقة القميص . قفل عائداً . رآها وقد غادرت الركن ، وتقدمت إلى الطرقة .
قال : " سأرتدى الجينز ؟ " .
قالت : " الجينز ؟ " .
قال : " أشعر باختناق " .
شعر وهو يتجه إلى المقعد أن عليه أن يستريح تماماً . لذا دفع باب حجرتهما الداخلية ، واستراح .
وكانت هى تقترب من باب الحمّام ، دون أن تجد الرغبة كافية فيما اعتزمت فعله . أسرّت لنفسها بأن أحواله تبّدلت حقاً ، وأنها لم تعد تفهمه ، وأنها ستدخل وتغلق على نفسها الباب ، وتغيب طويلاً.
لكنها ، حين خرجت وسارت إلى الدولاب . تنبهت إلى صوتها وقد راح يعلو ( هى الأخرى ) بما يشبه ترديد الغناء ، فاطلقت ضحكة . والتفتت إلى صورتها فى المرآة . رأت الوليد ، ورأته أيضاً : على الفراش ممدداً ، مغمض العينين . وقد التف جسده بملاءة بيضاء . بعد ما ألقى بكل ما يرتدى إلى مقعد خشبى فى الجوار .
مطر مفاجىء
- " كنت أظن أنك ربما لن تأتى " .
كان يتكىء إلى سور الحديقة القصير . خطا خارجاً من الطوار . رفع يده إلى الميدان الكبير ، وحاول أن يبدو مرحاً :
- " إننا لم نأخذ هذا المطر فى الاعتبار ! " .
كانت قد أمطرت منذ قليل . بدت الناس والأشياء كما لو أنها اغتسلت الآن . راحا يتفاديان الحُفر الصغيرة التى امتلأت بالمطر . وراقب هو خيوط الضوء التى انكسرت على أسطح الحُفرات القريبة:
- " لماذا ظننت أننى ربما لن آتى؟ " .
- " لا أعرف . لا أعرف بالضبط " .
لاح ذلك الشحوب فى بياض وجهها المستدير ، وقد زال قليلاً : " لا أعرف .. أوقاتاً أقول لنفسى أن ما أريده .." والتفتت إليه : " لن يتحقق على نحو ما .." رأى عينيها الكبيرتين تضيقان وهى تواصل: " إذا لم يتحقق على نحو آخر " وتطلعت إلى الأمام ، وراح جانب وجهها يرتعش : " أنت لا تنزل النهر مرتين أبداً ، ما أريده شىء صعب .. صعب جداً " .
قال لها :
- " ذلك ليس صحيحاً أبداً . أشياؤنا التى نفعلها اليوم بقلب ميّت ، هى نفس تلك الأشياء التى نفعلها فى اليوم التالى بقلب نابض " .
وشبك راحة يده بين أصابعها الدقيقة ، وسألها :" هل لديك تفسير؟".
سرت برودتها إليه لفترة . غير أنها أفلتت يدها الصغيرة بارتجافة مفاجئة ، وخبأتها داخل جيب معطفها الأرجوانى الثقيل ، وصعدت الطوار . كانا يتقدمان فى اتجاه القناة ، تحت صف المصابيح القوية العالية . أخرج علبة سجائره وقال :
- " قلت هذا لك من قبل . ربما قلته . وأنت لا تريدين أن تصدقى !" .
هدأت خطواتهما رويداً ، وهما يدخلان تحت سقيفة المرساة المرتفعة . وكان الهواء قد استحال نسيماً رقيقاً الآن . حاول أن يتطلع إلى وجهها ، فلم يرها فى وقفتها تلك . كانت تنحرف بعينيها فى الماء بعيداً ، وقد أمسكت بكلتا راحتيها فى الحاجز الحديدى البارد ، المطلىّ بلون الفضة . وفى البعيد ، راح يجتذبه ألق حبّات الضوء الخافت التى ارتعشت على طول الجانب الآخر . لكنه ، رفع وجهه إلى عتمة السماء فوقه ، ومضى يفتش عن نجمة وحيدة وراء تلك النجمات ( نجمته الصغيرة ، البعيدة التى يراها وحده ، وتومض فى عينيه ) . هتف باسمها فاستدارت إليه :
- " هل قلت لك من قبل أن الجزيرة التى كانت هنا .. " .
- " لم تكن هناك جزيرة فى أى وقت ! " .
واقترب من وجهها . رأت شيئاً يلوح فى عينيه عندما قاطعته . واستشعرت دفء أنفاسه :
- " من قال هذا ؟ " .
لكنها انفلتت . تخطته ورفعت صوتها قليلاً :
- " لماذا تحاول أن تجعلنى أصدق أن جزيرة كانت هناك ؟ ".
- " هناك . كانت جزيرة بالفعل وقلت لك أن .. " .
- " حتى لو كانت هناك جزيرة وكنت تحلم أن تبنى فوقها بيتاً، ما شأنى أنا ؟ " .
نفضت راحتيها .ووارتهما جيبا معطفها الصوفى الثقيل ، بينما تراجعت فى اتجاه الحاجز البارد ، وسكنت . كان الجانب الآخر من القناة ، الذى تركته المعدية الكبيرة الآن هناك ، يلوح وكأنه غرق فى غلالة من ضوء شفيف . وحين تنبه إليها أخيراً ، رأى كتفيها العريضتين تعلوّان فى انتفاضة مرتعشة ، وقد راحت تنتحب فى الظلام دون صوت :
- " هل نركب تلك المعدية إذن ؟ " .
- " لا . أريد أن أقول لك ما أقوله لنفسى دائماً ، وانصرف ".
سارا .
كانا ينتهيان على اسفلت الشوارع النظيفة نحو الميدان الكبير . ارتعشت نسمة حادة ، فيما سقطت قطرة أو قطرتان . وعندما تطلع إليها ، رأى فى وجهها شيئاً عرفه تماماً .
كان عليها أن تقول ، أخيراً . فى المطر الذى راح يتراسل الآن ،فجأة ..
ترنيمة للصباح
كانت تنتهى بقهوة الصباح إلى الردهة . توقّفت قليلاً فى منتصف الرقعة الزاحفة لضوء النافذة الرمادى . وضعت الفنجان على المنضدة الصغيرة . وراحت تثب فى اتجاه الركن ، إلى سرير الوليد الذى استيقظ ، باكياً . وجعل يحرك أطرافه فى الهواء .
كان هو ، واقفاً فى مواجهة المرآة الكبيرة ( حيث يرى نفسه والملابس ) : يعقد ربطة عنقه ويغنى . حين تخطته ومالت على الصغير وابتسمت ، للذى بدا لها قليلاً ما تكتشف . وبينما تربعت ضامة إليها الولد ، سمعته يرفع صوته عالياً بالغناء الذى فاجأها . ضحكت ، وألقمته حلمة ثديها ، ومضت بغمغمة خافتة تهدهده . فكرت كيف ينتقل بعفوية وخفة ، عبر مقاطع الأغنيات التى أحبتها ، وخالته ما يزال يذكرها ـ ربما ـ منذ الصبا الباكر .
قالت : " لابد وأن أباك كان حلو الصوت " .
كف فجأة . وقرر أن يذهب فى الحال . لكنه فى الصمت الذى حلّ، أدرك أن التى عقدها ليست تلك التى أراد أولاً . وأن صوته الذى انطلق بالغناء ، ربما يكون قد انشرخ حين سكت . ورأته هى ( فيما ظلت تراقبه بابتسامة ) وقد انحنى على ربطات العنق الأخرى ، وتوقعت أن يعود إليها فى آخر الأمر .
قالت : " الزرقاء " .
قال : " هذه ؟ " .
قالت : " لا . الأزرق النيلى " .
قال : " هذه ؟ " .
قالت : " لا . الأخرى ذات الدوائر الرمادية " .
ارتدى الجاكيت . وفكّر كم أغنية فى هذا الصباح . وتقّدم لينظر .
قال : " أتظنين أنها تليق ؟ " .
قالت : " إنها تليق جداً " .
حاول وهو يرشف قهوته ، أن ينأى بعينيه بعيداً . كى يتحاشى النظر إليها الآن : وهى قد أنامت الصغير ، وتفرغت للتطلع . تعلقت عينيه بإطارات الصور على الجدران . الصور التى لم يكن من بينها واحدة للأب . جاهد أن يتذكر ملامح وجهه الهاربة . نظر إلى ساعته ، فاكتشف أن كُم قميصه ظل محلولاً . وأنه انحسر قليلاً ، حتى بان احتراق تلك البقع البنية الداكنة ، حول معصم اليد اليسرى. خرج . نزل درجتين أو ثلاثاً . وهناك ، فى ضوء السلم الأقلّ . توقف ، كى يترك لأصابعه أن تندس ما بين عنقه وياقة القميص . قفل عائداً . رآها وقد غادرت الركن ، وتقدمت إلى الطرقة .
قال : " سأرتدى الجينز ؟ " .
قالت : " الجينز ؟ " .
قال : " أشعر باختناق " .
شعر وهو يتجه إلى المقعد أن عليه أن يستريح تماماً . لذا دفع باب حجرتهما الداخلية ، واستراح .
وكانت هى تقترب من باب الحمّام ، دون أن تجد الرغبة كافية فيما اعتزمت فعله . أسرّت لنفسها بأن أحواله تبّدلت حقاً ، وأنها لم تعد تفهمه ، وأنها ستدخل وتغلق على نفسها الباب ، وتغيب طويلاً.
لكنها ، حين خرجت وسارت إلى الدولاب . تنبهت إلى صوتها وقد راح يعلو ( هى الأخرى ) بما يشبه ترديد الغناء ، فاطلقت ضحكة . والتفتت إلى صورتها فى المرآة . رأت الوليد ، ورأته أيضاً : على الفراش ممدداً ، مغمض العينين . وقد التف جسده بملاءة بيضاء . بعد ما ألقى بكل ما يرتدى إلى مقعد خشبى فى الجوار .