صور لا تعرف الغياب

لطالما عشقت الصورة، الضوء، الأثر، ذلك الشعور بأن أحدهم ترك دون أن يدري قطعة منه لتذكرني به حتى وإن كنت لا أعرفه لأنه بذلك قاوم النسيان ولو بصورة، فما أقسى الحياة التي تحملنا إليه وما أصعبها لولا فسحة وجوده، لذا تعيش الذاكرة مع النسيان كتوأمٍ غير متماثل، يرقصان معاً على لحن الوجع دون أن يلمس أحدهما الآخر كخطين متوازيين لن يلتقيا إلا بإنهيار أحدهما فيشده معه إلى قاعٍ سحيقٍ لا عودة منه..

وبين الصور عرفت المعاني، نظمت الشعر وكتبت الكثير، أخفيت إحساسي بها وعرفت معنى أن تعشق العدسة وجه أحدهم لتصطفيه ويكون حبيبها، وعرفت أحياناً كم هي ظالمة، وكم تشبه البشر، وكم تسبر أغوارهم رغماً عنهم، وكم تتواطؤ معهم فيلمع أمامها نجمٌ ليخفت آخر، فكانت مدرستي التي جمعت الناس لي بتراصٍ دقيق كلعبة الورق، تلك اللعبة التي تنطوي على الكثير من الخبث المقنع الذي يخدرنا ولا نشعر بالذنب ونحن نمارسه، فيتخطانا الغير كما نتخطاه ضاحكين لنصل إلى نهايةٍ سعيدة لم تكن ترضيني لكنني عرفت أنها نسخةٌ عن الواقع، وكانت الصور نواة شخصياتي التي نسجتها في مخيلتي لتصنع حياةً بأكملها كما أشتهي، تتسع لمن لم يتذوقوها بعد أو لا يستطيعون التمييز بين كونهم يعيشون حقاً أو أنهم مجرد أشخاص على قيد الحياة أو حتى هامشها، تحلم بعالمٍ لن يدفع فيه أحد ثمن ذنبٍ لم يرتكبه، عالمٍ لن يضطهد فيه أحد بسبب مظهره أو ملامحه أو ضعفه أو إسمه أو لغته أو وطنه أو معتقده، وسط صورٍ توحدت معها ونبتت براعمها بداخلي وتحولت إلى أشخاصٍ نابضين، أخفيتهم عن أعين الناس خوفاً عليهم ليظهروا حين يشعرون بالأمان، لم أندم على حبي لهم ووجدت أن القدر وحده من أراد أن نلتقي لنعيش أدوارنا التي نختار وحدنا أن تكون ذات معنىً وقيمة..

فكلنا صورٌ متحركة لا يهمها أن تعيش بأناقةٍ داخل إطارٍ تنسى خلف زجاجه قدر ما يهمها أن تجد شريكاً يؤنسها بعد تجمد ابتسامتهما معاً.. يذيب بدفئه برد الوحدة وألم الغربة وانكسار النظرات في منفىً لا رجوع منه، يتسع لأرواح الغائبين وأحلام البسطاء التي جفت كثوبٍ مبتل تحت شمس الظهيرة في غفلةٍ من الزمن، ذلك الزمن الذي كبرنا ونحن نراقبه كالساعة الرملية حتى تسرب بأكمله عبر ثقوب قلوبنا ولم يترك سوى الصورة، صورةٍ معلقةٍ على الحائط أو في جيب القميص أو حقيبة اليد، تآكلت عبر الفصول واكتملت في الأعماق، أنضجها شوقٍ لم يرتوي سوى بالدموع المالحة والأغنيات القديمة، ولحظاتٍ من الخوف المعتق على عتبات انتظار ما لن يأتي أبداً إلا في مخيلةٍ أدمنت الهروب والركض بين الوجوه والأزمنة بحثاً عن الصورة المثالية التي لا وجود لها، والتي اختارت لأول مرة أن تتأمل ملامحها في المرآة قبل أن تنساها وتنسى معها وجودها الذي يشبه في حضوره الغياب..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى