محمد مصطفى العمراني - الثورة التي أعادت الثور !

عندما غادر عبد الله قاسم منزله في الصباح الباكر إلى سوق الثلاثاء لم يكن يخطر بباله ما سيحدث له اليوم ، كان من يتسوق معهم قد سبقوه ، رآهم وهم يسوقون مواشيهم ويحملون منتجاتهم ويصعدون النقيل ، نادى عليهم لينتظروه فلم يسمعه أحد ، قرر أن يحث الخطى ويلحق بهم ولكن دون جدوى فقد غابوا عن أنظاره .!

كان يقود خروفه ويفكر هل سيبيعه بالسعر الذي يستحق ويشتري كل حاجيات منزله أم أنهم سيبخسونه كعادتهم ؟

سيساومونه لكنه لن يقبل إلا بالسعر الذي حدده هو ، وغرق في تساؤلاته وهواجسه ، الوقت يمضي والخروف يسير خلفه بتثاقل ، لم يبلغ رأس النقيل بعد والشمس قد بدأت ترسل خيوطها ، هذا يعني أنه سيتأخر ولذا قرر أن يحمل الخروف على ظهره ويمضي بأقصى سرعة ممكنة ليصل في الوقت المناسب .

لم يمض عليه سوى نصف ساعة حتى أعياه التعب فأنزل الخروف من ظهره وعاد ليقوده ، وحين لاحت له القرية التي يقع السوق تحتها مسح عرقه وبدأ يتنفس الصعداء فقد أقترب كثيرا من السوق .

قبيل وصوله إلى السوق بلحظات كان شيخ تلك العزلة أحمد المحمودي يسير بخطى متثاقلة يتبعه مجموعة من المسلحين ، أرتبك عبد الله قاسم حين رآه وأراد أن ينزع جزمته الذي ينتعلها ليصافح الشيخ لكن الجزمة كأنها قد ألصقت بجلده فلم تخرج ، ولأنه قد أقترب كثيرا من الشيخ فقد صافحه وهو يلبس جزمته ، نظر الشيخ إليه شزرا وأستغرب من وقاحته وأحمر وجهه من الغضب وصاح به :

ـ من أنت ؟

ـ عبد الله قاسم من قرية أكمة الغراب .

هز الشيخ رأسه ومط شفتيه فمضى عبد الله قاسم إلى السوق وقد جف ريقه وغشاه العرق خجلا من الشيخ وخوفا من عاقبة مصافحته للشيخ دون أن ينزع جزمته .!

لقد شعر بأنه أرتكب جريمة لا تغتفر وقل أدبه مع الشيخ لكن ما حدث قد حدث ، لقد فعلها بغير قصد فقد حاول نزع الجزمة ولكن دون جدوى .!

الشيخ سينسى الأمر ، هكذا قال لنفسه وركز تفكيره حول خروفه ولحسن حظه فقد باعه بالسعر الذي يريد .

أشترى عبد الله قاسم حاجياته وعاد إلى قريته ، في الطريق كانوا يتحدثون عن الجمهورية التي قامت في صنعاء وعن الرئيس السلال ، حاول أن ينطق كلمة الجمهورية مرات عديدة ولكنه فشل مما أضحك عليه رفاقه .

بعد أن تناول الشيخ إفطاره في الدكة التي تعلو السوق أرسل ولده إلى المقوت عبده حسن ليأتيه بالقات المخصص له ، أخرج ثلاثة أغصان طرية وبدأ يمضغها وحين تذوق حلاوتها نادى على عبيد مدهش الخادم ليشعل له الفحم ويأتيه بالمداعة " النرجيلة " .

تطلع الشيخ إلى السوق وتعجب كيف لم يأت اليوم أي أحد لمصافحته ودفع " حق السوق " كالعادة ، لابد أن ذلك الرعوي الوقح قد سبب له النحس .!

جذب الشيخ نفسا من الدخان ثم أطلقه في الهواء قائلا :

ـ هذا الرعوي الوقح الذي صافحني ـ أعزكم الله ـ والحذاء برجله .

وسارع رفاقه إلى القول :

ـ ما له يا شيخ ؟ هل نأتي به ؟

ـ لا لا اتركوه هذا دبور من الصبح ..

ردد الجالسون حوله :

ـ صدقت يا شيخ هذا مدبر ووقح ولكن لابد من تأديبه .

هز الشيخ رأسه ونزع قلمه من جوار جنبيته وأخرج ورقة وكتب إلى شيخ العزلة التي يتبعها عبد الله قاسم بعد البسملة :

إلى حضرة الشيخ الأكرم عبد السلام أحمد حمود .. تحية طيبة وبعد :

فإن الرعوي المدعو عبد الله قاسم من قرية " أكمة الغراب " قد أرتكب اليوم بحقنا فعلة شنيعة ووقاحة بالغة حيث صافحنا ـ أعزك الله ـ دون أن ينزع جزمته ومن المؤكد بأن هذا لا يرضيكم ولا يسركم وعليه فقد عرفناكم بما جرى لاتخاذ اللازم والله المستعان وعليه التكلان .

أخوكم الشيخ أحمد المحمود .

عندما وصل الرسول إلى الشيخ عبد السلام أحمد حمود وسلمه الرسالة وما إن قرأها حتى أحمر وجهه ونادى في الحاضرين :

ـ إلى متى سأظل أنا أرقع بعدكم وأغطي على فضائحكم ؟!

تطلع من في المجلس إلى الشيخ وقد ألجمهم سؤاله ، صمت الجميع عدا قرقرة صدرت من المداعة التي يرتشف دخانها الفقيه ، وحين لم يجرؤ أحد على الكلام قال الشيخ :

ـ اليوم عبدالله قاسم صاحب " أكمة الغراب " تسوق الثلوث وصافح الشيخ المحمودي و...أعزكم الله والجزمة برجله .!

فغر الجميع أفواههم دهشة في حين أمسك الشيخ بذقنه وصاح :

ـ يا عيباه

وسارع من في المجلس إلى شتم هذا الرعوي الوقح وقطع الشيخ بكلامه كل قول :

ـ غدا من الصباح تأخذوا ثور عبد الله قاسم وتسوقوه إلى الشيخ المحمودي وصلة وتهجير له .

تألم عبد الله قاسم على فراق ثوره وتبول دماً من القهر وأقسم أن لا يلبس أي جزمة طوال عمره ، مرت الأيام والسنوات وعبد الله قاسم يتحسر على ثوره الذي أخذوه ظلما صباح الأربعاء حين قامت ثورة سبتمبر بصنعاء .

في عام 2002 م فوجئ عبد الله قاسم أثناء مروره في أحد شوارع مدينة إب بمذيع التلفزيون يستوقفه ويسأله :

ـ يا حاج معنا لك سؤال لو جاوبته تربح الجائزة 50 ألف ريال .

وأضاف :

ـ بمناسبة مرور 40 عاما على ثورة 26 سبتمبر ماذا حدث يوم 26 سبتمبر عام 1962م ؟

أجاب عبد الله قاسم دون تردد :

ـ الشيخ أخذ ثوري

أرتبك المذيع وضحك الذين تجمهروا حوله .

حاول المذيع أن يسهل له الجواب :

ـ يا حاج مش الثور الثورة

واصل عبد الله قاسم حديثه :

ـ أخذوا ثوري لأنني صافحت الشيخ وأنا لابس للجزمة

تفاجأ المذيع بحديثه الغريب وسأله :

ـ أنت من العدين يا حاج ؟

ـ نعم من العدين

ـ طيب والجواب هو : قيام ثورة 26 سبتمبر في صنعاء صح ؟

يهز عبد الله قاسم رأسه فيسلمه المذيع الجائزة ويعلن أنه الفائز .

فور تسلمه للنقود قام عبد الله قاسم بشراء جزمة جديدة ولبسها ، وبالمبلغ الباقي أشترى ثور .!

***********​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى