محمد مصطفى العمراني - ولي مع وقف التنفيذ !

اجتاحني حزن عميق عندما علمت بموت الطفل سمير جامل ، لم يكن من أقاربي ولم أعرفه من قرب ، بل لم يسبق لي أن رأيته ، لكنني أحسست بالندم الشديد وتأنيب الضمير ، وأنني بشكل أو بآخر قد تسببت بموته .!
أما كيف حدث هذا الأمر الغريب سأروي لكم القصة :
كانت أمه صديقة لأمي ، حقولهم بجوار حقولنا وكثيرا ما يلتقين ويتحدثن ، بينما كنت بجوارهن أجري وألعب وأطارد الفراشات ، وعندما كنت في الثانية عشرة من عمري سرت شائعة في قريتنا والقرى المجاورة بأنني قد كشف عني الحجاب ، ورزقت معرفة الأسرار ، باختصار كنت بنظرهم من أولياء الله الصالحين الذين ينظرون بنور الله ويعلمون الغيب أيضا .!
ولأنه لا دخان من غير نار فقد كنت أقرأ كل كتاب أراه ، ومن ضمن ما قرأته كتاب " أبو معشر الفلكي " ، وتعلمت من الكتاب معرفة الأبراج وقراءة الكف والطالع ، وحساب الغالب والمغلوب ، وربط القلوب بالمحبة ، وبدأت أخبر أقاربي بأبراجهم وأقرأ لهم الكف ، وأكتب الأحجبة والتمائم للأطفال ، كنت أعبث لكنني فوجئت بأنهم يصدقون ما أقول فأعجبني الأمر .
أتفرس في أكفهم ثم أضحك عليهم بالطريقة التي تعجبهم ، ولأني أعرفهم جيدا فقد كنت أخبرهم عما يحبون سماعه ، وأستمع إليهم يتحدثون عن أنفسهم .
أمسك كف أحدهم ثم أشرد إلى بعيد وأقول :
ـ أنت طيب القلب ونيتك خير .
فيرد على الفور :
ـ صحيح والله أنني طيب جدا وأحب كل الناس .
أتأمل كف الفتاة وأخبرها :
ـ أنت إنسانة مظلومة لا أحد يقدرك ويشيد بجهدك.
وعلى الفور تجهش بالبكاء .!
وبعد ساعة من البكاء تبدأ في كيل المديح لنفسها ، والثناء على ذاتها وعلى جهودها التي لا يقدرها أحد ولا يشكرها فيما أكتفي أنا بهز رأسي وموافقتها على ما تقول .
كنت باختصار أشبه بطبيب نفسي لأناس يعانون من حرمان عاطفي وسحق مزمن لذواتهم ، تصوروا بعض البنات لم تسمع كلمة طيبة منذ عرفت نفسها .!
رضية " أم سمير " كانت من ضمن النساء اللواتي جئن إلي ، مدت إلي كفها البيضاء الناعمة ثم بدأت تشكوا من شجاراتها المتكررة مع زوجها ، بعد أن استمعت إليها أخبرتها بكلام كثير عن طباعها ومستقبلها ، لم أعد أذكر ما قلت لها حينها ، لكن ما أذكره أنني قلت لها أن برجها لا يوافق برج زوجها هي هوائية وهو ناري ، وأنها لن تجد سعادتها إلا مع زوج آخر من غير أهلها ، زوج يوافق برجها برجه وتنسجم طباعهم .
في اليوم الثاني ذهبت رضية إلى الشيخ والقاضي تشكو زوجها وطلبت الخلع منه وتم طلاقها .!
لقد صدقتني بينما كنت أكذب عليها وأرضيها بأي كلام يخطر ببالي .!
بعد ذلك بدأ الشجار حول الطفل سمير ومن له حق حضانته ثم تم الاتفاق على أن يظل الطفل عند جده ، ويذهب إلى أمه متى ما أراد .
لابد أن الطفل قد تشرد وحرم من حنان أمه وصار الضحية لهذا الزواج الفاشل ، بعد أشهر مرض الطفل ومات .
بقيت لأسابيع وأنا لا أنام الليل ، تداهمني كوابيس مفزعة ، أراني أنتزع الطفل من بين أحضان أمه وألقي به في هاوية سحيقة مظلمة ثم أهوي وراءه وأظل أبحث بين الصخور والأشواك حتى أجده ، ثم أحمله على ظهري وأصعد به في طريق طويل ووعر ، حمل ثقيل يكاد يقصم ظهري ، وهكذا أظل أحمله وأطوف به كل القرى والبيوت ، أطلب من الناس مساعدتي لدفنه لكن الكل يدير ظهره لي .!
يزداد ثقله علي حتى أبرك على الأرض وهو على ظهري ثقيلا مثل الخشبة الكبيرة ، ثم أصحو فزعا وأصرخ فأوقظ الجميع ، بعدها أظل مستيقظا حتى الصباح .!
كنا في وقت الحصاد وجموع من النساء يحصدن الذرة في حقلنا عندما سألت أمي :
ـ كيف مات سمير بن رضية ؟
أجابت بلا مبالاة :
ـ مرض ومات .
وفوجئت أمي باعترافي :
ـ أنا السبب في موته .
توقفت عن الحصاد ورمت الشريم " المنجل " جانبا وأقبلت نحوي تسألني :
ـ كيف أنت السبب في موته ؟!
ـ لقد أخبرت أمه بأنها ستتزوج زوجاً آخر من غير أهلها فطلبت الطلاق من زوجها وتشرد الطفل ومرض ومات .
أكدت لي أمي أن " رضية " كانت قد قررت خلع زوجها من قبل أن تأتي إلي وأخبرتها بذلك ، وأنهم بعد طلاقها تركوا الطفل عندها ، فقط اشترطوا أن يذهب يوم الجمعة إلى بيت جده ويعود إليها ، وأنه كان مدللا جداً ، وأقسمت لي بأنني لست السبب في موته لا من قريب ولا من بعيد ، وأن الطلاق كان سيتم بشكل حتمي حتى لو نصحتها بأن تظل مع زوجها .!
لم أطمئن لحديث أمي ، ربما خافت علي وأرادت أن تطمئنني وتزيل شكوكي ، بقيت أسأل كل الناس عن موت الطفل حتى تأكدت أن لا صلة لي بما حدث له ، حينها استراح ضميري وأطمئن قلبي ، لقد زالت الكوابيس التي هاجمتني على مدى أسابيع ولأول مرة أنام باطمئنان .
بعد انتهاء عدتها تزوجت " رضية " بزوج من غير أهلها كما أخبرتها ، بعدها ظلت تروج لأكاذيبي وتخبر الجميع أنني قد تنبأت لها بهذا الأمر وأن ما أقوله هو الحقيقة ، زادت جموع البنات اللواتي يأتين إلي وفي أذهانهن سؤال واحد :
ـ هل سيتزوجن أم لا ؟!
لكنني كنت قررت أن لا أقرأ الكف لأي فتاة ولو أحرجتني أمي .
لكن كيف سأصنع أمام هذه الطوابير التي تأتي من كل حدب وصوب ؟!
بعض البنات تأتي محملة بالدجاج والبيض والسمن والعسل والنقود وتقبل رأس أمي وتظل تترجاها بأن تحرجني أقرأ لها الكف وأخبرها :
ـ هل ستتزوج وتستريح من العمل في بيت أهلها ومتى ؟
تأتي أمي وتخبرني :
ـ فلانة جاءت من منطقة كذا وهي بعيدة جدا ... أقاطعها :
ـ يا أمي هذا كذب وأنا لن أكذب على أحد .
تصر أمي :
ـ يا ابني ماذا سيضرك لو فرحتها وقلت لها : إنها ستتزوج ؟!
ـ خلاص قولي لها : إنها ستتزوج وتخلف أولاد وبنات ، وستذهب للحج والعمرة ، وسيكون لها رزق من المواشي ووو أكذبي عليها أنتي .
وأضيف :
ـ يعني أنتي تستلمي السمن والدجاج والبيض وأنا أكذب ؟!
تضحك أمي وتؤكد :
ـ هي تريد أن تسمع الكلام منك أنت .
ـ أدخليها وسأخبرها .
بعدها اضطررت لنشر شائعة جديدة بأنني إذا قرأت الكف لأحد وأخبرته بالسر وما سيحدث له في المستقبل أمرض بشدة .
وهكذا احتفظت بصفة الولي لكن مع إيقاف التنفيذ .!
ما أسهل خداع الناس في قريتنا .!

****

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى