مجدي جعفر - قراءة في قصة ( زرقاء اليمامة ) للكاتبة التونسية نجوى العريبي بقلم / مجدي جعفر

يقول الكاتب أنطون تيشكوف القصة الجيدة هي القصة المنزوعة المقدمة، والكاتبة نجوى العريبي تدخل في الحدث مباشرة، فغالية بطلة النص (كستها "فينوس" سربال جمال معش للأبصار. وكساها أبوها ثوب الزّفاف تخلّصا، وهي بعد تطارد فراشات الرّبيع، وتحلم بفستان العيد وحذاء لمّاع، أبيض.. )، والكاتبة أرادت أن تشير من البداية إلى خطورة زواج القاصرات، وسعي الآباء إلى التخلص من بناتهن الصغيرات بالزواج، بسبب الفقر، وهذه الظاهرة للأسف تنتشر في مجتمعاتنا الفقيرة.

وهذه الغالية التي زوجوها صغيرة، يموت عنها زوجها ويترك لها أربعة من الذكور، ولم يترك لهم ما يقيم الأود، فتقاسي وتعاني الأمرين في تدبير نفقات المعيشة لهم، عاشت سبع سنوات عجاف، ولم تسلم خلالها من غمزات ولمزات أهل القرية، والقيل والقال، فقد نضجت كأنثى، واستوت :

(. فهي غضّة، شهيّة، فوّارة، مثيرة للأطماع والغيرة.. )، وهذا مادفع جارتها ( أمينة ) بأن تنصحها بالزواج، وأشارت عليها بشيخ هرم وثري، يصونها ويصون أولادها :

(لم يمض يومان إلّا وغالية عروس في بيت الحاجّ، بشرتها القطنيّة، كثبانها النّاهدة، مروجها الخضراء، ريقها الزّلال تحيي عظام الشّيخ وهي رميم.. يبتلع قرصا أزرق، قرص السّعادة.. تقهقه غالية بغنج، تطوّقه بذراعيها الحليبيين، يغيب.. ثمّ لا ينبس الحاج بشفة.. )

تلطم ( غالية ) خدها وتبكي، فتخشى أن يلقبها أهل قريتها بالأرملة السوداء، فتهدأ ( أمينة ) من روعها :

(_ لاتبكي عزيزتي! مات وهو سعيد. له حوريات الفردوس، ولك جنّة ماله، رزقك ورزق عيالك..لا تجزعي! لنا حديث بعد أربع.. ).

وبعد انقضاء أشهر العدة، تأتي لها ( أمينة ) بشيخ آخر وأكثر ثراء من الشيخ المرحوم ، خلعت ثوب الحداد، واستبدلته بثوب الزفاف، وعلت الزغاريد، (والشيخ الجديد شبق بقلب عجوزفتيّ، وغالية فرس جامحة، قويّة. ) هل يمكن للشيخ العجوز أن يروضها؟.

(يكفهرّ وجه الشّيخ.. تقهقه غالية في دلال، تمدّه بالوصفة السّحرية، حبّة السّعادة، تخلطها له بِريقها القراح، يعرك بياض بشرتها ويلتهم لحمها الطّازج ..تضاعف له كميّة حبّة السّعادة، تك.. ت.. ك.. ت... ك..... ك..... طق، طق...... لا ينبس ببنت شفة.. )

هل تظل غالية تنتقل من شيخ ثري إلى شيخ آخرأكثر ثراء إلى ما لانهاية، فدائرة أحلام غالية أخذت تتسع وتتسع، حتى لو أهداها كل شيخ دخل بها ( جلد الثور)، وأسكنها ( قصر عليسة )!.

فأزمة غالية الحقيقية تكمن في طفولتها التي اختطفوها منها وزوجوها رغما عنها وهي لم تزل طفلة تطارد فراشات الربيع وتحلم بفستان العيد والحذاء الأبيض اللمّاع، وفي الفقر الذي كان السبب الرئيس لتخلص والدها منها، وفي السنوات البائسة التي قضتها في كنف زوجها الفقير، وفي السنوات السبع العجاف التي عانتها بعد موته، ومشقتها في تدبير مصاريف أولادها، وهل الفقر هو الآخر الذي اختطف ابنها البكر فوقع بسببه فريسة سهلة ( للذيب )، فاطلق اللحية وهجر الدراسة!، وهذه ربما تكون إشارة ذكية من الكاتبة إلى استقطاب الجماعات الدينية المتطرفة لهؤلاء الفقراء، فالبيئات الفقيرة هي البيئات الخصبة لهم، وهذا الابن البكر قد تخلى عن وعده لها بجلد الثور وقصر عليسة ولم يف به، واتجه نحو الشمال وعبر البحار، فهل كان من مبررات زواجها من الشيوخ الأثرياء هو تأمين حياة باقي أولادها الصغار حتى لا يلقوا نفس مصير الأخ الأكبر؟.

تومض القصة برموز جانبية كثيرة، وكلها تشع بدلالات تأخذ أكثر من معنى، وهذا من سمة العمل الجيد، فربما يكون الدافع الرئيس لهجرة هذا الابن البكر ليس بسبب ديني وحسب بل ربما يكون هو الفقر أو ربما الاثنين معا، فالفقر وضيق الحال وندرة العمل وغياب العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الانسانية هو ما يدفع معظم شبابنا إلى الهجرة ( غير الشرعية غالبا ) معرضا نفسه لأخطار الموت في عرض البحر، بحثا عن الثراء أو حياة أفضل وأكثر إنسانية!.

...................................................

استرفاد بعض الشخصيات التاريخية والأسطورية :

أ – زرقاء اليمامة
: وهي شخصية إمرأة عربية معروفة، اشتهرت بحدة بصرها، وقيل بأنها كانت ترى الشعرة البيضاء في اللبن وترى الشخص من مسيرة ثلاثة أيام، وكانت تمثل أقوى جهاز استطلاع لقومها، وترى زحف الأعداء من بعيد، فتحذر قومها فيستعدون له، ويجهزون عليه، ولجأ عدو لهم إلى الحيلة ليضللوا الزرقاء، فاقتلعوا شجرا، وكل فارس يحمل شجرة يتستر بها، وعندما أخبرت قومها بأنها ترى أشجارا تتحرك، سخروا منها، وقالوا : كذبت أو كذبتك عينك، وانصرفوا عنها واستهانوا بقولها، وباغتهم العدو وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأخذوا الزرقاء وفقأوا عينيها، فماتت بعد أيام قليلة، وبعد موتها اقتلعوا عينيها فوجدوا أن عينيها مليئة بالأثمد أي الكحل.

ب – جلد الثور وقصر عليسة :

ذكرها الشاعر فيرجيل في الإلياذة، وعليسة أو أليسا هي التي أسست مدينة قرطاج، واعتلت عرشها، وهي الأميرة ابنة الملك صور وأخت بجماليون، وغادرت موطنها الأصلي في لبنان، فبجماليون شقيقها قتل زوجها، واستولى على الحكم، فحزمت أمتعتها، وبرحت لبنان وأبحرت بسفنها في البحر المتوسط مع محبيها ومريديها، ووصلت إلى حدود شواطئ أفريقيا ( تونس حاليا ) وحطت بسفنها، وطلبت من حاكم البلاد البربري أن يمنحها قطعة من الأرض لتبني عليها مدينتها، فرفض، ولم يعطها غير مساحة صغيرة تعادل مساحة جلد الثور، فقبلت بهذه المساحة وارتضت بها وسط دهشة محبيها ومريديها، وكانت ذكية وواسعة الحيلة، فأمرت حاشيتها بأن يقصوا جلد الثور شرائط رقيقة ودقيقة وطويلة، ووصلتها، وحوطت بها على هضبة كبيرة، أقامت عليها مدينة قرطاج، وهي من أعرق وأعظم المدن التاريخية، وكانت آية من آيات العمران، وأقامت حضارة عظيمة، واعتمدت على الملاحة والتجارة بين الشرق والغرب، واستطاعت أن تفرض سطوتها ونفوذها على البحر المتوسط كله، وصارت سيدته بلا منازع، وعرض عليها الملك البربري الزواج، ولكنها كانت قد أخذت عهدا على نفسها ألا تتزوج بعد مقتل زوجها وتعيش العمر كله على ذكراه وفاء له، وعرض الملك البربري الزواج بها، أربكها، ووضعها في حيرة، فإذا رفضت الزواج منه، غار على المدينة وأجهز عليها، وإذا قبلت الزواج منه، فتكون قد غدرت بالعهد الذي قطعته على نفسها، وهو أن تظل وفية لزوجها الذي قتلها شقيقها، وتعيش عمرها كله على ذكراه، فأعدت لنفسها محرقة عظيمة، وبذلك تكون قد استطاعت أن تحافظ على المدينة وعلى عهدها لزوجها.

...............................................

أثرت الكاتبة قصتها باسترفادها شخصيتي ( زرقاء اليمامة ) و ( عليسة )، والقارئ سيستعيدهما برمزيتهما وهو يقرأ القصة، ودلالة وجودهما بالنص.

ونص ( نجوى العريبي ) يُقرأ على أكثر من مستوى، ولا يهب نفسه للمتلقي من القراءة الأولى، ولن يقف القارئ عند حدود دلالات الأحداث بألفاظها المباشرة، ولكنه سيحاول أن يصل إلى ما يستتر خلف الأحداث وخلف اللغة برمزيتها الشفيفة وغير المستغلقة، فالكاتبة تنهي قصتها :

" الأرملة السّوداء"، تطارد الرّبيع وفراشاته، تحلم بفستان العيد والحذاء..

" فينوس" محتضرة:

- ما للرّبيع تصحّر! هجرته فراشاته؟ ولفستان العيد تمزّق! وللحذاء الأبيض اسودّ كالدّجى!؟.

غالية التي انتقلت من شيخ كهل ثري إلى شيخ كهل آخر أكثر ثراء، وربما صارت أكثر ثراء من الأميرة عليسة، وربما عاشت في قصر أبهى من قصرها، ولكنها ظلت تعاني وهي في مرحلة الاحتضار من حرمانها من طفولتها، وأصداء الفقر ظلت تطاردها رغم الثراء الفاحش.

فالكاتبة تنبه إلى :

1 – خطورة الزواج المبكر ( زواج القاصرات ).

2 – الآثار المقيتة والمميتة للفقر.

3 – وئد الطفولة لدي الأطفال، وحرمانهم منها.

4 – جمال المرآة واستثماره، فلولا جمال غالية الصارخ لما تزوج بها الأثرياء، رغم فقرها المدقع، وأرملة، ولديها أولاد، فجمالها انتقل بها من طبقة الفقراء المعدمين إلى طبقة الأثرياء المترفين.

5 – دور المال في يد الأثرياء، وقدرة هذا المال على إثارة لعاب الفقراء، والسيطرة عليهم من خلاله، فالعجوز المتصابي يتزوج بالشابة الجميلة، العفية.

الفن اختيار من الواقع، ويكفي الكاتب الكشف عن مواطن الخلل في واقعنا المعاش، وعلى من بيده الأمر معالجة هذا الخلل، وقد أدانت الكاتبة من خلال قصتها الساسة وكل مسئول، فهم الذين أوصلوا المجتمع إلى حافة هذا الضياع.

زرقاء اليمامة ليست بصر بقدر ما هي بصيرة، فهل أخذت منها غالية البصيرة؟ وهل أخذت من عليسة الذكاء وحُسن التدبير؟

غالية كل رأس مالها جمالها الجسدي الصارخ، وأوصلتنا الكاتبة في النهاية إلى اكتشاف أن الجمال الجسدي مع تقدم العمر يذبل، وخطأ أي فتاة هو الاعتماد على جمالها الجسدي فقط، وقادتنا الكاتبة أيضا إلى اكتشاف عدم تقدير كبار السن من الرجال لهذا السن المتقدم، ومحاولة تصابيهم والاستعانة بالحبوب الزرقاء وغيرها، لتعيد إليهم قدرة الشباب، ونسوا أن الزمن لا يعود بالإنسان إلى الوراء، وهذا التقدير الخاطئ أودى بحياة كل عجوز متصابي تزوج بالغالية الشابة الجميلة العفية.

هل كشفت القصة عن كل أسرارها؟

أعتقد أن القصة لا تبوح بكل أسرارها من القراءة الأولى، ولكنها مع كل قراءة تبوح بسر، وتكشف عن طرف خفي من أسرارها، فالقصة تحتاج إلى قراءات وقراءات، وأرجو أن أكون في هذه العجالة قد نثرت بعض قطرات الضوء حولها، وشكرا للكاتبة التي أتاحت لي متعة قراءة هذه القصة البديعة والماتعة والمائزة، والله الموفق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى