د. أحمد الزعبي - بركة السباحة.. قصة قصيرة

وفي تلك اللحظة أقسمت – كنت منفعلاً – أن سيكون لدي في يوم ما بركة سباحة مثلها، واسعة جميلة، تسرّ الناظرين. حافظت على وعدي والتزمت بقسمي ورحت أوجه كل اهتماماتي وتفكيري وعملي نحو تحقيق هذا الهدف.

كنت في العشرين من عمري حين صدني الرجل عن بركته الذهبية ومنعني من السباحة فيها. لم يفصح عن السبب مع أن بقية أفراد الوفد المرافق قد سمح لهم بالسباحة. على أية حال عرفت السبب بعد قرابة عشرين عاما. المهم أني بدأت الكفاح والتوفير لبناء البركة دون أن تفتر عزيمتي أو أتراجع عن إصراري في هذه المسألة.

مرت سنوات عديدة ألغيت خلالها كل ما هو غير ضروري سواء كان في المسائل الفكرية أو المادية، ورحت استغني عن أمور كثيرة كالسفر والمصاريف وشراء الكتب ومتع أخرى تكلف نقوداً في سبيل توفير تكاليف بركة السباحة.

ولما كانت عملية توفير المبلغ المطلوب تسير ببطء بسبب بعض المصروفات الضرورية قررت إلا افتح على نفسي أبوابا أخرى تبذر ما وفرته وتطيل الوقت كثيرا قبل بناء بركتي. فمن الأبواب التي أغلقتها مثلا، باب الزواج وباب التعليم العالي وباب التصدق على الفقراء والمساكين وباب تعدد الأصدقاء وباب الكسوة السنوية وأبواب أخرى لم أعد أذكرها الآن.

وبعد عشرين سنة اقتربت من هدفي وبدأت أشعر بالفرح رغم بعض التجاعيد التي غزت وجهي ورقبتي والشحوب الذي بدأ يخيفني قليلا ورغم ابتعادي عن مرحلة الشباب والحيوية وحب المرح. ولكن الذي أعاق تنفيذ خطتي هو أن تكاليف البركة الآن أصبحت عشرة اضعاف ما كانت عليه أيام أقسمت أن أبنيها ولهذا كنت مضطراً أن اختصر ما يمكن من المصاريف إلى الحد الذي كان يصل أحيانا إلى أن أوفر راتبي كاملا فيضاف إلى خزينة تكاليف البركة. وحتى إني في مرة تقاعست قليلا عن نقل والدتي المريضة إلى مستشفى أفضل من الذي عولجت فيه. كان إخلاصي لبركة المستقبل يفوق أي إخلاص وكنت استصغر كل أمر في سبيلها وأستهين بكل واجب من اجلها.

وهكذا أصبح الأمر ممكنًا... وكانت حساباتي في سن الستين مطمئنة وبدأت بتنفيذ مخطط البركة الذي كنت أرسمه منذ أكثر من أربعين سنة. فأحضرت العمال وحفروا الأرض، وكان مهندس يشرف على عمليات الحفر وشراء لوازم البناء والديكور والتلوين. وسارت عملية البناء كما هي مرسومة في ذهني حتى لون البركة الداخلي كان أزرق وعلى مداخلها الأربعة درج أحمر فيه بقع سوداء. وبدت البركة ساحرة جميلة أخاذة بعد أن ملئت بالماء الصافي ومن حولها أشجار خضراء كثيفة وأزهار مختلفة الألوان والروائع. وتمّ كل شيء ونظرت بفرح وانتصار إلى بركتي وتذكرت بركته القديمة التي لو دعاني الآن ألف مرة للسباحة فيها لرفضت. بركتي هذه عروس في ليلة فرحها... شاب أنيق مليء بالنشاط والإشراق والفرح... جمال ومتعة وحياة... جلست على كرسي فاخر أطيل النظر إلى البركة... شربت ثلاثة فناجين قهوة وجاءت اللحظة التي انتظرتها العمر كله.. وقفت بهدوء.. خلعت ملابسي... ارتديت مايوه السباحة المحبوس منذ سنوات ونزلت إلى الماء.

لامست المياه قدمي فلم أشعر بشيء... مضيت بهدوء ونشوة كمن يودع هموما وإلا ما أثقلت كاهله طويلاً طويلاً..ها أنت أخيرًا يا بركتي... ورحت أدندن بلحن قديم وأنا أمضي في عمق الماء... لامس الماء ركبتي.. فخضري... فصدري... ففمي... عندها كان علي أن أبدأ السباحة فارتفعت فوق الماء ودفعت بجسدي طافيا دافعا الماء بقدمي ومحتضنه بيدي وصدري فخارت قواي ونزلت تحت الماء قليلا فتراجعت من المنطقة التي تغمرني بالماء إلى المنطقة التي تغمرني حتى الصدر فقط وتوقفت قليلا. ما الذي حدث؟ فأنا أجيد السباحة تماما رغم انقطاعي عنها بضع سنوات. واخترعت تبريرات نفسية وجسدية لذلك وأعدت الكرّة بإصرار وتصميم ولكني لا أقوى على السباحة وكدت أغرق... فتراجعت ووقفت في وسط الماء صامتاً مذعورا. ستون عاماً؟؟ صحيح، هذه سن متقدمة... ليست الشيخوخة بمعنى دقيق ولكنها قد تكون كذلك لرجل لم يعش حياته أبدا مثلي... هل أصبحت طاعنا في السن... أما أجيد السباحة ولكني الآن لا أقوى عليها فهي بحاجة إلى قوة أكثر إلى نفس أقوى إلى جسم لم أقتله أنا والأيام. تراجعت من الماء ببطء وهدوء.. تراجعت وتراجعت حتى اصطدمت بحافة البركة فوجدت الدرج الأحمر ذا البقع السوداء... صعدت بفتور وبطء وانكسار واتجهت إلى الكرسي الصامت في مكانه ورحت أشرب ما تبقى في فناجين القهوة وأنا أنظر بصمت وذهول إلى تلك البركة... ثم بدأت أضحك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى