رفيقي العزيز
توفيق كناعنة الشيوعي المُخضرم
المُقيم ما يزال في بلدة "عرابة" في فلسطين
بعد التحية والسلام
آمل من كلّ قلبي أن تصلكم كلماتي هذه وأنتم في تمام الصّحة والعافية والعمر المديد إن شاء الله
أسعدني كثيراً وفرحتُ به -وأقولها صادقاً- تقريظكم في جريدة الاتحاد لمقالي المنشور في ملحق الجمعة بتاريخ 2/9/2022 تحت عنوان:" في رحيل ميخائيل غورباتشوف" وجاء هذا التقريظ في مقال نُشر في ملحق جريدة الاتحاد في 9/9/2022 تحت عنوان:" إن الذي يشوه التاريخ يشوه نفسه".
معاذ الله يا رفيقي أن أكون من هذه الفئة التي تشوّه التاريخ الشفوي أو المكتوب، وقد عشت عمري كله لا أخضع للسائد كما كان الباحث والمفكر العراقي هادي العلوي البغدادي -رحمه الله- إذ لا يخطر على بالي، ولا يمكن أن أتصور أن هناك من يظن أنني أُعاني من نقص في عقلي أو ثقافتي لمجرد أنني أنتمي إلى "فكر الشيوعية" وهل للشيوعية فكر؟ ما علينا، المهم، ورغم ذلك، فأنا أعرف غنى ثقافتي وتاريخي وتراثي. وهذا الاحساس بالامتلاء، والوقوف على أرض ثقافية صلبة، أنا مدين به لتراث فكريّ حضاريّ إنسانيّ عميق وعريق.
أكتب لكم هذه الكلمات من المرتفعات الجبليّة في مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجة والمطلّة على جيراننا الاغريق في اليونان الحديثة، وأنا في الأصل من مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية، بلدة أديبنا الكبير حسيب كيالي، رُميتُ بالغربة من ست سنوات مع أسرتي عن بلادي كأني أذنبتُ في حالة القرب، فأدَّبتي بهجرها وبعدها. أستغفر الله هي مسقط رأسي، ومجمع أهلي وناسي، وملعب أخواني وخلاني. والشاعر يقول: شكوت وما الشكوى لمثلي عادة/ ولكن تفيض العين عند امتلائها. وعلمي أن محاسن الأوطان كثيرة لا تُستقصى، وأوصاف صفاته تتضاعف أعدادها ولا تُحصى.
وها أنا من بعيد أُطلُّ عليك يا وطني. وأحن إليك. أي والله. وكيف أُخفي ذلك، وقد سبقنا الأوائل في القول: حبُّ الأوطان من الإيمان. وأقول مع الشاعر: وما عن رضى كانت سُليمى بديلةً/بليلى، ولكن للضرورات أحكام. وأبو الطيب يُنشد: لا خَيْلَ عندكَ تُهديها ولا مالُ/ فليُسْعِدِ النطقُ إن لم بُسعِدِ الحالُ. وكُلنا يعلم بأن آراء الناس تختلف من زمن لآخر، وهذا من حقهم، ولكنهم يحتاجون إلى التعاون من أجل نهضة الأوطان، وأساس التعاون والعيش المشترك هو التفاهم الذي يزيل الخلاف بين الأطراف ذات العلاقة في عالم متنوع. وكُلنا يعلم أيضاً بأن الوطنية هي هذا الشعور العميق الذي يحدو صاحبه إلى مؤاخاة جميع الناس لأنهم يشاركونه في مُثُلٍ عليا يُقدسها وهي تستلزم حقوقاً وواجبات.
كان والدي راشد دحنون-رحمه الله- من عمر ميخائيل غورباتشوف -رحمه الله- أم علينا أن نلعن روحه، وقد كان والدي في ستينات وسبعينات القرن العشرين من رفاق خالد بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي السوري. وقد ترك العمل الحزبي وبقي من أنصار بكداش وستالين ودافع عنهما حتى آخر يوم من حياته. هل كنتُ على خلاف فكريّ مع والدي ومن ثمّ رفضتُ العيش في معطف أبي الذي كان يرتديه من أيام الرفيق ستالين؟ نعم، بكل تأكيد، لأن أبي عاش في زمن آخر، زمن الانتصارات الكبرى للفكر الشيوعي، وأنا عشتُ وأعيش الانكسارات الكبرى لهذا الفكر في هذا الزمن الأغبر. أحاول يا رفيقي من أكثر من أربعين عاماً من عملي في الحزب الشيوعي أن أفهم كيف يكون الإنسان شيوعياً جيداً، لم أُفلح في ذلك، ولم أصل حتى اليوم إلى نتيجة مرضية. ما السرّ يا ترى؟ الشيوعيّة كفكرة متاحة للجميع، مشاع، يمكن فهمها نظريّاً من الكتب، اقرأ "البيان الشيوعيّ" وستفهم. ولكن عندما "زُرعتْ" في أرض "الواقع" كانت نتيجة الحصاد خليطة غريبة عجيبة فيها القمح والشعير والزيوان والتبن والحصى والتراب والعدس والجلبان. غربل إن كنت تستطيع الغربلة، وفي المثل: "من غربل الناس نخلوه". وأزعم بأنني ما زلتُ أحاول أن أكون شيوعياً جيداً، فهل فعلتُ؟ لا أظن ذلك، مع ذلك لم أيأس وأحاول أن أكون.
رفيقي العزيز توفيق كناعنة أنا وأبي اختلفنا اختلافاً واسعاً حول الأسباب التي أدت إلى انهيار تجربة "منظومة الدول الاشتراكية" وما آلت إليه الأحزاب الشيوعية وقادتها في الوطن العربي والعالم من ضعف وتشرذم. على كل حال، أستعير هنا قول الفيلسوف الاغريقي سقراط: لا تُكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم. وهناك من ينسب هذه المقولة إلى أفلاطون، وتنسب مثل هذه المقولة إلى الإمام علي بن أبي طالب وهي: لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم، لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم.
غير أن كثيرين من أولي الأمر، ومن عامّة الناس أيضا، في التاريخ الإنساني، في الماضي والحاضر، وأظن سيستمر الأمر كذلك في المستقبل، يتصرّفون على الضدّ من هذا الوعيّ بالمتغيرات في الأجيال والمراحل، ويحاولون فرض ما عرفوه وما نشأوا عليه، على الآخرين وعلى الحياة، ويجدون في الاعتراض على قناعاتهم، قولًا أو فعلًا، تجاوزًا على ما يعدّونه من الثوابت والمقدّسات، فيمارسون على المعترض القمع والاضطهاد والتخوين، بل التكفير أيضاً، بغطاء الأعراف والأخلاق والقانون والدين، ويوظفون "الأيدولوجيا" لمنح مقولاتهم وتصرفاتهم صفات القداسة والحق والحقيقة.
يؤكد معلمي هادي العلوي بأن: "العقيدة -الأيدولوجيا- هي الرقيب الداخلي الذي لا يقل سوءًا عن الرقيب الرسمي. والعقيدة هي المسؤولة عن تكوين الوجدان القمعي للأفراد ومصادرة حريّة الضمير والوجدان. وهي وإن كانت مفيدة لتحريك الجمهور في منعطف تاريخيّ معين، يجب أن تبقى في منأى عن النضال اليوميّ لئلا تكون كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي حجابًا يمنع من النظر إلى حقائق الأشياء".
وتقبلوا مني فائق الاحترام والتقدير
مدينة إزمير
نوثيق:
مع توفيق كنانعة:
مقال:
في رحيل ميخائيل غورباتشوف في جريدة الاتحاد الحيفاوية
عبد الرزاق دحنون
مقال:
إن الذي يشوه التاريخ يشوه نفسه
توفيق كناعنة
توفيق كناعنة الشيوعي المُخضرم
المُقيم ما يزال في بلدة "عرابة" في فلسطين
بعد التحية والسلام
آمل من كلّ قلبي أن تصلكم كلماتي هذه وأنتم في تمام الصّحة والعافية والعمر المديد إن شاء الله
أسعدني كثيراً وفرحتُ به -وأقولها صادقاً- تقريظكم في جريدة الاتحاد لمقالي المنشور في ملحق الجمعة بتاريخ 2/9/2022 تحت عنوان:" في رحيل ميخائيل غورباتشوف" وجاء هذا التقريظ في مقال نُشر في ملحق جريدة الاتحاد في 9/9/2022 تحت عنوان:" إن الذي يشوه التاريخ يشوه نفسه".
معاذ الله يا رفيقي أن أكون من هذه الفئة التي تشوّه التاريخ الشفوي أو المكتوب، وقد عشت عمري كله لا أخضع للسائد كما كان الباحث والمفكر العراقي هادي العلوي البغدادي -رحمه الله- إذ لا يخطر على بالي، ولا يمكن أن أتصور أن هناك من يظن أنني أُعاني من نقص في عقلي أو ثقافتي لمجرد أنني أنتمي إلى "فكر الشيوعية" وهل للشيوعية فكر؟ ما علينا، المهم، ورغم ذلك، فأنا أعرف غنى ثقافتي وتاريخي وتراثي. وهذا الاحساس بالامتلاء، والوقوف على أرض ثقافية صلبة، أنا مدين به لتراث فكريّ حضاريّ إنسانيّ عميق وعريق.
أكتب لكم هذه الكلمات من المرتفعات الجبليّة في مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجة والمطلّة على جيراننا الاغريق في اليونان الحديثة، وأنا في الأصل من مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية، بلدة أديبنا الكبير حسيب كيالي، رُميتُ بالغربة من ست سنوات مع أسرتي عن بلادي كأني أذنبتُ في حالة القرب، فأدَّبتي بهجرها وبعدها. أستغفر الله هي مسقط رأسي، ومجمع أهلي وناسي، وملعب أخواني وخلاني. والشاعر يقول: شكوت وما الشكوى لمثلي عادة/ ولكن تفيض العين عند امتلائها. وعلمي أن محاسن الأوطان كثيرة لا تُستقصى، وأوصاف صفاته تتضاعف أعدادها ولا تُحصى.
وها أنا من بعيد أُطلُّ عليك يا وطني. وأحن إليك. أي والله. وكيف أُخفي ذلك، وقد سبقنا الأوائل في القول: حبُّ الأوطان من الإيمان. وأقول مع الشاعر: وما عن رضى كانت سُليمى بديلةً/بليلى، ولكن للضرورات أحكام. وأبو الطيب يُنشد: لا خَيْلَ عندكَ تُهديها ولا مالُ/ فليُسْعِدِ النطقُ إن لم بُسعِدِ الحالُ. وكُلنا يعلم بأن آراء الناس تختلف من زمن لآخر، وهذا من حقهم، ولكنهم يحتاجون إلى التعاون من أجل نهضة الأوطان، وأساس التعاون والعيش المشترك هو التفاهم الذي يزيل الخلاف بين الأطراف ذات العلاقة في عالم متنوع. وكُلنا يعلم أيضاً بأن الوطنية هي هذا الشعور العميق الذي يحدو صاحبه إلى مؤاخاة جميع الناس لأنهم يشاركونه في مُثُلٍ عليا يُقدسها وهي تستلزم حقوقاً وواجبات.
كان والدي راشد دحنون-رحمه الله- من عمر ميخائيل غورباتشوف -رحمه الله- أم علينا أن نلعن روحه، وقد كان والدي في ستينات وسبعينات القرن العشرين من رفاق خالد بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي السوري. وقد ترك العمل الحزبي وبقي من أنصار بكداش وستالين ودافع عنهما حتى آخر يوم من حياته. هل كنتُ على خلاف فكريّ مع والدي ومن ثمّ رفضتُ العيش في معطف أبي الذي كان يرتديه من أيام الرفيق ستالين؟ نعم، بكل تأكيد، لأن أبي عاش في زمن آخر، زمن الانتصارات الكبرى للفكر الشيوعي، وأنا عشتُ وأعيش الانكسارات الكبرى لهذا الفكر في هذا الزمن الأغبر. أحاول يا رفيقي من أكثر من أربعين عاماً من عملي في الحزب الشيوعي أن أفهم كيف يكون الإنسان شيوعياً جيداً، لم أُفلح في ذلك، ولم أصل حتى اليوم إلى نتيجة مرضية. ما السرّ يا ترى؟ الشيوعيّة كفكرة متاحة للجميع، مشاع، يمكن فهمها نظريّاً من الكتب، اقرأ "البيان الشيوعيّ" وستفهم. ولكن عندما "زُرعتْ" في أرض "الواقع" كانت نتيجة الحصاد خليطة غريبة عجيبة فيها القمح والشعير والزيوان والتبن والحصى والتراب والعدس والجلبان. غربل إن كنت تستطيع الغربلة، وفي المثل: "من غربل الناس نخلوه". وأزعم بأنني ما زلتُ أحاول أن أكون شيوعياً جيداً، فهل فعلتُ؟ لا أظن ذلك، مع ذلك لم أيأس وأحاول أن أكون.
رفيقي العزيز توفيق كناعنة أنا وأبي اختلفنا اختلافاً واسعاً حول الأسباب التي أدت إلى انهيار تجربة "منظومة الدول الاشتراكية" وما آلت إليه الأحزاب الشيوعية وقادتها في الوطن العربي والعالم من ضعف وتشرذم. على كل حال، أستعير هنا قول الفيلسوف الاغريقي سقراط: لا تُكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم. وهناك من ينسب هذه المقولة إلى أفلاطون، وتنسب مثل هذه المقولة إلى الإمام علي بن أبي طالب وهي: لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم، لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم.
غير أن كثيرين من أولي الأمر، ومن عامّة الناس أيضا، في التاريخ الإنساني، في الماضي والحاضر، وأظن سيستمر الأمر كذلك في المستقبل، يتصرّفون على الضدّ من هذا الوعيّ بالمتغيرات في الأجيال والمراحل، ويحاولون فرض ما عرفوه وما نشأوا عليه، على الآخرين وعلى الحياة، ويجدون في الاعتراض على قناعاتهم، قولًا أو فعلًا، تجاوزًا على ما يعدّونه من الثوابت والمقدّسات، فيمارسون على المعترض القمع والاضطهاد والتخوين، بل التكفير أيضاً، بغطاء الأعراف والأخلاق والقانون والدين، ويوظفون "الأيدولوجيا" لمنح مقولاتهم وتصرفاتهم صفات القداسة والحق والحقيقة.
يؤكد معلمي هادي العلوي بأن: "العقيدة -الأيدولوجيا- هي الرقيب الداخلي الذي لا يقل سوءًا عن الرقيب الرسمي. والعقيدة هي المسؤولة عن تكوين الوجدان القمعي للأفراد ومصادرة حريّة الضمير والوجدان. وهي وإن كانت مفيدة لتحريك الجمهور في منعطف تاريخيّ معين، يجب أن تبقى في منأى عن النضال اليوميّ لئلا تكون كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي حجابًا يمنع من النظر إلى حقائق الأشياء".
وتقبلوا مني فائق الاحترام والتقدير
مدينة إزمير
نوثيق:
مع توفيق كنانعة:
مقال:
في رحيل ميخائيل غورباتشوف في جريدة الاتحاد الحيفاوية
عبد الرزاق دحنون
في رحيل ميخائيل غورباتشوف| عبد الرزاق دحنون
"قد أختلف معك في الرأي، ولكني على استعداد لأدافع حتى الموت عن حقك في التعبير عن رأيك&quo
www.alittihad44.com
مقال:
إن الذي يشوه التاريخ يشوه نفسه
توفيق كناعنة
إن الذي يشوه التاريخ يشوه نفسه| توفيق كناعنة
قرأت يوم الجمعة في تاريخ 2022/9/6 مقالا في جريدة الاتحاد للكاتب عبد الرازق دحنون تحت عنوان &q
www.alittihad44.com