د. أماني فؤاد - نصف ظلها الذي على الحائط.. قصة

راقتْ لي قطعة لحم في مبرد العرض الزجاجي، تأملتُها؛ فشعرتُ أن شيئا فيها يناديني، تخيَّلتُها مطهوة في طبق، وفوقها بعض الفِطْر الطازج، فرغبتُ في الحصول عليها، استفسرت من البائع عن سر ارتفاع سعرها مقارنة بباقي القطع، أخبرني أنها شديدة الندرة؛ لتمتُّعِها بمواصفات خاصة، ولذا تتضاعف قيمتها مرات عن المعروض. قال إنها قطعة منتقاة تأتيهم من المزارع الخاصة، حيث الرفاهية في حدودها القصوى، يطعمونها أعشابًا طبيعية “أورجَنِك”، ويُسمعونها الموسيقى، تعيش وتنام وهي محمولة؛ لئلا تشعر عضلاتها بالإرهاق، إضافة إلى جلسات المساج المُعدَّة خصيصا؛ لجعْل الأنسجة أكثر انسيابية، ولذا تتمتع بطراوة المذاق ونعومته.
ضحك البائع بسخرية، وتمنَّى لو أنه خُلق بقرة! ربما وَجَد مَن يُدَلِّلُه مثلها، أو ربما كانوا سيعبدونه، أكَّدَ وسمات الدهشة على وجْهِه: إنه سمعها ذات مرة تتكلم، ولم يستبعد أنها ربما تفكر، في تعجُّب أكمل: “شعرتُ أحيانًا أنها تنظر نحوي باستعلاء”.

ضحكتُ، ومنّيتُ نفسي بالتلذذ بتميُّزها هذا، حصلتُ منها على قطعة كبيرة، لم أفكر كم سأدفع من أجلها.

عُدْتُ بها إلى البيت تنتابني سعادة غامرة، مثل كل مرة أستحوذ فيها على الأشياء الثمينة، المميَّزة.

قطَّعتُ شريحة كبيرة منها، وبدأتُ في إعدادها، كان البائع قد أعطاني المنشور المرفَق بها من بلد المنشأ؛ للالتزام بطريقة إعدادها، وكعادتي لم أجهد نفْسي في النظر أو القراءة، سأطهوها كما اعتدتُ.

مرارا قالت حبيبتي – التي تركتُها منذ سنوات – إنني لم أكن أسمعها، كما كنت لا أقرأها، كانت تطلب كثيرا أن أعاود قراءة الجُمل التي تكتبها، لم أكن أستوعب إلا ما استقر بذهني فقط.

بمجرد أن وضعتُها على النار، وفوقها قطعة من الزبد، وبعض من زيت الزيتون، وأعشاب الروز ماري، وجدتها تتململ، أضفتُ قليلًا من الملح والفلفل، وأشعلتُ النار على الدرجة القصوى، في لحظة وقفتْ الشريحة أمامي تعلن رفْضها لتلك المعاملة الوحشية، على حد قولها؛ صرختْ في وجهي: لا أحتمل كل تلك النيران.

قالت حبيبتي – التي وصفتُها بالمقززة – قبل أن أبعدها تماما: إن نيراني حارقة؛ تترك كل ما تطاله رمادًا، وأردفتْ أيضا: ثمة كائنات أقل قسوة مِنِّي في هذا العالَم.

لم أكترث لاعتراض قطعة اللحم المرفَّهة تلك، واستكملت طهيها جيدا، رفعتُها من على النيران، ثم تركتُها في الطبق؛ لأحضِّر بعض الخضراوات؛ فسمعتُ صوت ارتطام شديد، نظرتُ خلفي؛ فوجدتُ الطاولة قد انهارت، تكسَّرَتْ أرجُلُها، وقطعة اللحم قد اختفتْ، والطبق محطَّمًا، تتناثر قطعه بلا عدد، شعرتُ بشيء يزحف على قدمَيَّ، رأيتُ نصف ظِلِّها على الحائط الذي أمامي، بجوارها نصف ظِلِّ المرأة التي أحببتُ يوما ما، شعرتُ بأنياب تقطع بنطالي، وتنغرز بجلدي، أصرخ من المخالب التي تصعد نحو جسدي، آلات مسنونة ترتفع حتى تصل إلى صدري، فتندفع الدماء من جسدي، رأيتُها استقرَّت فوق قلبي؛ لتنهشه وتفتته قطعا صغيرة.

انتصبتْ قامتها في قفزة مفاجئة؛ فبدت وكأنها تقف على قدمَين، اتجهتْ ناحية جرامافون أثريٍّ، وأدارتْ سيمفونية شهرزاد لــ”ريمسكي كورساكوف”، ثم مدَّتْ ذراعها لتأتي بنصف الظل، الذي فوق الحائط، وعلى أنغام الموسيقى انطلقا يتراقصان، صلبتْني فوق الجدار في حركة مفاجئة، ثم امتد منها ما يشبه اللسان، وعاد في أقل من لحظة بما تبقَّى منها من أحد أدراج الفريزر، جمعتْ أنسجتها، ونظرتْ لي في كبرياء، تقدمتُ نحو الباب وغادرتُ، تلفتُّ حولي؛ فلم أجد إلا حطامًا ونِصْفَ ظِلِّ حبيبتي المقزِّزة، الظل الذي هبط بي من فوق الجدار ثم تلاشى.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى