رسائل الأدباء رسالة من عبد الرحيم التوراني الى ادريس الخوري

بيروت، 4 مارس 2020،

صباح الخير بَّادْريسْ...

بلغني أنك تهدد الفيروس "الحقير" بالقضاء عليه سريعا إذا لم يستجب و"يخوي السّيكتور" le secteur.. فالعالم يحتاج لشرب "كاس نقي"... يؤكد الخلان...

أتساءل كيف تقضي يومك في الحجر الصحي، وقد خلقت كائنا محبا للفضاءات المليئة بالناس وبالحياة والضحك.. حتى وأنت تحكي للعالم قصصا من معين "حزن في الرأس وفي القلب"..

وأنت"بالفعل" يا بّادريس كائن فضائي جميل!

تشتاق الآن إلى فضاء "الشاربان" قبالة كلية الآداب.. إلى "ماكس" في حي "لوسيان".. إلى حانات شارعي علال بنعبد الله وباتريس لومومبا في العاصمة..

إلى "لابريس" و"مرس السلطان" و"الأطوميك" و"الزيادي" و"الكارتيي لاتان" Quartier latin في كازا..

إلى بارات ومقاهي القنيطرة وطنجة وفاس والعرائش ومكناس...

أعرف أن المرض لم يستطع أن يغلبك وينهيك عن الخروج إلى الأصدقاء، ولا أن يعزلك عن أماكنك المفضلة والمحببة... فما أن تحس بأنك قادرعلى الوقوف حتى تجد نفسك أمام باب الشقة، تنزل خفيفا إلا من محفظتك الجلدية الصغيرة على كتفك، ومن نواياك الجميلة و"تخطيطاتك الحديثة في هندسة الفقر"، على قول صديقنا العزيز الشاعر السي أحمد بنميمون..

تركب "الترامواي" لتنزل في محطة الكنيسة، أمام كاتدرائية القديس بطرس بساحة الجولان.. تنادي على تاكسي، تسأله بلطف زائد أن يأخذك إلى "هنريس بار"، كمحطة ترانزيت قبل الإقلاع إلى بلاد "الشاربان" (نادي الكرة الحديدية)، وبعد إقفال "هنريس بار" أصبحت تتوجه مباشرة إلى أدغال "الشاربان"، حيث الهواء الطلق والأشجار والطبيعة المساعدة على الحرية والانطلاق.. و"هاتوا الخوابي.. يا أولاد سيدي موسى.. إن رأسي يريد المعجون..".. كما وثقتها في أول كتاب لك، وقد اقتبستها من صاحبها، صديقنا الشاعر الزجال والممثل حميد الهواضري، وكان الشاعر المناضل عبد اللطيف اللعبي نشرها في الطبعة العربية من "أنفاس" في سنوات الجمر والرصاص..

لا أعرف لماذا لم تخرج يا بّادريس على القراء بحكاياتك وسيرتك عن تلك السنوات العصيبة، ألم تكن ثوريا ويساريا من دون بطاقة انتساب، ولم تعر كتفيك لحمل راية أي حزب أو جماعة أو تيار، بل بقيت أنت هو أنت.. المنحاز دائما إلى الفقراء و"الطّابِية" Tapis.

ربما انغمارك في الكأس والضحك، وجولاتك عبر خرائط الحانات هو من أفلتك من السجن وملاقاة المصير الأسوء، وقد كتبوا في تقاريرهم أنك رجل "نْشَايْطِي زَهْوَانٍي.. يُسرف في الكلام والقهقهات.. وفي شرب "الفيوباب" و"الكابيرني" (من أنواع النبيذ المغربي)...

أتذكر ما حكيته مرة لمحمد زفزاف ولأحمد الجوماري ولي في المعاريف، عن مشاركتك في فرقة موسيقية وأنت شاب صغير، كنت تعزف على "الدربوكة"، وغنيت عند عودة السلطان محمد الخامس من المنفى أغنية أنت مؤلفها، تقول كلماتها:

- "يا َرَبِّي حبِّيتيهْ فِ القمر بَيَّنْتِيهْ".. (يا ربي إنك أحببته وفي القمر أظهرته).

والله أحبَّك يا بَّادريس.. ويُحبُّك دائما.. وأنت الآن في "منفاك الصحي الطوعي".

ونحن أصدقاؤك أيضا نُحبُّك في الله...

أتمنى أن تكون بخير، فالفرج قريب...

سلامي ليوسف ومروان ولسعاد".

*

سلاما لروحك صديقي.

وختاما، ونحن نحيي اليوم الذكرى الثامنة لرحيل الشاعر اللبناني الكبير أنسي الحاج، أرى صاحب الـ"خواتم" ينشد على لسان إدريس الخوري:

"قولوا هذا موعدي وامنحوني الوقت.
سوف يكون للجميع وقت، فاصبروا.
اصبروا عليَّ لأجمعِ نثري.
زيارتُكم عاجلة وسَفَري طويل
نظرُكم خاطف وورقي مُبعْثَر
محبّتُكم صيف وحُبّيَ الأرض.
مَن أُخبر فيلدني ناسياً
إلى مَن أصرخ فيُعطيني المُحيط؟
صار جسدي كالخزف ونزلتُ أوديتي
صارت لغتي كالشمع وأشعلتُ لغتي...".




-------------------
إدريس الخوري (1939 - 14 فبراير 2022)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى