سعد عبد الرحمن - موت نظرية البنيوية

شأن كل المذاهب والنظريات الشمولية التي تزعم أنها تمتلك وحدها الحقيقية كاملة وتدعي أنها وحدها أيضًا القادرة على تفسير كل شيء - لابد أن يكون مصيرها الإخفاق ثم الموت.
ماتت البنيوية التي أعلنت موت الإنسان - بعد أن تحولت في الستينيات بقدرة قادر كما يقول جون ستروك إلى شعار اتخذه بعض الناس ووجدوه أمرًا ميسرًا فخلقوا منه "موضة" فكرية شاعت شيوعًا تجاوز حد المعقول.
لقد أخفقت البنيوية في تحقيق مزاعمها وكانت في الحقيقة مزاعم ضخمة وكبيرة ومن ثم كان حريًّا بها أن تموت لتخلي الساحة لمقولة أو فكرة جديدة تتجاوز ما تمكنت البنيوية من إنجازه وتعالج على قدر إمكاناتها ما خلفته من مسائل معلقة ومشكلات.
يقول جورج واطسن: تشترك البنيوية مع هذه العقائد السريعة في أنها في جوهرها تزعم امتلاكها المفتاح لكل مغاليق البشرية، فالكلمة لديها هي كلمة "كل" مثلًا عن الحضارة البشرية كلها أو الأدب كله وما إلى ذلك إلا أنها تمثل هذا الزعم في شكل أقل انضباطًا من مزاعم فرويد أو ماركس.(1)
وعن نفس مزاعم البنيوية يتحدث أ. ف. إيزويتوف قائلًا: البنيوية بالنسبة للأدب كانت دائمًا نظرية ولم تكن أداة عملية ومع ذلك فمزاعم البنيوية عظيمة جدًا، إذا كانت تدعي - في أوج ازدهارها أي في أواخر الخمسينيات وما تلاها مباشرة من سنوات - أنها تفسر جميع الحقائق البشرية أو على الأصح أنها على وشك أن تفسر كل شيء.(2)
ويقول د. عبد العزيز حمودة: "كانت البنيوية تطمح إلى تأسيس مذهب نقدي جديد يعتمد في شرعيته على منهج علمي تجريبي ولا غرابة في ذلك في تلك الفترة من القرن العشرين فقد كان العلم يمثل مكانًا بارزًا وكان منهجه فوق الشك .. لهذا تبنت المدرسة الجديدة النموذج اللغوي كمدخل وحيد للمقاربة البنيوية للنصوص الأدبية، وحينما تأكد قصور هذا النموذج عن تحقيق المعنى من ناحية وثبت أنه مع ذلك لا ينطبق على كل الأنواع الأدبية بنفس الكفاءة من الناحية ثانية، والبنيوي بسبب فشله في تقديم نموذج عام قليل للتطبيق على جميع النصوص.(3)
ويرى فاضل تامر أن البنيوية في محاولتها تعميم الأنموذج اللغوي واتخاذه معيارًا وأساسًا وأداة للتحليل إنما كانت تهدف إلى إيجاد مطلق متعالٍ جديد على مجمل المتعاليات السابقة المادية والمثالية على حد سواء وهي بهذا سقطت في فخ الميتافيزيقا وهي بهذا سقطت في فخ الميتافيزيقا ذاته على الرغم من محاولاتها الاقتراب من الأنموذج العلمي في الدقة والصرامة والموضوعية.(4)
ويقول بوشمين "فقد ادعى من يطلقون على أنفسهم اسم البنيويين قدرتهم على تحويل علم الأدب إلى علم مصيَّغ يخضع للطرائق الكمية ووعدونا بتأسيس علم أدب بنيوي واحد وشامل يقضي على علم الأدب التقليدي منطلقين في ذلك من المعنى الكلي الذي ينسبونه إلى الاتجاه البنيوي لكن هذا الاتجاه يعني في حقيقة الأمر تصفية علم الأدب بوصفه علمًا إنسانيًا، وقد قدم أنصار البنيوية حججًا قوية دفاعًا عن موقفهم فهم يحاربون الانطباعية واللاعقلانية والحديثة في علم الأدب، هم يكافحون من أجل تطهير قاموس علم الأدب من الثرثرة واللغو وهم يرون في المقاربة اللغوية البنيوية والسيبرنتيكية والعلامية للأدب وفي استخدام المبادئ الرياضية في ابحاث علم الادب وسيلتهم للتخلص من هذه الأمراض.
إنهم بإيجاز يعلنون أن علم الأدب البنيوي هو العلم الحديث الأصيل الذي سيضع حدًّا لأخطاء الماضي والذي سيضع التصور العلمي الوحيد لماهية الفن، إن هذا الهدف الذي يعلنه البنيويون هدف سامٍ لا يمكن إلا أن يثير عواطفنا لكن السؤال المطروح هو: هل تتناسب الوسائل التي يقترحونها مع الهدف المنشود؟ الجواب لا يمكن إلا أن يكون سلبيًّا إذا لم نلمس نتائج باهرة ومشجعة حتى الآن.(5)
وقد تعرضت البنيوية قبل موتها البنيوية لكثير من الهجمات الشرسة التي شنها عليها أعداؤها دون هوادة، ربما لأنها ظهرت في البداية بوصفها منهجًا علميًّا أو هكذا تبدو لكنها سرعان ما انزلقت إلى مجال الأيديولوجيا، وتفسر أديث كروزويل ظاهرة انزلاق البنيوية إلى مجال الأيديولوجيا بقولها الذي يحمل في تضاعيفه تبريرًا للأمر: "لا غرابة في أن ما توقعه البنيويون من اكتشاف نسق مغلق للمعرفة قد حول البنيوية نفسها إلى حركة تنطوي على أيديولوجيات وشعارات، ولا غرابة كذلك في أنه عندما عجزت الأبنية الخفية عن التكشف فإن المنهج البنيوي نفسه خضع لعمليات تغيير وتحسين مستمرة، وأفضى البحث المتصل إلى مبررات وحجج نظرية استندت استنادًا متزايدًا إلى عناصر جزئية ومعقدة من النظرية اللغوية وأخذت الفوارق بين المؤيدين والمعارضبن، والأصدقاء والأعداء تميع فتغدو واضحة وكانت المعتقدات البنيوية والمعتقدات المضادة لها بكل ما تتضمنه هذه وتلك من اعتقادات سياسية وفلسفية تتسرب على نحو متزايد في المناظرات المنهجية.(6)
ويرى الدكتور زكريا إبراهيم أن المنظور الفكري الذي انطوت عليه البنيوية قد جاء مؤكدًا للدعوى القائلة بأن في تضاعيف هذا الاتجاه الفلسفي الجديد إنكارًا لقدرة البشر على صنع تاريخهم الخاص ورفضًا لكل نزعة إنسانية، ويؤكد هذا أن النداء الخاص الذي اتحدت عنده كلمة البنيوية هو "إعلان موت الإنسان".(7)
يقول جان ماري بنوا في كتابه "ثورة البنيوية": كان الإنسان خالق المعنى ومصدره الحي ولكنه اختفى تمامًا في ظل العلم الجديد الذي جعل المعنى حصيلة من العلاقات اللغوية البنيوية والسيميوطيقية التي تفرز العلامات وتحدد المعاني، وفي ظل هذا التصور أصبح الإنسان إفرازا لغويًّا بدلًا من كونه صانعًا للغة.(
😎

ويقول تيري إيجلتون: في نفس اللحظة التي وضعت فيها البنيوية الموضوع بين أقواس فإنها وضعت الذات الإنسانية بين أقواس، وفي الحقيقة فإن هذه الحركة المزدوجة هي التي تحدد المشروع البنيوي، فالعمل لا يشير إلى موضوع وليس كذلك تعبيرًا عن ذات فردية فقد أغلق الباب أمامهما كليهما، وما يتبقى معلق في الهواء بينهما هو نسق من القواعد وهذا النسق له حياته المستقلة وأن يكون رهن إشارة المقاصد الفردية، والقول بأن لدى البنيوية مشكلة مع الذات الفردية هو طرح لطيف للأمر، فقد تمت تصفية تلك الذات فعليًّا.(9)
وإذا كانت البنيوية تجتذب بعض نقاد الأدب لأنها تعد بأن تأتي بالموضوعية والدقة إلى المجال الرهيف للأدب إلا أن لهذه الدقة ثمنها كما يقول رامان سلدن إذ عندما يضع البنيوي الكلام موضع "الإذعان إلى اللغة" فإنه يتجاهل في نفس الوقت الخصوصية العقلية للنصوص ويعامل هذه النصوص كما لو كانت نماذج من برادة الحديد أنتجتها قوة خفية ولا يقتصر الخطر على النص مع هذا الثمن، إذ ينتهي البنيوي إلى إلغاء المؤلف عندما يضع بين قوسين العمل الفني والشخص الذي أنتجه، في سياق عزل الموضوع الحق لبحثه وهو النسق .... ولذلك فإنه عندما يقوم البنيويون بعزل النسق للدراسة فإنهم يقومون بإلغاء التاريخ وهذا يعني أن منهجهم منهج ساكن غير تاريخي بالضرورة، منهج لا يهتم بلحظة انتاج النص (أي سياقه التاريخي وصلاته الشكلية بالكتابة السابقة إلخ) ولا لحظة استقباله (أي التفسيرات المفروضة على النص بعد انتاجه).(10)
من المؤكد أن البنيوية لم تكن مجرد منهج حتى لو كان منهجًا ساكنًا غير تاريخي وإنما هي أيضًا موقف فلسفي والدليل الأكبر على ذلك هو تلك الحملة النقدية التي شنها البنيويون على سارتر وعلى كتابه "نقد العقل الجدلي" على وجه الخصوص حيث تتجلى بوضوح نزعته الإنسانية التاريخية، فقد قذف البنيويون بهذه النزعة إى أسفل درك معتبرين أنها مجرد حديث وهمي.(11)
لقد كانت الوجودية بعامة والوجودية في جانبها السارتري خاصة موقفًا يرى ان حرية الإنسان مطلقة ولا حدود لها وقد يكون في هذا الموقف مع الحرية نوع من التطرف الذاتي الذي لا يتفق مع الفهم الجدلي العلمي لموقع الإنسانية في حركة التغير الاجتماعيـ يقول سارتر: "إن الإنسان مضطر أن يكون حرًّا وقد حكم علينا بالحرية" كما يذهب إلى أن "الاختيار ممكن وهو الشيء الذي لا نستطيع إلا أن نفعله، إنني دومًا أستطيع أن أختار، وعندما لا أختار فإنني لا أكون في الواقع إلا قد اخترت وقد اخترت ألا أختار" إلا أن هذا الموقف الذاتي المتطرف بالنسبة للحرية الإنسانية كانت له أكبر مبرراته في واقع المجتمع الفرنسي خلال فترة الاحتلال النازي ولذلك فقد راجع الفرنسيون هذا المفهوم السارتري المتطرف حين اكتشفوا أن الإنسان ليس حرًّا تمامًا لأنه محكوم ببعض القوانين التي تقع خارج إرادته ولا يستطيع أن يمتلك حريته الحقيقية إلا بعد إدراك هذه القوانين والسيطرة عليها.
لكن البنيوية لم تكن تؤمن بقدرة الإنسان على التأثير في التاريخ والواقع الاجتماعي بوصفه ذاتا فاعلة بل نظرت إليه بوصفه منعزلًا وخاضعًا لهيمنة النموذج اللغوي والأنساق البنيوية وبذا جردته من أية حرية أو قدرة على ممارسة الإرادة الإنسانية.(12)
ويتجلى الطابع العقائدي والموقف الفلسفي أيضًا الذي يميز البنيوية في محاولة بعضهم إعطاء تفسير جديد للماركسية بحيث حولوها من فلسفة ترتكز على مفاهيم الأنساق والتاريخ والممارسة إلى نظرية علمية تخلو من كل شوائب الأيديولوجيا من أجل استبقاء البشر بوصفهم القوى الفعالة المحركة لصيرورة العملية التاريخية أي بتعبير صريح تحويل الماركسية من منهج عمل ثوري ركيزته الأساسية الإنسان إلى نظرية رجعية تؤكد حتمية سيادة نظام لا سلطان للإنسان عليه:(13)
وإذا كان صحيحًا أنه مع تصاعد الحرب الباردة في الخمسينيات أخذت الوحدة الأيديولوجية بين فصائل اليسار الفرنسي تتصدع ولم تعد قادرة على وصل ما كان مؤتلفًا بين المثقفين والمجموعات العمالية ونواب البرلمان، وإذا كان صحيحًا أيضًا بروز الحاجة في نفس الفترة لدى المثقفين الفرنسيين إلى ظهور حركة جديدة تجاوز ما في الوجودية من افراط في الذاتية ومغالاة في الحرية وتتجاوز ما عاق الوجودية نفسها من تحمل الأعباء الاجتماعية التي أثقلت كاهلها وكل هذا صحيح، فمعنى ذلك كما ترى إديث كروزويل أن البنيوية في ذلك الوقت لم تكن سوى الفرصة المناسبة التي تتيح لأتباعها - على الأقل - فرارًا جديرًا بالاحترام من مواجهة قصور الماركسية والوجودية على حد سواء.(14)
وقد انصبت معظم الهجمات التي تعرضت لها البنيوية قبل وبعد انهيارها بالإضافة إلى تفنيد مزاعمها وادعاءاتها الكبيرة - على تناقضاتها الداخلية والتهافت المنهجي للفكرة التي ابتعثتها من كلام المذاهب الفلسفية وعلم الفن .
يقول جورج واطسن: إذا كنت تؤمن بأن دراسة اللغة عملية وصفية صرف أو كنت تؤمن بأن واجب اللغوي أن يصف ما يصنع الناس باللغة وليس أبدًا ما يجب أن يصنعوه، كيف إذن تتيح لنفسك أن تقوم عمل الناقد الأدبي الذي يفرض القواعد ويصدر الأحكام ويفسر النصوص كل يوم؟ بل كيف ترضى أنت عن هذه المهام على الإطلاق؟ ويختم واطسون كلامه بحكم قاطع وعنيف هو أن "البنيوية والأدب عدوان لدودان ولا يمكن التوفيق بينهما وهو مصير لا يدعو إلى الدهشة".(15)
ويرى أيزويتوف أن البنيوية كانت تحاول أن "تبعث من جديد وفي مرحلة تاريخية جديدة وبلغة خاصة فكرة متهافتة منهجيًّا هي فكرة التطابق المنشأي المطلق بين الفلسفة وعلم الفن بوصفه نوعًا خاصًا من النشاط الروحي يمتلك مضمونه وشكله دراسة علمية حقيقية وخصبة وواعدة من الناحية الفلسفية.(16)
أما رينيه ويليك فيرى أن "ما يُدعى بالبنيوية إن هي إلا مجموعة شديدة التباين - إنها عبارة عن مزيج من اهتمام الناس من الميل إلى الابتعاد عما يُعدُّ قضية النقد الأساسية ألا وهي تحليل العمل الفني المتكامل وتقويمه.(14)
ومن ألد أعداء البنيوية الوجوديون وعلى رأسهم سارتر الذي يرى أن البنيوية تتباعد عن الوجود الإنساني وتتنكر للشرط الأساسي الأساسي لهذا الوجود ويترتب على ذلك أن البنيوية تطرح مفهومًا شائهًا للوجود بل مفهومًا تحوطه الريب الأخلاقية ولذلك يدين سارتر المدخل يمسخ البشر للبشر في موضوعات ثابتة لا زمان لها ولا ترتبط بغيرها من البشر أو الأشياء إلا بمجرد روابط شكلية لا زمان لها، يقول سارتر: "إن العالم يقع في الخارج كما لا تقع اللغة أو الثقافة في الفرد .. بل الفرد يوجد في ثقافته وفي لغته أي في داخل مجموعة خاصة من الشروط"، ويضيف سارتر أن كل فرد يكتشف وعيه بالذات أو الأشياء في الممارسة Praxis فليس الوعي سوى "إدراك للواقع" بكل ما تتضمنه كلمة الوعي من إشارة إلى واقع خارجي وليس إلى بنية داخلية.(15)
وقد هاجم لوفيفر بدوره الأنثربولوجيا البنيوية لما تتضمنه من خلط بين البحث عن الأبنية اللاواعية للأسطورة والبحث عن القوانين الطبيعية الثابتة التي تحكم الإنسانية وأدان لوفيفر ليفي اشتراوس لتجنبه السياسة ووسَم البنيوية بالعقم السياسي وبأنها "توثين للمعرفة" وإبستمولوجيا معمدانية تضحي بتقسيم العمل على المستوى الفكري وتخفي تقسيم المعرفة بعباءة الموسوعية.(19)
واختص ريكور بالهجوم على الأساس اللغوي الذي يعتمد على ليفي اشتراوس ورفض النسق اللغوي الذي لا يعول على وعي المتحدث بل على مستوى أدنى، كما رفض النتائج التي تترتب على هذا النموذج لأنه يقوم على "نسق" مغلق من وحدات منفصلة تتركب منها لغة "وليس في ذلك ما يعين على معالجة الخطاب في حال فعله، بل ما يعين على اهمال المسائل الأخلاقية".(20)
ويعتقد د. عبد العزيز حمودة أن خطورة النموذج البنيوي تكمن في افتراض أن النص مغلق ونهائي فالقول بوجود نسق أو نظام عام للنوع تدرس في ضوئه الأنساق/ النصوص الفردية يعني بالدرجة الأولى وجود نسق عام مغلق ونهائي إذا كيف نحلل نصًّا فرديًّا في ضوء نسق غير مكتمل؟، وما يفعله الناقد البنيوي مسلحًا بتلك الآلية المسبقة هو تحليل النص في ضوء أحكامها وقوانينها، هذا التحليل يفترض أيضًا اكتمال النص ونهايته وحيث إن المؤلف في المنظور البنيوي قد مات وأنه لا مكان في النص لقصدية مؤلف لا وجود له، وأن النص مغلق ذاتي الدلالة فإن وظيفة الناقد البنيوي هي إنطاق النص حتى لو كان ذلك يعني إنطاقه بأشياء ليست موجودة فيه.
إن ما يحدث هنا في حقيقة الأمر ليس مجرد إنطاق النص بل إنه عملية تعذيب حقيقي للنص الإبداعي .. يقول روبرت شولتز: إن فكرة وضع لغة الشعر فوق جهاز الشد Rack وإرغامه على الإفضاء بأسراره أو ما هو أسوأ، على الاعتراف الكاذب، كانت مثار رعب جزء كبير من العالم الأدبي فظيعة بما فيه الكفاية" كل ذلك باسم عملية النقد الأدبي.(21)
وإذا كان بعض النقاد الماركسيين بصفة خاصة قد أشادوا بما حققته البنيوية من إنكار للوجودية والنزعات الشخصية وما أقامته من علاقات وثيقة مع نتائج مثيرة من العلوم الإنسانية في تحليلها للأبنية الموضوعية والاقتصادية واللغوية والثقافية إلا أن البعض منهم ناصبوها العداء - كما رأينا عند لوفيفر - وأخذوا عليها عمومًا أنها لا تضيف شيئًا ذا قيمة في مجال التفسير العلمي للدراسات التاريخية وأنها تنكر حقيقة التقدم في التطور الإنساني وفي نفس الوقت ترى الجدلية في التاريخ مما يجعلها غير قادرة على تحديد الأسباب الحقيقية للظواهر الاجتماعية وشرح الظروف التي تؤكد فيها مختلف الأبنية وعوامل تغيرها.(22)
إن البنيويين يعطون للنظام أهمية تفقد التغيير قيمته وبدأ يتحول منهجهم إلى عقيدة دوجمائية تسلب الإنسان حريته وقدرته على الإبداع.(23)
والبنيوية بتسويدها للأنموذج اللغوي وأنساقه البنيوية وتعميمها على التاريخ والمجتمع والإنسان بوصفه ذاتًا فاعلة إنما تستلب حرية الإنسان وتحيله إلى كم مهمل وغير مؤثر وتشل بذلك قدرته على التغيير الثوري للواقع الاجتماعي، ومن هنا فإنها تقصر اهتمامها على ما تسميه بقوانين الروح البشري وتضفي عليها صبغة عالمية .(24)
ويربط د. شكري عياد بين تناقض البنيوية وأزمة الحضارة الغربية التي بلغت منتهاها .. يقول: "ولعل التناقض الاساسي في البنيوية هو التناقض الاساسي في هذه الحضارة نفسها، حين نجد سعيًا مستمرًّا لتحويل كل عمل من اعمال الإنسان إلى نظام آلي يقوم به الكومبيوتر، وفي مقابل ذلك انهيار لكل الضوابط التي كانت إلى عهد قريب تضبط سلوك الإنسان نفسه.
هكذا حاولت البنيوية أن تقنِّن الأدب كنظام عقلي مجرد ولكنها اصطدمت بالأدب كنتاج يعبر عن حالة نفسية لإنسان العصر، وبينما نرى انتصارات الكومبيوتر تتوالى في ميدان العلوم الطبيعية ودور الإنسان يكنمش في تشكيل الحياة .. نرى في الأدب الحديث والبنيوية كممثل لهذا الأدب ومدافع عنه يقدمان - على الأقل - صورة جديدة من حلم العالم الآخر، ويفشلان في الوصول إلى قانون عام فيعلنان أن كل عمل أدبي له قانونه الخاص وبذلك يؤكدان مرة أخرى أن للإنسان وضعه المتفرد في الكون الذي يحتم عليه أن يكون للعلوم الإنسانية منهجها الخاص".(25)




مراجع الفصل:
1- انظر "الفكر الأوروبي المعاصر" لجورج واطسن ت د. مصطفى بدوي - ص 54.
2- " انظر "الأدب والعلوم الإنسانية" لمجموعة من العلماء السوفييت ت يوسف حلاق - ص 48، 49.
3- انظر "المرايا المحدبة" للدكتور عبد العزيز حمودة - ص298.
4- انظر "اللغة الثانية" لفاضل تامر ص 82.
5- انظر "الأدب والعلوم الإنسانية" - مرجع سابق ص 28، 29.
6- انظر "عصر البنيوية" لإديث كريزويل ت د. جابر عصفور ص 342.
7- انظر "مشكلة البنية" للدكتور زكريا إبراهيم - ص 26.
8- انظر مقالة "المسرح بين النظرية الأدبية والنظرة الفلسفية" للدكتورة نهاد صليحة بالعدد 4 من مجلة فصول 1985، ص 144.
9- انظر "مقدمة في نظرية الأدب" لتيري إيجلتون ت أحمد حسان ص 115.
10- انظر "النظرية الأدبية المعاصرة" لرامان سلدن ص 115.
11- انظر "مشكلة البنية" للدكتور زكريا إبراهيم ص 27.
12- انظر "اللغة الثانية" - مرجع سابق ص 144.
13- انظر مقالة "المسرح بين النظرية الأدبية والنظرة الفلسفية"- مرجع سابق، ص 145.
14- انظر "عصر البنيوية" - مرجع سابق ص 20: 22.
15- انظر "الفكر الأوروبي المعاصر" - مرجع سابق ص 135، 136.
16- انظر "الأدب والعلوم الإنسانية" - مرجع سابق ص 49، 50.
17- انظر "مفاهيم نقدية" لرينيه ويليك ت د. محمد عصفور ص 458، 459.
18- انظر "عصر البنيوية" - مرجع سابق ص 52.
19- انظر المرجع السابق ص53.
20- انظر المرجع السابق ص 53.
21- انظر "المرايا المحدبة" - مرجع سابق ص 285.
22- انظر "نظرية البنائية" للدكتور صلاح فضل ص 193.
23- انظر المرجع السابق ص 194.
24- انظر "اللغة الثانية" - مرجع سابق ص 149.
انظر مقالة "موقف من البنيوية" للدكتور شكري عياد بالعدد 1 من مجلة فصول 1981، ص 198.


* فصل من كتاب المخطوط (إشكالية المنهج في علم الأدب):

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى