قبل صافرة البداية
يفرض الحديث عن حضور كرة القدم في النصوص السردية العُمانية طرح مجموعة من التساؤلات – دون أن نزعم مبدئيا قدرتنا على الإجابة عنها في هذه السانحة، ولكنها أسئلة تضع خارطة طريق للباحث في هذا الموضوع بغية التوسع فيه مستقبلا – تأتي في مقدمتها: هل شكَّلت كرة القدم حضورا لافتا في النصوص السردية العمانية موضوعا أو تقنية ما يجعلها ظاهرة جديرة بالسؤال والبحث؟ وإذا كان كذلك، متى بدأ اهتمام السرد العماني بها؟ وهو سؤال يبحث في تاريخ هذا الحضور، ويفترض من ثم، البحث في أوائل النصوص التي اتخذت من كرة القدم موضوعا لها، وما الدافع المحرك لكتابة (نص كرة القدم) إن جاز القول؟ أهو دافع ذاتي تحتمه ذاكرة المؤلف، ومن ثم فهو كاتب يستعيد تجربته الشخصية مع كرة القدم نجاحا أو فشلا؟ أم أنه دافع تخييلي صرف تتخلق شخوصه وأحداثه بفعل التخييل المحض؟ أم أنه دافع خارجي أثارته أحداث كروية واقعية حفزت الكتابة عن كرة القدم ولاعبيها؟
أما السؤال الأهم فهو: كيف تجلّى حضور كرة القدم في هذا الأدب: أكان حضورا عابرا يقتنص مشهدا خلفيا لأحداث أهم منه تتقدم الواجهة، أم أنه حضور يجعل من كرة القدم حدثا رئيسا له؟ وفي الحالة الأخيرة: ما هي وجهة النظر التي يتبناها السارد في النصوص التي اتخذت من كرة القدم موضوعها: أكانت مناصِرة لها أم حاطةً من قدر اللعبة ومن يلعبها؟ وسنسأل عن شخصية اللاعب في النص السردي: أكانت شخصيته ناظِرة تعبر عن نفسها وعن العالم من حولها، أم أنها شخصية منظور إليها، ويتم التعبير عنها بوسيط خارجي ينظر إليها من دون أن يتمكن من الكشف عن بواطنها؟
وسيبرز لدينا سؤال مهم آخر: ما مدى حضور المرأة كاتبةً أو لاعبةً في النصوص السردية العمانية التي حفلت بموضوع كرة القدم؟ وهل اتخذت الكاتبةُ شخصيتَها الرئيسة امرأة في لعبة كرة القدم (إن وجدت)، أو أنها انساقت مع السائد الذي يكرّس كرة القدم لعبة ذكورية؟ أما السؤال الأخير: فإلى أي مدى اعتمدت الكتابةُ عن كرة القدم أسلوبَ اللعبة نفسها في السرد: أكانت اللغة المستخدمة لغة تتبنى إيقاع اللعبة وتكتيكاتها داخل المستطيل الأخضر، موظفة قاموسها اللغوي من مصطلحات وإيحاءات؟ وهل يمتح الزمن قوامه من زمن اللعبة المعروف بشوطيه وفاصلته الزمنية وأشواطه الإضافية في توزيع أحداثه؟ وهل كان المكان الذي تدور فيه الأحداث ساحةَ المستطيل الأخضر وما ارتبط به من مبان رياضية وأندية، أو تعدتها إلى أماكن أخرى تمتد إلى الحياة العامة وتتغلغل في حياة شخوصها الرياضيين في ممارستهم لحياتهم الاعتيادية؟
الإجابة عن الأسئلة أعلاه لا تستلزم قراءة مسحية أفقية وحسب للنصوص السردية العُمانية، ولكنها تستلزم كذلك وفرة تفترض وجود (النص الكروي) ظاهرةً سردية في عُمان، الأمر الذي سيتيح أفقا أوسع للأسئلة السالفة، وهو ما سنرجئه مضطرين إلى خانة المستقبل، على أمل أن تتمدد حالة الكتابة عن كرة القدم في عمان لتخولنا الإجابة عن كل هذه التساؤلات.
خطة اللعب: ثلاثة .. اثنان .. خمسة
خطة لعب غريبة، ولكنها جائزة. أليس ما لا يجوز في المستطيل الأخضر يجوز في الأدب؟ فإذن، سأعتمد في هذه القراءة خطة لعب (3، 2، 5) بناء على عدد النصوص التي سأتناولها في كل محور كما سيأتي. وقبل ذلك سأعمد إلى تصنيف حضور كرة القدم في الأدب العماني (والسردي تحديدا) من خلال النماذج الذي سأتطرق إليها إلى أربعة أشكال: أولها حضور عابر لا يتعدى إشارات سريعة لا تُحدث أثرا في النص أو في حدثه الرئيس، مثل أن يتذكّر البطل هدية والده التي كانت عبارة عن كرة قدم إثر نجاحه في المدرسة1، أو مشهد لفِتية يلعبون كرة القدم على الشاطئ2 أو في الملاعب المؤقتة التي تنشط في مساءات رمضان3، وقد يتسلل الحديث عن كرة القدم في بعض الحوارات أحيانا4 من دون أن يكون وروده ذا قيمة فنية أو معنوية باستثناء ما قد نعدّه سياقا عاما تشكل كرة القدم فيه حديثا يوميا اعتياديا، أو لعبة أثيرة يمارسها الصبية في الحارات5 في مشهد مألوف وجد طريقه إلى النص السردي ليؤثث خلفية الحياة النصيّة. غير أن هذا الشكل من أشكال الحضور ليس ما نبحثه هنا، لأنه لا يخلق حالة يمكن البناء عليها أو تتبع أثرها فنيا وموضوعيا.
أما الشكل الثاني فهو اشتغال النص بكُليَّته بموضوع كرة القدم جاعلا منه لحمته وسداه. وسنتوقف في هذا السياق عند ثلاثة نصوص قصصية، هي: قصة «الكابتن حمدان»6 لمازن حبيب، وقصة «حمود كارلوس»7 لنوف السعيدي، وقصة قصيرة جدا لبشاير حبراس بعنوان «الأم»8.
والشكل الثالث يمكن أن نسميه النصوص المزامِنة، وهي النصوص التي استلهمت حدثا كرويا معينا في بناء عالمها السردي، وهنا نستحضر نصين مهمّين هما: «أن تمشي وراء حسن ربيع»9 لسليمان المعمري، وقصة «الركلة»10 لمحمد سيف الرحبي.
أما الشكل الرابع والأخير، فهي النصوص الأدبية التي شُغلت بشخصية لاعب بعينه، وهو هنا أيقونة الكرة العمانية غلام خميس الذي رحل عن دنيانا في العاشر من نوفمبر 2008م. ويُعد غلام خميس مارادونا عُمان ولكن من غير تتويج؛ فهو أكثر لاعب عماني شُغلت به الأقلام الأدبية مقارنة بمارادونا في الأدب العالمي. وسنعتني بشكل أساس بخمسة نصوص أدبية هي: «انتصار في الزمن الضائع» لعبدالله حبيب، و«غلام الوطن» لناصر صالح، و«لم تكن غلاما» لحميد البلوشي، وهي نصوص نشرتها جريدة الزمن بتاريخ 18 نوفمبر 2008م قبل أن يجمعها – وسواها – الكاتب والرياضي سالم ربيع الغيلاني في كتاب تأبيني للأيقونة الكروية العمانية غلام خميس11. ونضيف إلى هذه النصوص قصة «غلام لوحة متخيلة»12 لمحمود الرحبي، ونص «ضربة جزاء غير مستحقة»13 لمازن حبيب.
الشوط الأول: أزمة مكان، وحرب آباء على الأبناء
تطرح قصة «الكابتن حمدان» لمازن حبيب إشكالية المكان في كرة القدم، إذ لا كرة قدم بدون ملعب. وملعب وسط الحارة في قصة مازن حبيب مهدد على الدوام؛ التهمته أول مرة جرافات تاجر الذهب ومحا أثره وذكريات بطولات الأولاد فيه، ليقيم مكانه قصره الكبير الذي يعلو على بيوت الجميع، غير آبهٍ بفتيةٍ لم ينشغلوا بغير كرة القدم. وحتى اختيارهم المكان البديل لإقامة الملعب لم يكن بمنأى عن التهديد هو الآخر، ولكنه تهديد من نوع مختلف، فالأرض التي أقيم عليها الملعب الجديد لم تكن سوى وادٍ. يقول السارد: «لم يكن لنا حل غير الوادي. الوادي الغربي كان واديا غير ذي زرع، ولم يكن للكرة، فمن لعب على أرض مستوية لا يستطيع أن يلعب على رمل الوادي العميق. لا يمكنك تسديد الكرة بقوة على رمل مرتفع. لا يمكنك الجري ورئتاك تضيقان من اصطدام تيار الهواء بصدرك. لا تستطيع المناورة بسلاسة على تلك الرمال العصية والتي كانت عقرا للأوساخ، وزجاجات السكارى المتكسرة وغير المتكسرة على حد سواء». وعلى الرغم من كل عيوب الملعب الجديد، حاربهم عليه برهوم ابن حارة السيح، لاعب فريق الخصم.
يقول السارد في قصة «الكابتن حمدان» لمازن حبيب: «كان آباؤنا يعملون في مناطق بعيدة جدا، وفي دول أخرى أحيانا، وقلّما يعودون إلا ليوم أو يومين. لماذا لم ننتقل إلى المدن البعيدة معهم؟ لماذا كانت المدن الشائقة التي يعبرونها خطيرة علينا؟ وما الذي يجعلنا نتمسك بمكان لا يمثل مصدر رزق؟ لا أدري، لكن ذلك هيأ لنا عالما استثنائيا، ووهب لنا حب الكرة بحُريّة لم تُمنح لغيرنا. لم يكن كل شيء على ما يرام، لكن أشياء كثيرة كانت على ما يرام. كنا راضين».
كرة القدم في قصة «الكابتن حمدان»، مشروع حياة، والمشاريع تحتاج أرضا تنهض عليها، فكان كفاح الفتية المستميت من أجل الحق في مستطيل أغبر لبناء مشروع طويل من البطولات والمباريات في ظل غياب عدو كرة القدم الأول: الآباء.
يقول السارد: «كان آباؤنا يعملون في مناطق بعيدة جدا، وفي دول أخرى أحيانا، وقلّما يعودون إلا ليوم أو يومين. لماذا لم ننتقل إلى المدن البعيدة معهم؟ لماذا كانت المدن الشائقة التي يعبرونها خطيرة علينا؟ وما الذي يجعلنا نتمسك بمكان لا يمثل مصدر رزق؟ لا أدري، لكن ذلك هيأ لنا عالما استثنائيا، ووهب لنا حب الكرة بحُريّة لم تُمنح لغيرنا. لم يكن كل شيء على ما يرام، لكن أشياء كثيرة كانت على ما يرام. كنا راضين».
هذا العدو لكرة القدم في قصة «الكابتن حمدان» المتمثل في الآباء، يتكرر في قصة نوف السعيدي «حمود كارلوس» التي تمتح عنوانها واسم بطلها من اسم اللاعب البرازيلي روبرتو كارلوس. يعاني حمود كارلوس اضطهاد أبيه الذي يريد له أن يدرس ولا شيء آخر. ومن ذا يلوم أبا يريد مستقبلا لابنه؟ ولكن الابن يرى مستقبله في كرة القدم وحدها. بيد أن أزمة المكان تعود من جديد في قصة نوف أيضا، ولكن بطريقة عكسية؛ فالآباء الذين يعملون في المناطق البعيدة وفي دول مجاورة في قصة الكابتن حمدان، موجودون في الديار في قصة نوف التي اختارت لها منطقة حدودية (ولاية محضة)، غير أن الحلم هو الذي يسكن في الدولة المجاورة، ولا يفصله عنه غير جبل ينهض بين قريته وضفة الأحلام والوعد بالانضمام إلى نادي العين، ولكن هذا الحلم يتحطم أمام صخرة شرط الأب بأن يحصل ابنه حمود كارلوس على أحد المراكز العشرة الأولى في المدرسة أولا إذا ما أراد الالتحاق بالنادي وراء الجبل.
تتمثل رمزية قصة «الكابتن حمدان» في بنائها السردي الذي يشبه سرد معلّق رياضي يستعيد من أرشيف الذكريات مباراة قديمة ما هي في حقيقتها إلا حياة الكابتن حمدان أمام مُشاهِدٍ لم يشهد، جاء من حارة أخرى ولم يكن من الحارة نفسها، وحضر في المشهد الأخير ليقطف الكأس التي كانت من حق الكابتن حمدان: حبيبته منى. ويُسدل الستار على مباراة تراجيدية خسر فيها حمدان البطولة بعدما خسرها على الأرض، عندما خرج من الملعب مصابا بإصابات خطيرة أبعدته عن ملعب حلمه إلى الأبد.
وفي قصة نوف السعيدي، تتمثل الرمزية في عمود الكهرباء المنتصب داخل محيط سور بيت حمود كارلوس/ العمود العقاب، الذي رُبط فيه من قبل لفشله الدراسي، وسيربط فيه مجددا لفشله الجديد الذي سيحرمه من حلمه خلف الجبل. لم يكن حمود كارلوس بحاجة لأكثر من بطاقة بيضاء من أبيه تسمح له بعبور الحدود للالتحاق بنادي الأحلام، بل إن حتى البطاقة الحمراء كانت كفيلة بفعل ذلك، ولكن عمود الكهرباء ظل وحيدا في مرمى بصره بينما يرتقي الجبل بعد نتيجته الأخيرة، ناظرا إلى حيث يظن أنه بيت أبيه في الأسفل، حائرا أي اتجاه يسلك، فلا هو بمستطيع العودة إلى حيث سيُربط في عمود الكهرباء، ولا هو يملك بطاقة الإذن من عدو كرة القدم فيذهب إلى حلمه، فاختار أن يرتقي الجبل بلا نية حاضرة للنزول إلى أي الجهتين، حتى تماهى مع الطيور التي حلّقت في السماء في الاتجاه الآخر من الجبل.
في قصة نوف السعيدي يستوقفنا بنحو خاص أنها كُتبت بقلم فتاة، وهو أمر نادر وأكثر إثارة للاهتمام، فإلى جانب الموضوع – الذي لطالما عُدّ ذكوريا – تكشف تفاصيل القصة إلماما بعالم كرة القدم بدون استعراض مجاني، بيد أنها اختارت لقصتها بطلا ذكرا، ولذلك ما يسوّغه بالنظر إلى زمكانية القصة.
قصة «الأم» لبشاير حبراس: «في الملجأ لا توجد سوى أم واحدة، كل من في الخيام يناديها أمي، حين ننقسم إلى فريقين لنلعب كرة القدم في الباحة مع باقي الأولاد، نتعادل دائما. كانت تدعو الله ألا يخسر أحد».
وعلى الجانب الآخر من الآباء/ أعداء اللعبة، تحضر الأم في القصة القصيرة جدا لبشاير حبراس التي تحمل عنوان «الأم». تقول القصة: «في الملجأ لا توجد سوى أم واحدة، كل من في الخيام يناديها أمي، حين ننقسم إلى فريقين لنلعب كرة القدم في الباحة مع باقي الأولاد، نتعادل دائما. كانت تدعو الله ألا يخسر أحد»14.
غاب الآباء/ الأعداء عن قصة بشاير، فوجد الأولاد فسحة للعب، كما وجدوا المكان/ شرط اللعبة، وهو الباحة. في الملجأ – على الرغم من قصر النص – لا يبدو أن ثمة شكلا من أشكال الحياة إلا في هذه الممارسة، وهي لعبة كرة القدم التي تعادل الحياة، فأية حياة يمكن أن تكون في الملجأ؟ ولكنها تبقى لعبة ناقصة؛ لأنها بلا خسارة، وبطبيعة الحال بلا فوز، فالأم تلعب دورا رئيسا في تحديد مصير اللعبة بدعائها ألا يخسر أحد. خسر حمدان بطولته بإصابته الخطيرة، وخسرها حمود كارلوس أيضا بارتقائه غير النهائي إلى أعلى الجبل، وتعادل أولاد الملجأ بدعاء الأم.
تخص بشاير الأولاد باللعبة دون البنات، مع أن ملجأً لا يمكنه أن يخلو من البنات والأولاد على حد سواء. فأين ذهبت البنات أثناء ما كان الأولاد يلعبون؟ هل كانت البنات جمهورَ المشجعين؟ ما الذي يمنع بنات الملجأ من المشاركة في اللعبة، أو أن تكون لهن مباراتُهن الخاصة من فريقين من البنات إذا لم يكن فريقُ بنات مقابلا لفريق أولاد؟ هنا نعيد السؤال عن شخصية اللاعب في نص الكاتبة الأنثى من جديد، لنجدها شخصية ذكورية تلعب كرة القدم من دون الأنثى، التي بقيت في أحسن الأحوال بين مجاميع المشجعين.
ألم تناوش الكاتبة الأنثى (كرة القدم للفتيات)؟ سؤال نرجئه لأعمال سردية قد تُكتب في المستقبل، ولكن أستحضر على عجل دون خوض في التفاصيل نص “الفتاة التي عشقت كرة القدم” الذي ودَّت كاتبته لو لم تكن صاحبته حتى تستطيع مقاربته بتجرد هنا15.
صافرة نهاية الشوط الأول
بين الشوطين: تبديلات مدرب افتراضي
سنفترض أن مدربا مبتدئا لفريق قصة «الغريب والغروب» – للقاص محمد الحراصي المنشورة ضمن مجموعته القصصية «ذاكرة الأسئلة»16 – قد أدرك ضرورة إنقاذ ما يمكن إنقاذه وعدم تسليم المباراة للفريق الخصم، فاتخذ قرارا فوريا بتغيير الحارس بين الشوطين بسبب شرود ذهنه ومراقبته المستمرة لأعلى التلة الصخرية المطلة على الملعب جهة الغروب، حيث تعوّد أن يجلس منصور القرشي مقتعدا كرسيه القماشي يتابع المباراة ويتأمل الغروب في آن، ولكنه غاب في ذلك اليوم على غير عادته منذ جاء إلى القرية قبل شهرين، فشرد ذهن الحارس يفكر في غيابه المفاجئ حتى أمطر الخصمُ شباكه بسيل من الأهداف.
نقول: لو كان المدرب مبتدئا فضلا عن كونه فطنا، كان سيغيّر الحارس على الفور إن لم يكن بين الشوطين، ولكن المدربين لا وجود لهم في ملاعب القرى والحارات؛ لذلك يبقى الحراس واللاعبون في مواقعهم حتى نهاية المباراة. ولأن الحكّام لا وجود لهم أيضا، تكون المباريات عادة بشوط واحد طويل لا ينتهي إلا إذا تعب اللاعبون أو غضب صاحب الكرة فيقرر أخذ كرته معلنا نهاية المباراة. تُنفّذ ركلة الخطأ (الفاول) في مباريات ملاعب القرى والحارات فقط لأن أحد اللاعبين أقسم بأن فلانا لمس الكرة، ولا تنفّذ ضربة الجزاء إلا إذا سالت دماء أحدهم جراء إصابة وحسب، حينها يصبح الدليل غير قابل للتجاوز على عرقلة تستحق ركلة من داخل منطقة الجزاء. يتطور الأمر ويصبح أقرب إلى مباراة حقيقية متى اقتربت بنية الملعب التحتية من صورة الاكتمال، وما عدا ذلك فلا شيء أكثر أهمية من متعة اللعبة نفسها.
في قصة محمد الحراصي «الغريب والغروب» ينهض الملعب كقيمة مكانية تقابل السبلة أو مجلس القرية الذي يجتمع فيه الآباء وكبار السن بينما الشباب في القرية – كما يقول السارد – «لهم مكان مختلف يجمعهم وقت العصر؛ إنه ملعب القرية .. نعم، إن كرة القدم اليوم أصبحت تقوم مقام (السبلة) التي كانت تجمع رجال قريتنا قديما».
في قصة محمد الحراصي، ينهض الملعب كقيمة مكانية تقابل السبلة أو مجلس القرية الذي يجتمع فيه الآباء وكبار السن لمناقشة أخبار القرية وشؤونها وتبادل آخر الإشاعات؛ لأن حياة القرى – كما يقول السارد – يكثر فيها وقت الفراغ و«الناس يبحثون عن أتفه الأشياء لينسجوا حولها الإشاعات»17، بينما الشباب في القرية «لهم مكان مختلف يجمعهم وقت العصر؛ إنه ملعب القرية .. نعم، إن كرة القدم اليوم أصبحت تقوم مقام (السبلة) التي كانت تجمع رجال قريتنا قديما»18.
لا يقارن الحراصي بين مكانين من حيث المرحلة العمرية التي يجتذبها كل منهما وحسب: السبلة للكبار والملعب للشباب، بل يقيم مفاضلة ضمنية ترجّح كفة الملعب على المجلس/ السبلة التي غدت مكانا للنميمة وبث الشائعات. ويعزز هذه المفاضلة بالإشارة الزمنية إلى انقضاء زمن السبلة: “كانت تجمع رجال قريتنا قديما”، وإلى راهنية الملعب: «نعم، إن كرة القدم اليوم تقوم مقام (السبلة)». وهكذا يرتقي الملعب في نص الحراصي من مكان موازٍ يجمع الشباب، إلى مكان يقوم مقام السبلة ويسد غيابها الراهن عن أداء دورها الذي كانت تؤديه سابقا.
أما زاهر السالمي في نص مقتطع من نص أطول منه ونشره في مجلة قناص الإلكترونية بعنوان «حُراً راكضاً بالكرة»19، فيتحدث عن تدرج علاقته بكرة القدم ومراحل شغفه بها، ساردا تلك المراحل بدءا من الطفولة التي ما كان يربطه فيها شغف بكرة القدم، إذ يقول: «حتى السادسة من عمري لم أستمتع بها، ولم أفهم لماذا الكل يحبها، وإن لم يكن الكل، فمعظم الذين عرفتهم تُمثل لهم شغفا ما، وإن اختلفت حدته». ولكن ذلك لم يكن ليمنعه من مشاهدة مباراة نادي «فنجا» الرياضي أمام نادي «المحرق» البحريني في كأس الأندية الخليجية في عام 1989، والصراخ فرحا بتسجيل نادي فنجا هدف الفوز بالبطولة. وقبلها مشاهدته لمباراة نهائي كأس العالم بين الأرجنتين وهولندا في عام 1978م، ومشاهدته أعمامه وهم يلعبون كرة القدم في حوش البيت الكبير ثم في ملعب قرية الظاهر، ولاحقا في ملعب روي، والولجة. ولكنه عرف التعلق الحقيقي بالكرة والشغف بها في تنزانيا، يقول: «في تنزانيا بدأ شغفي الحقيقي وتعلقي، رغم أن الكرة ليست أصلية، مصنوعة يدويا من الأكياس ومطاط الإطارات». فما الذي تغير في تلك المرحلة التي حملته على عشق كرة القدم على الرغم من الصورة البدائية التي كانت عليها الكرة؟ يجيب: «هنا جربتَ متعة أن تراوغ أكثر من لاعب والكرة بين قدميك. التصفيق والتهليل من الرفاق ومن الجمهور القليل لحركة مراوغة كان جزءا من المتعة التي بدأنا نكتشفها».
ما يثبته السالمي في حديث الذاكرة هذا عن كرة القدم، أنها ليست محض نتائج وأهداف، وإنما يكمن شغفها في متعة لعبها وتفاصيله، في مهارات اللاعب ومراوغاته، في تفاعل الجمهور واللاعبين على حد سواء. تُعشق كرة القدم لمتعة لعبها وليس لحلاوة الفوز بها أو تكبيد الخصم مرارة خسارتها. إنها في اللحظة التي اكتشف فيها متعة اللعب لذاته، ففَهِم أي حديث ترسله الأقدام إلى المستديرة يستبقيها وقتا أطول يراوغ بها اللاعبين، هناك فقط عرفت الكرة الطريق إلى قلبه.
الشوط الثاني: اللعب من عمق الملعب
في الشوط الثاني نستحضر نصين يستلهمان حدثا واقعيا: هما قصة «الركلة» لمحمد سيف الرحبي، ونص «أن تمشي وراء حسن ربيع» لسليمان المعمري:
يهدي محمد سيف الرحبي قصته «الركلة» في مجموعته «الصفرد يعود غريبا»10 للاعب المنتخب الوطني محمد ربيع بعبارة أسفل العنوان تقول: «إلى محمد ربيع.. شعب وأصدقاء كانوا يدعون لك وأنت تركل الكرة تجاه الشباك». وإذا كانت العتبة الأولى، العنوان، تحيل إلى الموضوع الكروي للنص المزمع قراءته، فإن الإهداء يعيد القارئ إلى اللحظة التاريخية التي أعادت كتابة تاريخ كرة القدم العمانية، إلى ركلة محمد ربيع في نهائي خليجي 19 أمام المنتخب السعودي في السابع عشر من يناير من عام 2009، بعد دورتين كان فيهما المنتخب على وشك التتويج بالبطولة بوصوله إلى المباراة النهائية في ثلاث دورات متتالية: في دورة خليجي 17 في قطر في عام 2004، ودورة خليجي 18 في الإمارات في عام 2007، ونالها في المرة الثالثة على أرضه وبين جمهوره في خليجي 19 في عام 2009م.
يصف السارد في هذا النص بطل القصة سعيد وهو يتابع ركلات الترجيح الحاسمة أمام المنتخب السعودي. مشهد عاشه العمانيون بعيونهم وقلوبهم. ولكن شخصية ميمونة في هذه القصة التي يفتتح بها محمد سيف نصه كانت بعيدة عن فهم ما يجري: «ميمونة التي نسيت القهوة تفوح» فوق الطباخة لم تنتبه إلى أنه دفع المخدة الثقيلة على «الزولية» العتيقة مسافة فاضت عنها، رأته يطلق كلمات وسط منطقة بين الوضوح والهذيان، التلفاز فاغر فاه مثله تماما، سمعته يكرر إنها الركلة الأخيرة وفيها حياة أو موت يعقبه بكلام أشبه بالغمغمة، لم تسأله حياة من أو موت ماذا، عادت إلى قهوتها، وقد استراحت، تسكبها في الدلة المعتادة على الانسكاب في الفناجين بكثرة منذ أسبوعين» (الصفرد يعود غريبا، ص 15).
تبدو ميمونة في النص في عالم آخر، عالم مختلف، لا تفهمه وعاجزة عن المشاركة فيه، وتكاد لا تفهم الضجيج في بيتها بسببه، ومستنكرة في الوقت نفسه مشاركة بناتها فيه. تقول: «سعيد صاني تعبت، حتى بناتك قامن يرقصن، عادن عرايس ومسويات بعمرهن كذاك؟! فضيحة، أها تكلم شوية!!» (الصفرد يعود غريبا، ص17).
الاقتباس أعلاه يقدم ملمحين: الأول فني يخص شخصية ميمونة كما يرسمها النص، والثاني اجتماعي يخص تفاعل البنت مع كرة القدم. أما ميمونة، فيبدو أنها الارتكاز الذي تنهض عليه القصة فتعطيها شرعيتها، ومن دونها لا تقدم القصة شيئا جديدا، بل مشهدا للتوتر عاشه العمانيون، وتكرر في معظم البيوت. ولكنها ميمونة في جهلها بما يدور حولها وأسبابه، أو حتى عدم اقتناعها بمبرراته، هي من صنعت المفارقة السردية، ولكن أية مفارقة هي؟
أن لا تكون لميمونة علاقة بكرة القدم فهذا مفهوم، ولكن أن تكون غائبة عن فهم أهمية الحدث الذي تكرر على مدى ثلاث دورات متتالية وصولا إلى البطولة التي أقيمت في عُمان على بعد مئات الكيلومترات (في أبعد الأحوال) عن بيتها، فهو ما ليس مفهوما!
شخصية المرأة البسيطة، ربة البيت، التي تعيش من أجل بيتها ومطبخها، ولا علاقة لها بكرة القدم، حقيقية وتكاد تكون نمطية في المجتمع. ولكنها في القصة بدت مبالغا فيها؛ فالجهل بالبطولة، أو أهميتها، على الرغم من مكان إقامتها في عُمان، حتى ما يكاد المرء يخرج من باب بيته إلا ويرى اللون الأحمر في كل مكان/ في الشوارع والبيوت، وفي اللحظة التي توشك أن تصنع تاريخا جديدا لكرة القدم في عُمان، نقول: إنها صورة غير مسوغة إلا للضرورة الدرامية.
ففي الوقت الذي يقل فيه حضور المرأة في عالم كرة القدم – وهذا طبيعي في مجتمع لا يعترف للمرأة بحق ممارسة اللعبة – يجري تجهيل المرأة بهذا العالم، لتظهر وكأنها من كوكب آخر عندما تدور أقدام اللاعبين على المستطيل الأخضر. وهذا يقودنا إلى الملمح الثاني في الاقتباس السابق: وهو أنَّهُ كثيرٌ على البنات حتى الفرح بنتائج مباريات كرة القدم، فضلا عن لعبها. تقول ميمونة: «عادن عرايس ومسويات بعمرهن كذاك؟! فضيحة»!. هكذا تثبّت القصة حُكم المجتمع على العلاقة بين المرأة وكرة القدم بأنّها جاهلةٌ بها، وفضيحة أن ترقص فرحا بنتائجها!
وبالانتقال إلى النص الثاني، وهو نص سليمان المعمري «أن تمشي وراء حسن ربيع»، نجد أن سليمان المعمري كذلك يستلهم حدثا كرويا في نصه الذي كتبه بعيد مباراة في الكويت جمعت بين المنتخب العماني ومنتخب الكويت في الكويت ضمن التصفيات المؤهلة لنهائيات كأس آسيا لعام 2009م.
من خلال العنوان «أن تمشي وراء حسن ربيع» تنكشف تراتبية ما؛ فالمشي ليس أمام حسن ربيع – نجم المنتخب العماني وهداف خليجي 19، والعائد لتوه من انتصار أحرز فيه هدف الفوز على الكويت – وليس بجواره كذلك، ولكنه وراءه. فمن الذي يمشي وراء حسن ربيع كما يشير العنوان؟ لم يكن سوى سليمان نفسه، وهو يسرد حادثة العودة عبر «الناقل الوطني» من الكويت إلى مسقط بعد ليلة من المباراة التي تزامنت في الآن نفسه مع أمسية سردية، شارك فيها المعمري مع الكاتبة بشرى خلفان، على مبعدة أمتار قليلة عن الملعب الذي أقيمت فيه المباراة.
يضع سليمان المعمري الرياضة والأدب في كفتي ميزان، يحاول بشتى الحيل السردية أن يجعله أفقيا، بدءا من التوقيت الذي ضرب موعدا واحدا لحدثين مختلفين رياضي وأدبي تفصل بينهما مكانيا أمتار قليلة، غير أن الجماهير زحفت إلى ملعب كرة القدم، في حين كان جمهور الحدث الأدبي قليلا «ولكن نوعي» كما يقول، في محاولة منه لتقليص الفارق معنويا. مرورا باستدعاء سؤال للإعلامي سالم العمري في ملحق شرفات الذي كان يصدر مع جريدة عمان: عن أيهما أكثر تأثيرا وإلهاما في عيون الشباب العُماني: علي الحبسي أم سيف الرحبي؟ ويقدم سليمان بمجرد تذكره السؤال مرافعته عن سيف الرحبي في مقابل علي الحبسي، في محاولة لإعادة الميزان إلى استوائه المستحيل. وليس انتهاء بتخيله فريقا رديفا للمنتخب الوطني مكونا من أدباء ومثقفين بارزين بما أن أفراد المنتخب الأول من جيل الكرة الذهبي. وصولا إلى الفرق المفجع بين استقبال لاعب كرة قدم واستقبال أديب على الرغم من أن كليهما كانا يمثلان الوطن. يقول سليمان: «كانوا في مهمة رياضية، ونحن في مهمة ثقافية .. وكلنا نبض واحد».
يصل سليمان المعمري في مقارنته إلى خلاصتها المريرة، وقد فشلت كل حيله السردية في تغييرها بجعل الأديب في كفة تستقيم إلى جوار الرياضي، عندما ختم نصه عن حسن ربيع الماشي أمامه في مطار مسقط يقول: «تركته يبتسم للهواتف النقالة ومضيت منكّسا رأسي جارا عربتي باستحياء».
لوهلة يبدو سليمان المعمري باخسا حق لاعب كرة القدم في الاهتمام الذي يُقابَل به، ومُصرًّا على إقامة ميزان لا يستقيم بينه وبين الأديب، حتى يوشك أن ينضمَّ إلى شلة بورخيس في نظرته المقللة من قيمة كرة القدم، ولكن الحال أنه يحاول من خلال لغة ساخرة أن يقيم ميزانا لا يعدل بين طرفين يختلف جمهورهما. ولكن النتيجة التي انتهت بها المواجهة من دون أن يدري سليمان المعمري ذاته أنه أحرزها ربما، أن بإمكان الأديب أن يكون لاعب كرة قدم أو مشجعا لها في أغلب الأحوال (كسليمان المعمري نفسه)، ولكن ليس بمستطاع لاعب كرة القدم (غالبا) أن يكون أديبا، وهذا هدفٌ صريح للأديب في شِباك اللاعب!
ولكن هل على الأديب أن يقارن نفسه بلاعب كرة القدم إذا ما أراد الحديث عن قصور التقدير الذي يلحق بالمثقف والثقافة عموما؟ تلك مقارنة غير منصفة تفترض أن يتصدر المشهد هذا (أو) ذاك، بينما لسان الحال: ما أحوجنا إلى أن يكون هذا وذاك وغيرهما حاضرين على حد سواء في ميادين التقدير طالما اتسعت الحياة للجمال، فما أبأسنا من دون مباهج كرة القدم، وما أتعسنا في الآن نفسه بلا ميادين تتفوق فيها الثقافة.
اللعب في الوقت الضائع:
في الوقت الضائع كُتبت نصوص تؤبن غلام خميس، الذي كان بحاجة إلى ما هو أكثر من ذلك قبل وفاته، ولكن حسبها أنها نصوص أدت واجب الحضور في المشهد الأخير من مباراة/ حياة غلام خميس، بعدما عجزت عن أداء أدوار كان يفترض أن يقوم بها آخرون، أفراد أو مؤسسات قبل رحيله.
تشترك النصوص الخمسة – التي اخترناها لمناقشة هذا المحور – في أنها نصوص متأخرة، مكتوبة بعد تاريخ العاشر من نوفمبر 2008م، اليوم الذي ترك فيه غلام خميس ملعب الحياة إلى الأبد. غير أن حادثة وفاته والنصوص التي تلتها أتاحت لنا الاطلاع على شيء من شغف كتّابها بكرة القدم.
يبدأ عبدالله حبيب نصه «انتصار في الزمن الضائع» بتواضع الأديب في حضرة اللاعب، وهو تواضع فريد ونادر قلما يصادفنا في العلاقة بين الرياضة والأدب. يفتتح عبدالله حبيب نصه بالقول: «ينبغي من شخص مثلي أسَّس في خطوة حمقاء للغاية حين كان صبيَّاً صغيراً فريق كرة قدم بائسًا باسمٍ أنيابيٍّ تكشيريٍّ يقطر دماً تخويفيَّاً من بعيد فحسب – فريق الأسد – الذي لم يتمكن من الفوز في أية مباراة سواء في قريته أو في القرى المجاورة لها، بل كانت هزائمه المنكرة النكراء تبدأ بنتيجة ثلاثة/ صفر فما فوق.. ينبغي من هذا الشخص، إذاً، أن لا يتحدث أبداً عن الرياضة عموماً وكرة القدم خصوصاً. لكنني لهذا السبب تحديداً وبالضبط سأجيز لنفسي الحديث بإيجاز شديد عن غلام خميس الذي غادرنا – برغبة وإصرار منَّا ومنه، تقريباً – قبل ليلتين؛ ذلك أن الراحل لم يكن «حالة رياضيَّة» فحسب، بل إنه كان، وسيكون، «حالة وطنيَّة» أيضاً. لقد علَّمنا غلام خميس في حياته ومماته معاً أن كلنا وطن، وفي هذا يكمن تفرُّده، وهنا مبعث درسه الذي علينا أن لا نخطئه. عن هذا الوطن، ولهذا الوطن، إذاً، أحاول أن أكتب والحزن والأسف يرفعان في وجهي إشارة محاولة تسلُّلٍ هي ليست كذلك أبداً».
هنا يكشف عبدالله حبيب عن جانب قديم من اهتمامه بكرة القدم الذي يعده مبررا للحديث عن غلام خميس، وشفيعا له في محاولة الكتابة عنه إلى جانب اللقاء الذي جمعه به ابنَ حارة وابنَ بلد، وهو أنه حالة وطنية كذلك. دون أن تفوتنا ملاحظة استخدام حبيب مصطلحات اللعبة في لغته: كلمة تسلل في الاقتباس السابق.
يختار عبدالله حبيب الزوايا الأكثر إنسانية في الحديث عن غلام خميس ابن الحارة، البسيط ولكن غير العادي في الآن نفسه. يقول: «سأقول فوراً إن أول وآخر انطباع تركه فيَّ غلام خميس لم يكن انطباعاً يخص كونه رياضيَّاً كبيراً ولاعب كرة قدم هجوميّا متألقا يَحسِب له مدافعو الفريق الخصم – المحليُّون والدوليُّون منهم – ألف حساب (على الرغم من أنه كان كذلك بالطبع والتأكيد)، بل بالأحرى كان ذلك الانطباع، وسيبقى، واحداً يتعلق بـ “وَدْ الحارة” العمانيَّة القديمة: أصيلاً، وبسيطاً، وعاديَّاً، وعفويَّاً، وفقيراً، ومليئاً بالطاقات والقدرات الكامنة التي قد يخطئها من لا يتفرَّس فيها فراسة خاصة. لقد كان غلام خميس بلا شك أحد الذين عناهم الشاعر العربي القديم بقوله: «ترى الرجل النحيل فتزدريه/ وفي أثوابه أسدٌ مَزيْرُ/ ويُعجِبُك الطرير فتبتليه/ فيخلف ظنَّك الرجل الطريرُ». وكم أتمنى أن لا نفقد “أولاد حارة” آخرين في زمن تختفي فيه الحارة، ويختفي فيه أولادها».
يقترح عبدالله حبيب إطلاق لقب (رياضي الشعب) كتخليد أخير وإنصاف متأخر لعله يخفف من ألم موته الذي رفع «شارة حمراء ضد الجحود، والنكران، والتبرؤ، وجزاء سنّمار». ومرة أخرى يمزج عبدالله حبيب لغته بمصطلحات أهل الصنعة، في موقف لا يمكن للكلام إلا أن يكون بلغة كرة القدم التي أفنى غلام خميس حياته لأجلها، ولكنها لم تنِله شيئا، كجزاء على مجيئه في زمن لم يكن لأمثاله.
وهو ما أثبته مازن حبيب في نصه «ضربة جزاء غير مستحقة» بقوله: «بطلاً مبكراً، جئتَ، في زمن تأخّر عنه الأبطال كثيراً، فعانيتَ وحيداً، وما تركتَ لهم شيئاً ليُقتسمَ من بعدكَ». ومثل عبدالله حبيب ذهب مازن حبيب المذهب نفسه في استخدام القاموس الكروي بدءا من العنوان «ضربة جزاء غير مستحقة»، وليس انتهاء بنحت كلمة «هَرْدلَكَة» من الكلمة المواسية بعد كل هزيمة في عالم الرياضة (هارد لك)، التي كثيرا ما سمعها غلام خميس في مشواره الكروي. يقول مازن حبيب: «كيف سمحنا لأنفسنا بممارسة دور المتفرّج في سلبيتنا في التعامل مع قضيتك، وأنتَ الذي مثلتنا ومثلتَ، في عدة محافل، وطنيتنا الكريمة؟ لعلنا أردنا بهذه الفرجة «هَرْدلَكَة» حياتك، وحصرها في قول مفاده إن حظاً عاثراً متسقاً طوال السنين ظل متربصاً بك (كما يقتصّ من الآخرين باستمرار في هذه الحياة)، وبالتالي لم يكن بالمقدور مجابهة المُقدّر، فـ«هَارد لَكْ»، يا كابتن»!. هكذا مجددا، تمنح الكرة قدرتها على ابتكار اللغة، وتخلق انزياحاتها المتمددة نحو مساحات لم تكن لتوجد لولا حساسية الأديب.
وكعبدالله حبيب أيضا يكشف مازن عن اهتمامه القديم بكرة القدم وبغلام خميس على نحو خاص، إذ يسرد: «إن ما أردتُ قوله لكَ، يا كابتن، هو أن ذلك الطفل الذي قيّد على جهاز الفيديو لحظات مباراة النصر الأول، وظلّ مراراً يسترجعها، ويعيد لقطة تسجيلكَ الهدف الثاني تحديداً، ما زال، اليوم، يستشعر في داخله عذريّة الفوز الأول ونشوته وكبرياءه المحنَّط في صميم الروح. ذلك الصَّبي الرّابض في القلب (وغير الرّياضي، أساساً) يبعث لكَ تحيّة إكبار خجلة، ورسالة امتنان بحجم الأمل الذي بعثتَ في أعماقه، وكلمة شكر لتلكَ اللحظة الخالدة التي لا يمكن لأحد أن يسلبها من ذاكرته.. ذلك الصبي لا يملك إلا أن يخجل من معاناتكَ، ولا تسعفه سوى كلمات مرتبكة لاعتذار تأخّر، في حقّكَ كثيراً.. عن كلِّ ما حدث لكَ، وكلِّ ما لم نفعله من أجلك».
أما في نصَّي حميد البلوشي وناصر صالح، فيلفتنا العنوانان اللذان اختاراهما لنصيهما؛ ففي حين يكتب ناصر صالح (غلام الوطن)، يكتب حميد البلوشي (لم تكن غلاما). مدخلان يتخذان من الاسم الذي أصبح أيقونةً بوابةً ومدخلا، وإن بدا أنهما يتناقضان. ولكن النصين يتفقان في الإقرار بما أقر به سابقاهما عبدالله حبيب ومازن حبيب بمظلومية غلام خميس الذي أنقذه الموت من مصير قد يودي إلى بتر ساقيه. لقد كان الموت رفيقا به وبذاكرتنا مع ساقيه اللتين ما تخاذلتا عن ميدان الملعب، من دون أن يخطر في باله أننا جميعا سنتخاذل عن فعل شيء حيال وضعه أكثر من كلمات تقال في الوقت الضائع.
أما النص الخامس فهو قصة «غلام لوحة متخيلة» لمحمود الرحبي ضمن مجموعته «لم يكن ضحكا وحسب»، الذي اختار فيها تخييل شخصية اللاعب غلام خميس ووالده الحاج خميس في رحلة اكتشافه الأولى. وهنا تعود من جديد في هذه القصة صورة الأب/ عدو الكرة الذي ما كان ليقبل بانضمام ابنه إلى صفوف المنتخب الوطني قبل أن يأخذ ضمانا بأن الاتحاد سيوظفه ويقبض راتبه في نهاية كل شهر، من دون أن يدري أن الوظيفة التي حظي بها ابنه كانت مجرد «طباخ للشاي والقهوة، ومراسل في أحسن الأحوال». تراجيديا لا تشبه صورة الجندي في ساحة الملعب. وليس مهمًّا السؤال: كم اختلفت اللوحة المتخيَّلة عن الحقيقة، وكم تشابهت؟ إذ لم يعد الأمرُ سرا!
تضعنا النصوص الخمسة على اختلافها من حيث اللغة والجنس الأدبي، أمام نقاط اتفاق على مظلومية أهم لاعب مرّ على تاريخ كرة القدم العمانية، بيد أنه رحل من دون أن يحظى بما يستحقه منها، ومن دون مباراة اعتزال تليق بما قدمه في خدمة المنتخب. هل كان باستطاعة الأديب أكثر من ذلك؟ ليس على الأديب أكثر من شرف الاعتراف: الاعتراف بفضل اللاعب الذي وجدنا الأديب يقف أمامه بتواضع، وشرف الاعتراف بالتقصير الجمعي والمؤسسي في حق ما أطلق عليه عبدالله حبيب (الحالة الوطنية/ غلام خميس) في موقف لا نستطيع إلا أن نقول فيه (هارد لك) لنا جميعا بهزيمتنا الإنسانية أمام انتصار غلام خميس في رحلته الأخيرة إلى معسكره الختامي وبطولته الأخروية.
صافرة نهاية المباراة
ما لم يصرّح به المدرب في نهاية المباراة:
قد تنتهي المباراة، ولكن اللعبة مستمرة. شأنها شأن النصوص الأدبية التي تأبى أن تنتهي، ولكننا نضطر إلى تركها؛ فالنصوص كما قيل (تُترك ولا تنتهي).
قد لا تكون الأعمال المختارة لهذه القراءة هي النصوص الوحيدة التي شُغلت بكرة القدم في الأدب العماني (والسردي منه تحديدا)، ولكنها الأبرز على اختلاف دوافع كتابتها. وكما يقول مدربو كرة القدم في نهاية كل مباراة: «في المباريات القادمة سنقدم أفضل ما لدينا». وبدورنا نقول هنا: إن الزمن القادم قد يحمل نصوصا أوفر لكتّاب وكاتبات عمانيين يتخذون من كرة القدم موضوعا رئيسا لنصوصهم، ولا بأس من انتظار اللعب في الأشواط الإضافية من الزمن لتحقيق ما يمكن أن نسميه (الأدب الكروي في عمان)، كنتيجة حتمية لانتعاش كرة القدم العمانية في المستطيل الأخضر أولا كما نطمح على الدوام ونرجو. أليست كرة القدم الأرجنتينية سابقة لميلاد الأدب الكروي في الأرجنتين؟
***
* قراءة ألقيت ضمن ندوة نظمتها مؤسسة بيت الزبير افتراضيا في 27 يناير 2021 بعنوان «مارادونا، الأدب وكرة القدم»، وتنشر في مجلة قنّاص لأول مرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) نص “الحقيبة” ليحيى سلام ضمن مجموعته القصصية “رماد اللوحة”، بيت الغشام، مسقط، ط2، 2014، ص30
(2) نص “للمهزومين تاريخهم” لناصر صالح ضمن مجموعته القصصية “دروب”، ص381، ويورد ذكرا لكرة القدم في قصتيه “ليلة واحدة”، و”أين أذهب” في المجموعة نفسها، الصادرة عن دار سؤال، بيروت، 2015.
(3) انظر على سبيل المثال نص “الصور أقرب مما تبدو” لهدى حمد في كتابها “تأمل الذئب خارج غرفة المكياج”، دار الانتشار، بيروت، 2020، ص27
(4) مثال: انظر قصة “مساء صاخب” ليحيى سلام ضمن مجموعته القصصية “رماد اللوحة”، مرجع سابق، ص 38
(5) مثال: انظر قصة “مراكب مبحرة” لسعود البلوشي ضمن مجموعته القصصية “أصوات البحر” الصادرة عن بيت الغشام، 2017.
(6) قصة “الكابتن حمدان” لمازن حبيب ضمن مجموعته القصصية “الذاكرة ممتلئة تقريبا”، إصدارات وزارة التراث والثقافة، 2006، ص31
(7) القصة الفائزة بالمركز الأول في الملتقى الأدبي والفني الثاني والعشرين الذي أقيم في ولاية البريمي من ٢٠ وحتّى ٢٢ نوفمبر ٢٠١٦. ونشرته جريدة الوطن بتاريخ 27 نوفمبر 2016
(8) قصة “الأم” لبشاير حبراس صدرت ضمن مجموعتها القصصية “شبابيك زيانة”، كتاب نزوى، العدد 101، يناير 2020، ص13
(9) كتبه سليمان المعمري في التاسع والعشرين من يناير 2009 في اليوم التالي من مباراة المنتخب الوطني أمام الكويت التي أقيمت في الكويت ضمن التصفيات المؤهلة لنهائيات كأس آسيا في العام نفسه، وفاز فيها المنتخب العماني على المنتخب الكويتي.
(10) نص “الركلة” لمحمد سيف ضمن مجموعته القصصية “الصفرد يعود غريبا”، إصدارات النادي الثقافي، مسقط، 2012، ص15
(11) صدر مؤخرا كتاب آخر يوثق سيرة لاعب نادي الخابورة محمد بن علي القطيطي بعنوان “الركاض: حكاية كرة القدم في الخابورة”، من إصدارات مطبعة الخابورة الحديثة، عُمان، 2020
(12) نشرها محمود الرحبي في جريدة عمان بتاريخ 19 ديسمبر 2016، قبل أن تضمها مجموعته القصصية “لم يكن ضحكا فحسب” الصادرة عن دار فضاءات الأردنية في عام 2017
(13) نشرته جريدة الوطن في ملحق أشرعة بتاريخ 3 ديسمبر 2008
(14) شبابيك زيانة، مرجع سابق، ص 13
(15) نص “الفتاة التي عشقت كرة القدم” لمنى بنت حبراس السليمية، نشر في مجلة أوائل الرقمية في 20 أغسطس 2018
(16) محمد الحراصي: ذاكرة الأسئلة، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2021
(17) المرجع نفسه، ص12
(18) المرجع نفسه، ص13
(19) زاهر السالمي: حُراً راكضا بالكرة، مجلة قناص الإلكترونية؛ 21 يونيو 2022
يفرض الحديث عن حضور كرة القدم في النصوص السردية العُمانية طرح مجموعة من التساؤلات – دون أن نزعم مبدئيا قدرتنا على الإجابة عنها في هذه السانحة، ولكنها أسئلة تضع خارطة طريق للباحث في هذا الموضوع بغية التوسع فيه مستقبلا – تأتي في مقدمتها: هل شكَّلت كرة القدم حضورا لافتا في النصوص السردية العمانية موضوعا أو تقنية ما يجعلها ظاهرة جديرة بالسؤال والبحث؟ وإذا كان كذلك، متى بدأ اهتمام السرد العماني بها؟ وهو سؤال يبحث في تاريخ هذا الحضور، ويفترض من ثم، البحث في أوائل النصوص التي اتخذت من كرة القدم موضوعا لها، وما الدافع المحرك لكتابة (نص كرة القدم) إن جاز القول؟ أهو دافع ذاتي تحتمه ذاكرة المؤلف، ومن ثم فهو كاتب يستعيد تجربته الشخصية مع كرة القدم نجاحا أو فشلا؟ أم أنه دافع تخييلي صرف تتخلق شخوصه وأحداثه بفعل التخييل المحض؟ أم أنه دافع خارجي أثارته أحداث كروية واقعية حفزت الكتابة عن كرة القدم ولاعبيها؟
أما السؤال الأهم فهو: كيف تجلّى حضور كرة القدم في هذا الأدب: أكان حضورا عابرا يقتنص مشهدا خلفيا لأحداث أهم منه تتقدم الواجهة، أم أنه حضور يجعل من كرة القدم حدثا رئيسا له؟ وفي الحالة الأخيرة: ما هي وجهة النظر التي يتبناها السارد في النصوص التي اتخذت من كرة القدم موضوعها: أكانت مناصِرة لها أم حاطةً من قدر اللعبة ومن يلعبها؟ وسنسأل عن شخصية اللاعب في النص السردي: أكانت شخصيته ناظِرة تعبر عن نفسها وعن العالم من حولها، أم أنها شخصية منظور إليها، ويتم التعبير عنها بوسيط خارجي ينظر إليها من دون أن يتمكن من الكشف عن بواطنها؟
وسيبرز لدينا سؤال مهم آخر: ما مدى حضور المرأة كاتبةً أو لاعبةً في النصوص السردية العمانية التي حفلت بموضوع كرة القدم؟ وهل اتخذت الكاتبةُ شخصيتَها الرئيسة امرأة في لعبة كرة القدم (إن وجدت)، أو أنها انساقت مع السائد الذي يكرّس كرة القدم لعبة ذكورية؟ أما السؤال الأخير: فإلى أي مدى اعتمدت الكتابةُ عن كرة القدم أسلوبَ اللعبة نفسها في السرد: أكانت اللغة المستخدمة لغة تتبنى إيقاع اللعبة وتكتيكاتها داخل المستطيل الأخضر، موظفة قاموسها اللغوي من مصطلحات وإيحاءات؟ وهل يمتح الزمن قوامه من زمن اللعبة المعروف بشوطيه وفاصلته الزمنية وأشواطه الإضافية في توزيع أحداثه؟ وهل كان المكان الذي تدور فيه الأحداث ساحةَ المستطيل الأخضر وما ارتبط به من مبان رياضية وأندية، أو تعدتها إلى أماكن أخرى تمتد إلى الحياة العامة وتتغلغل في حياة شخوصها الرياضيين في ممارستهم لحياتهم الاعتيادية؟
الإجابة عن الأسئلة أعلاه لا تستلزم قراءة مسحية أفقية وحسب للنصوص السردية العُمانية، ولكنها تستلزم كذلك وفرة تفترض وجود (النص الكروي) ظاهرةً سردية في عُمان، الأمر الذي سيتيح أفقا أوسع للأسئلة السالفة، وهو ما سنرجئه مضطرين إلى خانة المستقبل، على أمل أن تتمدد حالة الكتابة عن كرة القدم في عمان لتخولنا الإجابة عن كل هذه التساؤلات.
خطة اللعب: ثلاثة .. اثنان .. خمسة
خطة لعب غريبة، ولكنها جائزة. أليس ما لا يجوز في المستطيل الأخضر يجوز في الأدب؟ فإذن، سأعتمد في هذه القراءة خطة لعب (3، 2، 5) بناء على عدد النصوص التي سأتناولها في كل محور كما سيأتي. وقبل ذلك سأعمد إلى تصنيف حضور كرة القدم في الأدب العماني (والسردي تحديدا) من خلال النماذج الذي سأتطرق إليها إلى أربعة أشكال: أولها حضور عابر لا يتعدى إشارات سريعة لا تُحدث أثرا في النص أو في حدثه الرئيس، مثل أن يتذكّر البطل هدية والده التي كانت عبارة عن كرة قدم إثر نجاحه في المدرسة1، أو مشهد لفِتية يلعبون كرة القدم على الشاطئ2 أو في الملاعب المؤقتة التي تنشط في مساءات رمضان3، وقد يتسلل الحديث عن كرة القدم في بعض الحوارات أحيانا4 من دون أن يكون وروده ذا قيمة فنية أو معنوية باستثناء ما قد نعدّه سياقا عاما تشكل كرة القدم فيه حديثا يوميا اعتياديا، أو لعبة أثيرة يمارسها الصبية في الحارات5 في مشهد مألوف وجد طريقه إلى النص السردي ليؤثث خلفية الحياة النصيّة. غير أن هذا الشكل من أشكال الحضور ليس ما نبحثه هنا، لأنه لا يخلق حالة يمكن البناء عليها أو تتبع أثرها فنيا وموضوعيا.
أما الشكل الثاني فهو اشتغال النص بكُليَّته بموضوع كرة القدم جاعلا منه لحمته وسداه. وسنتوقف في هذا السياق عند ثلاثة نصوص قصصية، هي: قصة «الكابتن حمدان»6 لمازن حبيب، وقصة «حمود كارلوس»7 لنوف السعيدي، وقصة قصيرة جدا لبشاير حبراس بعنوان «الأم»8.
والشكل الثالث يمكن أن نسميه النصوص المزامِنة، وهي النصوص التي استلهمت حدثا كرويا معينا في بناء عالمها السردي، وهنا نستحضر نصين مهمّين هما: «أن تمشي وراء حسن ربيع»9 لسليمان المعمري، وقصة «الركلة»10 لمحمد سيف الرحبي.
أما الشكل الرابع والأخير، فهي النصوص الأدبية التي شُغلت بشخصية لاعب بعينه، وهو هنا أيقونة الكرة العمانية غلام خميس الذي رحل عن دنيانا في العاشر من نوفمبر 2008م. ويُعد غلام خميس مارادونا عُمان ولكن من غير تتويج؛ فهو أكثر لاعب عماني شُغلت به الأقلام الأدبية مقارنة بمارادونا في الأدب العالمي. وسنعتني بشكل أساس بخمسة نصوص أدبية هي: «انتصار في الزمن الضائع» لعبدالله حبيب، و«غلام الوطن» لناصر صالح، و«لم تكن غلاما» لحميد البلوشي، وهي نصوص نشرتها جريدة الزمن بتاريخ 18 نوفمبر 2008م قبل أن يجمعها – وسواها – الكاتب والرياضي سالم ربيع الغيلاني في كتاب تأبيني للأيقونة الكروية العمانية غلام خميس11. ونضيف إلى هذه النصوص قصة «غلام لوحة متخيلة»12 لمحمود الرحبي، ونص «ضربة جزاء غير مستحقة»13 لمازن حبيب.
الشوط الأول: أزمة مكان، وحرب آباء على الأبناء
تطرح قصة «الكابتن حمدان» لمازن حبيب إشكالية المكان في كرة القدم، إذ لا كرة قدم بدون ملعب. وملعب وسط الحارة في قصة مازن حبيب مهدد على الدوام؛ التهمته أول مرة جرافات تاجر الذهب ومحا أثره وذكريات بطولات الأولاد فيه، ليقيم مكانه قصره الكبير الذي يعلو على بيوت الجميع، غير آبهٍ بفتيةٍ لم ينشغلوا بغير كرة القدم. وحتى اختيارهم المكان البديل لإقامة الملعب لم يكن بمنأى عن التهديد هو الآخر، ولكنه تهديد من نوع مختلف، فالأرض التي أقيم عليها الملعب الجديد لم تكن سوى وادٍ. يقول السارد: «لم يكن لنا حل غير الوادي. الوادي الغربي كان واديا غير ذي زرع، ولم يكن للكرة، فمن لعب على أرض مستوية لا يستطيع أن يلعب على رمل الوادي العميق. لا يمكنك تسديد الكرة بقوة على رمل مرتفع. لا يمكنك الجري ورئتاك تضيقان من اصطدام تيار الهواء بصدرك. لا تستطيع المناورة بسلاسة على تلك الرمال العصية والتي كانت عقرا للأوساخ، وزجاجات السكارى المتكسرة وغير المتكسرة على حد سواء». وعلى الرغم من كل عيوب الملعب الجديد، حاربهم عليه برهوم ابن حارة السيح، لاعب فريق الخصم.
يقول السارد في قصة «الكابتن حمدان» لمازن حبيب: «كان آباؤنا يعملون في مناطق بعيدة جدا، وفي دول أخرى أحيانا، وقلّما يعودون إلا ليوم أو يومين. لماذا لم ننتقل إلى المدن البعيدة معهم؟ لماذا كانت المدن الشائقة التي يعبرونها خطيرة علينا؟ وما الذي يجعلنا نتمسك بمكان لا يمثل مصدر رزق؟ لا أدري، لكن ذلك هيأ لنا عالما استثنائيا، ووهب لنا حب الكرة بحُريّة لم تُمنح لغيرنا. لم يكن كل شيء على ما يرام، لكن أشياء كثيرة كانت على ما يرام. كنا راضين».
كرة القدم في قصة «الكابتن حمدان»، مشروع حياة، والمشاريع تحتاج أرضا تنهض عليها، فكان كفاح الفتية المستميت من أجل الحق في مستطيل أغبر لبناء مشروع طويل من البطولات والمباريات في ظل غياب عدو كرة القدم الأول: الآباء.
يقول السارد: «كان آباؤنا يعملون في مناطق بعيدة جدا، وفي دول أخرى أحيانا، وقلّما يعودون إلا ليوم أو يومين. لماذا لم ننتقل إلى المدن البعيدة معهم؟ لماذا كانت المدن الشائقة التي يعبرونها خطيرة علينا؟ وما الذي يجعلنا نتمسك بمكان لا يمثل مصدر رزق؟ لا أدري، لكن ذلك هيأ لنا عالما استثنائيا، ووهب لنا حب الكرة بحُريّة لم تُمنح لغيرنا. لم يكن كل شيء على ما يرام، لكن أشياء كثيرة كانت على ما يرام. كنا راضين».
هذا العدو لكرة القدم في قصة «الكابتن حمدان» المتمثل في الآباء، يتكرر في قصة نوف السعيدي «حمود كارلوس» التي تمتح عنوانها واسم بطلها من اسم اللاعب البرازيلي روبرتو كارلوس. يعاني حمود كارلوس اضطهاد أبيه الذي يريد له أن يدرس ولا شيء آخر. ومن ذا يلوم أبا يريد مستقبلا لابنه؟ ولكن الابن يرى مستقبله في كرة القدم وحدها. بيد أن أزمة المكان تعود من جديد في قصة نوف أيضا، ولكن بطريقة عكسية؛ فالآباء الذين يعملون في المناطق البعيدة وفي دول مجاورة في قصة الكابتن حمدان، موجودون في الديار في قصة نوف التي اختارت لها منطقة حدودية (ولاية محضة)، غير أن الحلم هو الذي يسكن في الدولة المجاورة، ولا يفصله عنه غير جبل ينهض بين قريته وضفة الأحلام والوعد بالانضمام إلى نادي العين، ولكن هذا الحلم يتحطم أمام صخرة شرط الأب بأن يحصل ابنه حمود كارلوس على أحد المراكز العشرة الأولى في المدرسة أولا إذا ما أراد الالتحاق بالنادي وراء الجبل.
تتمثل رمزية قصة «الكابتن حمدان» في بنائها السردي الذي يشبه سرد معلّق رياضي يستعيد من أرشيف الذكريات مباراة قديمة ما هي في حقيقتها إلا حياة الكابتن حمدان أمام مُشاهِدٍ لم يشهد، جاء من حارة أخرى ولم يكن من الحارة نفسها، وحضر في المشهد الأخير ليقطف الكأس التي كانت من حق الكابتن حمدان: حبيبته منى. ويُسدل الستار على مباراة تراجيدية خسر فيها حمدان البطولة بعدما خسرها على الأرض، عندما خرج من الملعب مصابا بإصابات خطيرة أبعدته عن ملعب حلمه إلى الأبد.
وفي قصة نوف السعيدي، تتمثل الرمزية في عمود الكهرباء المنتصب داخل محيط سور بيت حمود كارلوس/ العمود العقاب، الذي رُبط فيه من قبل لفشله الدراسي، وسيربط فيه مجددا لفشله الجديد الذي سيحرمه من حلمه خلف الجبل. لم يكن حمود كارلوس بحاجة لأكثر من بطاقة بيضاء من أبيه تسمح له بعبور الحدود للالتحاق بنادي الأحلام، بل إن حتى البطاقة الحمراء كانت كفيلة بفعل ذلك، ولكن عمود الكهرباء ظل وحيدا في مرمى بصره بينما يرتقي الجبل بعد نتيجته الأخيرة، ناظرا إلى حيث يظن أنه بيت أبيه في الأسفل، حائرا أي اتجاه يسلك، فلا هو بمستطيع العودة إلى حيث سيُربط في عمود الكهرباء، ولا هو يملك بطاقة الإذن من عدو كرة القدم فيذهب إلى حلمه، فاختار أن يرتقي الجبل بلا نية حاضرة للنزول إلى أي الجهتين، حتى تماهى مع الطيور التي حلّقت في السماء في الاتجاه الآخر من الجبل.
في قصة نوف السعيدي يستوقفنا بنحو خاص أنها كُتبت بقلم فتاة، وهو أمر نادر وأكثر إثارة للاهتمام، فإلى جانب الموضوع – الذي لطالما عُدّ ذكوريا – تكشف تفاصيل القصة إلماما بعالم كرة القدم بدون استعراض مجاني، بيد أنها اختارت لقصتها بطلا ذكرا، ولذلك ما يسوّغه بالنظر إلى زمكانية القصة.
قصة «الأم» لبشاير حبراس: «في الملجأ لا توجد سوى أم واحدة، كل من في الخيام يناديها أمي، حين ننقسم إلى فريقين لنلعب كرة القدم في الباحة مع باقي الأولاد، نتعادل دائما. كانت تدعو الله ألا يخسر أحد».
وعلى الجانب الآخر من الآباء/ أعداء اللعبة، تحضر الأم في القصة القصيرة جدا لبشاير حبراس التي تحمل عنوان «الأم». تقول القصة: «في الملجأ لا توجد سوى أم واحدة، كل من في الخيام يناديها أمي، حين ننقسم إلى فريقين لنلعب كرة القدم في الباحة مع باقي الأولاد، نتعادل دائما. كانت تدعو الله ألا يخسر أحد»14.
غاب الآباء/ الأعداء عن قصة بشاير، فوجد الأولاد فسحة للعب، كما وجدوا المكان/ شرط اللعبة، وهو الباحة. في الملجأ – على الرغم من قصر النص – لا يبدو أن ثمة شكلا من أشكال الحياة إلا في هذه الممارسة، وهي لعبة كرة القدم التي تعادل الحياة، فأية حياة يمكن أن تكون في الملجأ؟ ولكنها تبقى لعبة ناقصة؛ لأنها بلا خسارة، وبطبيعة الحال بلا فوز، فالأم تلعب دورا رئيسا في تحديد مصير اللعبة بدعائها ألا يخسر أحد. خسر حمدان بطولته بإصابته الخطيرة، وخسرها حمود كارلوس أيضا بارتقائه غير النهائي إلى أعلى الجبل، وتعادل أولاد الملجأ بدعاء الأم.
تخص بشاير الأولاد باللعبة دون البنات، مع أن ملجأً لا يمكنه أن يخلو من البنات والأولاد على حد سواء. فأين ذهبت البنات أثناء ما كان الأولاد يلعبون؟ هل كانت البنات جمهورَ المشجعين؟ ما الذي يمنع بنات الملجأ من المشاركة في اللعبة، أو أن تكون لهن مباراتُهن الخاصة من فريقين من البنات إذا لم يكن فريقُ بنات مقابلا لفريق أولاد؟ هنا نعيد السؤال عن شخصية اللاعب في نص الكاتبة الأنثى من جديد، لنجدها شخصية ذكورية تلعب كرة القدم من دون الأنثى، التي بقيت في أحسن الأحوال بين مجاميع المشجعين.
ألم تناوش الكاتبة الأنثى (كرة القدم للفتيات)؟ سؤال نرجئه لأعمال سردية قد تُكتب في المستقبل، ولكن أستحضر على عجل دون خوض في التفاصيل نص “الفتاة التي عشقت كرة القدم” الذي ودَّت كاتبته لو لم تكن صاحبته حتى تستطيع مقاربته بتجرد هنا15.
صافرة نهاية الشوط الأول
بين الشوطين: تبديلات مدرب افتراضي
سنفترض أن مدربا مبتدئا لفريق قصة «الغريب والغروب» – للقاص محمد الحراصي المنشورة ضمن مجموعته القصصية «ذاكرة الأسئلة»16 – قد أدرك ضرورة إنقاذ ما يمكن إنقاذه وعدم تسليم المباراة للفريق الخصم، فاتخذ قرارا فوريا بتغيير الحارس بين الشوطين بسبب شرود ذهنه ومراقبته المستمرة لأعلى التلة الصخرية المطلة على الملعب جهة الغروب، حيث تعوّد أن يجلس منصور القرشي مقتعدا كرسيه القماشي يتابع المباراة ويتأمل الغروب في آن، ولكنه غاب في ذلك اليوم على غير عادته منذ جاء إلى القرية قبل شهرين، فشرد ذهن الحارس يفكر في غيابه المفاجئ حتى أمطر الخصمُ شباكه بسيل من الأهداف.
نقول: لو كان المدرب مبتدئا فضلا عن كونه فطنا، كان سيغيّر الحارس على الفور إن لم يكن بين الشوطين، ولكن المدربين لا وجود لهم في ملاعب القرى والحارات؛ لذلك يبقى الحراس واللاعبون في مواقعهم حتى نهاية المباراة. ولأن الحكّام لا وجود لهم أيضا، تكون المباريات عادة بشوط واحد طويل لا ينتهي إلا إذا تعب اللاعبون أو غضب صاحب الكرة فيقرر أخذ كرته معلنا نهاية المباراة. تُنفّذ ركلة الخطأ (الفاول) في مباريات ملاعب القرى والحارات فقط لأن أحد اللاعبين أقسم بأن فلانا لمس الكرة، ولا تنفّذ ضربة الجزاء إلا إذا سالت دماء أحدهم جراء إصابة وحسب، حينها يصبح الدليل غير قابل للتجاوز على عرقلة تستحق ركلة من داخل منطقة الجزاء. يتطور الأمر ويصبح أقرب إلى مباراة حقيقية متى اقتربت بنية الملعب التحتية من صورة الاكتمال، وما عدا ذلك فلا شيء أكثر أهمية من متعة اللعبة نفسها.
في قصة محمد الحراصي «الغريب والغروب» ينهض الملعب كقيمة مكانية تقابل السبلة أو مجلس القرية الذي يجتمع فيه الآباء وكبار السن بينما الشباب في القرية – كما يقول السارد – «لهم مكان مختلف يجمعهم وقت العصر؛ إنه ملعب القرية .. نعم، إن كرة القدم اليوم أصبحت تقوم مقام (السبلة) التي كانت تجمع رجال قريتنا قديما».
في قصة محمد الحراصي، ينهض الملعب كقيمة مكانية تقابل السبلة أو مجلس القرية الذي يجتمع فيه الآباء وكبار السن لمناقشة أخبار القرية وشؤونها وتبادل آخر الإشاعات؛ لأن حياة القرى – كما يقول السارد – يكثر فيها وقت الفراغ و«الناس يبحثون عن أتفه الأشياء لينسجوا حولها الإشاعات»17، بينما الشباب في القرية «لهم مكان مختلف يجمعهم وقت العصر؛ إنه ملعب القرية .. نعم، إن كرة القدم اليوم أصبحت تقوم مقام (السبلة) التي كانت تجمع رجال قريتنا قديما»18.
لا يقارن الحراصي بين مكانين من حيث المرحلة العمرية التي يجتذبها كل منهما وحسب: السبلة للكبار والملعب للشباب، بل يقيم مفاضلة ضمنية ترجّح كفة الملعب على المجلس/ السبلة التي غدت مكانا للنميمة وبث الشائعات. ويعزز هذه المفاضلة بالإشارة الزمنية إلى انقضاء زمن السبلة: “كانت تجمع رجال قريتنا قديما”، وإلى راهنية الملعب: «نعم، إن كرة القدم اليوم تقوم مقام (السبلة)». وهكذا يرتقي الملعب في نص الحراصي من مكان موازٍ يجمع الشباب، إلى مكان يقوم مقام السبلة ويسد غيابها الراهن عن أداء دورها الذي كانت تؤديه سابقا.
أما زاهر السالمي في نص مقتطع من نص أطول منه ونشره في مجلة قناص الإلكترونية بعنوان «حُراً راكضاً بالكرة»19، فيتحدث عن تدرج علاقته بكرة القدم ومراحل شغفه بها، ساردا تلك المراحل بدءا من الطفولة التي ما كان يربطه فيها شغف بكرة القدم، إذ يقول: «حتى السادسة من عمري لم أستمتع بها، ولم أفهم لماذا الكل يحبها، وإن لم يكن الكل، فمعظم الذين عرفتهم تُمثل لهم شغفا ما، وإن اختلفت حدته». ولكن ذلك لم يكن ليمنعه من مشاهدة مباراة نادي «فنجا» الرياضي أمام نادي «المحرق» البحريني في كأس الأندية الخليجية في عام 1989، والصراخ فرحا بتسجيل نادي فنجا هدف الفوز بالبطولة. وقبلها مشاهدته لمباراة نهائي كأس العالم بين الأرجنتين وهولندا في عام 1978م، ومشاهدته أعمامه وهم يلعبون كرة القدم في حوش البيت الكبير ثم في ملعب قرية الظاهر، ولاحقا في ملعب روي، والولجة. ولكنه عرف التعلق الحقيقي بالكرة والشغف بها في تنزانيا، يقول: «في تنزانيا بدأ شغفي الحقيقي وتعلقي، رغم أن الكرة ليست أصلية، مصنوعة يدويا من الأكياس ومطاط الإطارات». فما الذي تغير في تلك المرحلة التي حملته على عشق كرة القدم على الرغم من الصورة البدائية التي كانت عليها الكرة؟ يجيب: «هنا جربتَ متعة أن تراوغ أكثر من لاعب والكرة بين قدميك. التصفيق والتهليل من الرفاق ومن الجمهور القليل لحركة مراوغة كان جزءا من المتعة التي بدأنا نكتشفها».
ما يثبته السالمي في حديث الذاكرة هذا عن كرة القدم، أنها ليست محض نتائج وأهداف، وإنما يكمن شغفها في متعة لعبها وتفاصيله، في مهارات اللاعب ومراوغاته، في تفاعل الجمهور واللاعبين على حد سواء. تُعشق كرة القدم لمتعة لعبها وليس لحلاوة الفوز بها أو تكبيد الخصم مرارة خسارتها. إنها في اللحظة التي اكتشف فيها متعة اللعب لذاته، ففَهِم أي حديث ترسله الأقدام إلى المستديرة يستبقيها وقتا أطول يراوغ بها اللاعبين، هناك فقط عرفت الكرة الطريق إلى قلبه.
الشوط الثاني: اللعب من عمق الملعب
في الشوط الثاني نستحضر نصين يستلهمان حدثا واقعيا: هما قصة «الركلة» لمحمد سيف الرحبي، ونص «أن تمشي وراء حسن ربيع» لسليمان المعمري:
يهدي محمد سيف الرحبي قصته «الركلة» في مجموعته «الصفرد يعود غريبا»10 للاعب المنتخب الوطني محمد ربيع بعبارة أسفل العنوان تقول: «إلى محمد ربيع.. شعب وأصدقاء كانوا يدعون لك وأنت تركل الكرة تجاه الشباك». وإذا كانت العتبة الأولى، العنوان، تحيل إلى الموضوع الكروي للنص المزمع قراءته، فإن الإهداء يعيد القارئ إلى اللحظة التاريخية التي أعادت كتابة تاريخ كرة القدم العمانية، إلى ركلة محمد ربيع في نهائي خليجي 19 أمام المنتخب السعودي في السابع عشر من يناير من عام 2009، بعد دورتين كان فيهما المنتخب على وشك التتويج بالبطولة بوصوله إلى المباراة النهائية في ثلاث دورات متتالية: في دورة خليجي 17 في قطر في عام 2004، ودورة خليجي 18 في الإمارات في عام 2007، ونالها في المرة الثالثة على أرضه وبين جمهوره في خليجي 19 في عام 2009م.
يصف السارد في هذا النص بطل القصة سعيد وهو يتابع ركلات الترجيح الحاسمة أمام المنتخب السعودي. مشهد عاشه العمانيون بعيونهم وقلوبهم. ولكن شخصية ميمونة في هذه القصة التي يفتتح بها محمد سيف نصه كانت بعيدة عن فهم ما يجري: «ميمونة التي نسيت القهوة تفوح» فوق الطباخة لم تنتبه إلى أنه دفع المخدة الثقيلة على «الزولية» العتيقة مسافة فاضت عنها، رأته يطلق كلمات وسط منطقة بين الوضوح والهذيان، التلفاز فاغر فاه مثله تماما، سمعته يكرر إنها الركلة الأخيرة وفيها حياة أو موت يعقبه بكلام أشبه بالغمغمة، لم تسأله حياة من أو موت ماذا، عادت إلى قهوتها، وقد استراحت، تسكبها في الدلة المعتادة على الانسكاب في الفناجين بكثرة منذ أسبوعين» (الصفرد يعود غريبا، ص 15).
تبدو ميمونة في النص في عالم آخر، عالم مختلف، لا تفهمه وعاجزة عن المشاركة فيه، وتكاد لا تفهم الضجيج في بيتها بسببه، ومستنكرة في الوقت نفسه مشاركة بناتها فيه. تقول: «سعيد صاني تعبت، حتى بناتك قامن يرقصن، عادن عرايس ومسويات بعمرهن كذاك؟! فضيحة، أها تكلم شوية!!» (الصفرد يعود غريبا، ص17).
الاقتباس أعلاه يقدم ملمحين: الأول فني يخص شخصية ميمونة كما يرسمها النص، والثاني اجتماعي يخص تفاعل البنت مع كرة القدم. أما ميمونة، فيبدو أنها الارتكاز الذي تنهض عليه القصة فتعطيها شرعيتها، ومن دونها لا تقدم القصة شيئا جديدا، بل مشهدا للتوتر عاشه العمانيون، وتكرر في معظم البيوت. ولكنها ميمونة في جهلها بما يدور حولها وأسبابه، أو حتى عدم اقتناعها بمبرراته، هي من صنعت المفارقة السردية، ولكن أية مفارقة هي؟
أن لا تكون لميمونة علاقة بكرة القدم فهذا مفهوم، ولكن أن تكون غائبة عن فهم أهمية الحدث الذي تكرر على مدى ثلاث دورات متتالية وصولا إلى البطولة التي أقيمت في عُمان على بعد مئات الكيلومترات (في أبعد الأحوال) عن بيتها، فهو ما ليس مفهوما!
شخصية المرأة البسيطة، ربة البيت، التي تعيش من أجل بيتها ومطبخها، ولا علاقة لها بكرة القدم، حقيقية وتكاد تكون نمطية في المجتمع. ولكنها في القصة بدت مبالغا فيها؛ فالجهل بالبطولة، أو أهميتها، على الرغم من مكان إقامتها في عُمان، حتى ما يكاد المرء يخرج من باب بيته إلا ويرى اللون الأحمر في كل مكان/ في الشوارع والبيوت، وفي اللحظة التي توشك أن تصنع تاريخا جديدا لكرة القدم في عُمان، نقول: إنها صورة غير مسوغة إلا للضرورة الدرامية.
ففي الوقت الذي يقل فيه حضور المرأة في عالم كرة القدم – وهذا طبيعي في مجتمع لا يعترف للمرأة بحق ممارسة اللعبة – يجري تجهيل المرأة بهذا العالم، لتظهر وكأنها من كوكب آخر عندما تدور أقدام اللاعبين على المستطيل الأخضر. وهذا يقودنا إلى الملمح الثاني في الاقتباس السابق: وهو أنَّهُ كثيرٌ على البنات حتى الفرح بنتائج مباريات كرة القدم، فضلا عن لعبها. تقول ميمونة: «عادن عرايس ومسويات بعمرهن كذاك؟! فضيحة»!. هكذا تثبّت القصة حُكم المجتمع على العلاقة بين المرأة وكرة القدم بأنّها جاهلةٌ بها، وفضيحة أن ترقص فرحا بنتائجها!
وبالانتقال إلى النص الثاني، وهو نص سليمان المعمري «أن تمشي وراء حسن ربيع»، نجد أن سليمان المعمري كذلك يستلهم حدثا كرويا في نصه الذي كتبه بعيد مباراة في الكويت جمعت بين المنتخب العماني ومنتخب الكويت في الكويت ضمن التصفيات المؤهلة لنهائيات كأس آسيا لعام 2009م.
من خلال العنوان «أن تمشي وراء حسن ربيع» تنكشف تراتبية ما؛ فالمشي ليس أمام حسن ربيع – نجم المنتخب العماني وهداف خليجي 19، والعائد لتوه من انتصار أحرز فيه هدف الفوز على الكويت – وليس بجواره كذلك، ولكنه وراءه. فمن الذي يمشي وراء حسن ربيع كما يشير العنوان؟ لم يكن سوى سليمان نفسه، وهو يسرد حادثة العودة عبر «الناقل الوطني» من الكويت إلى مسقط بعد ليلة من المباراة التي تزامنت في الآن نفسه مع أمسية سردية، شارك فيها المعمري مع الكاتبة بشرى خلفان، على مبعدة أمتار قليلة عن الملعب الذي أقيمت فيه المباراة.
يضع سليمان المعمري الرياضة والأدب في كفتي ميزان، يحاول بشتى الحيل السردية أن يجعله أفقيا، بدءا من التوقيت الذي ضرب موعدا واحدا لحدثين مختلفين رياضي وأدبي تفصل بينهما مكانيا أمتار قليلة، غير أن الجماهير زحفت إلى ملعب كرة القدم، في حين كان جمهور الحدث الأدبي قليلا «ولكن نوعي» كما يقول، في محاولة منه لتقليص الفارق معنويا. مرورا باستدعاء سؤال للإعلامي سالم العمري في ملحق شرفات الذي كان يصدر مع جريدة عمان: عن أيهما أكثر تأثيرا وإلهاما في عيون الشباب العُماني: علي الحبسي أم سيف الرحبي؟ ويقدم سليمان بمجرد تذكره السؤال مرافعته عن سيف الرحبي في مقابل علي الحبسي، في محاولة لإعادة الميزان إلى استوائه المستحيل. وليس انتهاء بتخيله فريقا رديفا للمنتخب الوطني مكونا من أدباء ومثقفين بارزين بما أن أفراد المنتخب الأول من جيل الكرة الذهبي. وصولا إلى الفرق المفجع بين استقبال لاعب كرة قدم واستقبال أديب على الرغم من أن كليهما كانا يمثلان الوطن. يقول سليمان: «كانوا في مهمة رياضية، ونحن في مهمة ثقافية .. وكلنا نبض واحد».
يصل سليمان المعمري في مقارنته إلى خلاصتها المريرة، وقد فشلت كل حيله السردية في تغييرها بجعل الأديب في كفة تستقيم إلى جوار الرياضي، عندما ختم نصه عن حسن ربيع الماشي أمامه في مطار مسقط يقول: «تركته يبتسم للهواتف النقالة ومضيت منكّسا رأسي جارا عربتي باستحياء».
لوهلة يبدو سليمان المعمري باخسا حق لاعب كرة القدم في الاهتمام الذي يُقابَل به، ومُصرًّا على إقامة ميزان لا يستقيم بينه وبين الأديب، حتى يوشك أن ينضمَّ إلى شلة بورخيس في نظرته المقللة من قيمة كرة القدم، ولكن الحال أنه يحاول من خلال لغة ساخرة أن يقيم ميزانا لا يعدل بين طرفين يختلف جمهورهما. ولكن النتيجة التي انتهت بها المواجهة من دون أن يدري سليمان المعمري ذاته أنه أحرزها ربما، أن بإمكان الأديب أن يكون لاعب كرة قدم أو مشجعا لها في أغلب الأحوال (كسليمان المعمري نفسه)، ولكن ليس بمستطاع لاعب كرة القدم (غالبا) أن يكون أديبا، وهذا هدفٌ صريح للأديب في شِباك اللاعب!
ولكن هل على الأديب أن يقارن نفسه بلاعب كرة القدم إذا ما أراد الحديث عن قصور التقدير الذي يلحق بالمثقف والثقافة عموما؟ تلك مقارنة غير منصفة تفترض أن يتصدر المشهد هذا (أو) ذاك، بينما لسان الحال: ما أحوجنا إلى أن يكون هذا وذاك وغيرهما حاضرين على حد سواء في ميادين التقدير طالما اتسعت الحياة للجمال، فما أبأسنا من دون مباهج كرة القدم، وما أتعسنا في الآن نفسه بلا ميادين تتفوق فيها الثقافة.
اللعب في الوقت الضائع:
في الوقت الضائع كُتبت نصوص تؤبن غلام خميس، الذي كان بحاجة إلى ما هو أكثر من ذلك قبل وفاته، ولكن حسبها أنها نصوص أدت واجب الحضور في المشهد الأخير من مباراة/ حياة غلام خميس، بعدما عجزت عن أداء أدوار كان يفترض أن يقوم بها آخرون، أفراد أو مؤسسات قبل رحيله.
تشترك النصوص الخمسة – التي اخترناها لمناقشة هذا المحور – في أنها نصوص متأخرة، مكتوبة بعد تاريخ العاشر من نوفمبر 2008م، اليوم الذي ترك فيه غلام خميس ملعب الحياة إلى الأبد. غير أن حادثة وفاته والنصوص التي تلتها أتاحت لنا الاطلاع على شيء من شغف كتّابها بكرة القدم.
يبدأ عبدالله حبيب نصه «انتصار في الزمن الضائع» بتواضع الأديب في حضرة اللاعب، وهو تواضع فريد ونادر قلما يصادفنا في العلاقة بين الرياضة والأدب. يفتتح عبدالله حبيب نصه بالقول: «ينبغي من شخص مثلي أسَّس في خطوة حمقاء للغاية حين كان صبيَّاً صغيراً فريق كرة قدم بائسًا باسمٍ أنيابيٍّ تكشيريٍّ يقطر دماً تخويفيَّاً من بعيد فحسب – فريق الأسد – الذي لم يتمكن من الفوز في أية مباراة سواء في قريته أو في القرى المجاورة لها، بل كانت هزائمه المنكرة النكراء تبدأ بنتيجة ثلاثة/ صفر فما فوق.. ينبغي من هذا الشخص، إذاً، أن لا يتحدث أبداً عن الرياضة عموماً وكرة القدم خصوصاً. لكنني لهذا السبب تحديداً وبالضبط سأجيز لنفسي الحديث بإيجاز شديد عن غلام خميس الذي غادرنا – برغبة وإصرار منَّا ومنه، تقريباً – قبل ليلتين؛ ذلك أن الراحل لم يكن «حالة رياضيَّة» فحسب، بل إنه كان، وسيكون، «حالة وطنيَّة» أيضاً. لقد علَّمنا غلام خميس في حياته ومماته معاً أن كلنا وطن، وفي هذا يكمن تفرُّده، وهنا مبعث درسه الذي علينا أن لا نخطئه. عن هذا الوطن، ولهذا الوطن، إذاً، أحاول أن أكتب والحزن والأسف يرفعان في وجهي إشارة محاولة تسلُّلٍ هي ليست كذلك أبداً».
هنا يكشف عبدالله حبيب عن جانب قديم من اهتمامه بكرة القدم الذي يعده مبررا للحديث عن غلام خميس، وشفيعا له في محاولة الكتابة عنه إلى جانب اللقاء الذي جمعه به ابنَ حارة وابنَ بلد، وهو أنه حالة وطنية كذلك. دون أن تفوتنا ملاحظة استخدام حبيب مصطلحات اللعبة في لغته: كلمة تسلل في الاقتباس السابق.
يختار عبدالله حبيب الزوايا الأكثر إنسانية في الحديث عن غلام خميس ابن الحارة، البسيط ولكن غير العادي في الآن نفسه. يقول: «سأقول فوراً إن أول وآخر انطباع تركه فيَّ غلام خميس لم يكن انطباعاً يخص كونه رياضيَّاً كبيراً ولاعب كرة قدم هجوميّا متألقا يَحسِب له مدافعو الفريق الخصم – المحليُّون والدوليُّون منهم – ألف حساب (على الرغم من أنه كان كذلك بالطبع والتأكيد)، بل بالأحرى كان ذلك الانطباع، وسيبقى، واحداً يتعلق بـ “وَدْ الحارة” العمانيَّة القديمة: أصيلاً، وبسيطاً، وعاديَّاً، وعفويَّاً، وفقيراً، ومليئاً بالطاقات والقدرات الكامنة التي قد يخطئها من لا يتفرَّس فيها فراسة خاصة. لقد كان غلام خميس بلا شك أحد الذين عناهم الشاعر العربي القديم بقوله: «ترى الرجل النحيل فتزدريه/ وفي أثوابه أسدٌ مَزيْرُ/ ويُعجِبُك الطرير فتبتليه/ فيخلف ظنَّك الرجل الطريرُ». وكم أتمنى أن لا نفقد “أولاد حارة” آخرين في زمن تختفي فيه الحارة، ويختفي فيه أولادها».
يقترح عبدالله حبيب إطلاق لقب (رياضي الشعب) كتخليد أخير وإنصاف متأخر لعله يخفف من ألم موته الذي رفع «شارة حمراء ضد الجحود، والنكران، والتبرؤ، وجزاء سنّمار». ومرة أخرى يمزج عبدالله حبيب لغته بمصطلحات أهل الصنعة، في موقف لا يمكن للكلام إلا أن يكون بلغة كرة القدم التي أفنى غلام خميس حياته لأجلها، ولكنها لم تنِله شيئا، كجزاء على مجيئه في زمن لم يكن لأمثاله.
وهو ما أثبته مازن حبيب في نصه «ضربة جزاء غير مستحقة» بقوله: «بطلاً مبكراً، جئتَ، في زمن تأخّر عنه الأبطال كثيراً، فعانيتَ وحيداً، وما تركتَ لهم شيئاً ليُقتسمَ من بعدكَ». ومثل عبدالله حبيب ذهب مازن حبيب المذهب نفسه في استخدام القاموس الكروي بدءا من العنوان «ضربة جزاء غير مستحقة»، وليس انتهاء بنحت كلمة «هَرْدلَكَة» من الكلمة المواسية بعد كل هزيمة في عالم الرياضة (هارد لك)، التي كثيرا ما سمعها غلام خميس في مشواره الكروي. يقول مازن حبيب: «كيف سمحنا لأنفسنا بممارسة دور المتفرّج في سلبيتنا في التعامل مع قضيتك، وأنتَ الذي مثلتنا ومثلتَ، في عدة محافل، وطنيتنا الكريمة؟ لعلنا أردنا بهذه الفرجة «هَرْدلَكَة» حياتك، وحصرها في قول مفاده إن حظاً عاثراً متسقاً طوال السنين ظل متربصاً بك (كما يقتصّ من الآخرين باستمرار في هذه الحياة)، وبالتالي لم يكن بالمقدور مجابهة المُقدّر، فـ«هَارد لَكْ»، يا كابتن»!. هكذا مجددا، تمنح الكرة قدرتها على ابتكار اللغة، وتخلق انزياحاتها المتمددة نحو مساحات لم تكن لتوجد لولا حساسية الأديب.
وكعبدالله حبيب أيضا يكشف مازن عن اهتمامه القديم بكرة القدم وبغلام خميس على نحو خاص، إذ يسرد: «إن ما أردتُ قوله لكَ، يا كابتن، هو أن ذلك الطفل الذي قيّد على جهاز الفيديو لحظات مباراة النصر الأول، وظلّ مراراً يسترجعها، ويعيد لقطة تسجيلكَ الهدف الثاني تحديداً، ما زال، اليوم، يستشعر في داخله عذريّة الفوز الأول ونشوته وكبرياءه المحنَّط في صميم الروح. ذلك الصَّبي الرّابض في القلب (وغير الرّياضي، أساساً) يبعث لكَ تحيّة إكبار خجلة، ورسالة امتنان بحجم الأمل الذي بعثتَ في أعماقه، وكلمة شكر لتلكَ اللحظة الخالدة التي لا يمكن لأحد أن يسلبها من ذاكرته.. ذلك الصبي لا يملك إلا أن يخجل من معاناتكَ، ولا تسعفه سوى كلمات مرتبكة لاعتذار تأخّر، في حقّكَ كثيراً.. عن كلِّ ما حدث لكَ، وكلِّ ما لم نفعله من أجلك».
أما في نصَّي حميد البلوشي وناصر صالح، فيلفتنا العنوانان اللذان اختاراهما لنصيهما؛ ففي حين يكتب ناصر صالح (غلام الوطن)، يكتب حميد البلوشي (لم تكن غلاما). مدخلان يتخذان من الاسم الذي أصبح أيقونةً بوابةً ومدخلا، وإن بدا أنهما يتناقضان. ولكن النصين يتفقان في الإقرار بما أقر به سابقاهما عبدالله حبيب ومازن حبيب بمظلومية غلام خميس الذي أنقذه الموت من مصير قد يودي إلى بتر ساقيه. لقد كان الموت رفيقا به وبذاكرتنا مع ساقيه اللتين ما تخاذلتا عن ميدان الملعب، من دون أن يخطر في باله أننا جميعا سنتخاذل عن فعل شيء حيال وضعه أكثر من كلمات تقال في الوقت الضائع.
أما النص الخامس فهو قصة «غلام لوحة متخيلة» لمحمود الرحبي ضمن مجموعته «لم يكن ضحكا وحسب»، الذي اختار فيها تخييل شخصية اللاعب غلام خميس ووالده الحاج خميس في رحلة اكتشافه الأولى. وهنا تعود من جديد في هذه القصة صورة الأب/ عدو الكرة الذي ما كان ليقبل بانضمام ابنه إلى صفوف المنتخب الوطني قبل أن يأخذ ضمانا بأن الاتحاد سيوظفه ويقبض راتبه في نهاية كل شهر، من دون أن يدري أن الوظيفة التي حظي بها ابنه كانت مجرد «طباخ للشاي والقهوة، ومراسل في أحسن الأحوال». تراجيديا لا تشبه صورة الجندي في ساحة الملعب. وليس مهمًّا السؤال: كم اختلفت اللوحة المتخيَّلة عن الحقيقة، وكم تشابهت؟ إذ لم يعد الأمرُ سرا!
تضعنا النصوص الخمسة على اختلافها من حيث اللغة والجنس الأدبي، أمام نقاط اتفاق على مظلومية أهم لاعب مرّ على تاريخ كرة القدم العمانية، بيد أنه رحل من دون أن يحظى بما يستحقه منها، ومن دون مباراة اعتزال تليق بما قدمه في خدمة المنتخب. هل كان باستطاعة الأديب أكثر من ذلك؟ ليس على الأديب أكثر من شرف الاعتراف: الاعتراف بفضل اللاعب الذي وجدنا الأديب يقف أمامه بتواضع، وشرف الاعتراف بالتقصير الجمعي والمؤسسي في حق ما أطلق عليه عبدالله حبيب (الحالة الوطنية/ غلام خميس) في موقف لا نستطيع إلا أن نقول فيه (هارد لك) لنا جميعا بهزيمتنا الإنسانية أمام انتصار غلام خميس في رحلته الأخيرة إلى معسكره الختامي وبطولته الأخروية.
صافرة نهاية المباراة
ما لم يصرّح به المدرب في نهاية المباراة:
قد تنتهي المباراة، ولكن اللعبة مستمرة. شأنها شأن النصوص الأدبية التي تأبى أن تنتهي، ولكننا نضطر إلى تركها؛ فالنصوص كما قيل (تُترك ولا تنتهي).
قد لا تكون الأعمال المختارة لهذه القراءة هي النصوص الوحيدة التي شُغلت بكرة القدم في الأدب العماني (والسردي منه تحديدا)، ولكنها الأبرز على اختلاف دوافع كتابتها. وكما يقول مدربو كرة القدم في نهاية كل مباراة: «في المباريات القادمة سنقدم أفضل ما لدينا». وبدورنا نقول هنا: إن الزمن القادم قد يحمل نصوصا أوفر لكتّاب وكاتبات عمانيين يتخذون من كرة القدم موضوعا رئيسا لنصوصهم، ولا بأس من انتظار اللعب في الأشواط الإضافية من الزمن لتحقيق ما يمكن أن نسميه (الأدب الكروي في عمان)، كنتيجة حتمية لانتعاش كرة القدم العمانية في المستطيل الأخضر أولا كما نطمح على الدوام ونرجو. أليست كرة القدم الأرجنتينية سابقة لميلاد الأدب الكروي في الأرجنتين؟
***
* قراءة ألقيت ضمن ندوة نظمتها مؤسسة بيت الزبير افتراضيا في 27 يناير 2021 بعنوان «مارادونا، الأدب وكرة القدم»، وتنشر في مجلة قنّاص لأول مرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) نص “الحقيبة” ليحيى سلام ضمن مجموعته القصصية “رماد اللوحة”، بيت الغشام، مسقط، ط2، 2014، ص30
(2) نص “للمهزومين تاريخهم” لناصر صالح ضمن مجموعته القصصية “دروب”، ص381، ويورد ذكرا لكرة القدم في قصتيه “ليلة واحدة”، و”أين أذهب” في المجموعة نفسها، الصادرة عن دار سؤال، بيروت، 2015.
(3) انظر على سبيل المثال نص “الصور أقرب مما تبدو” لهدى حمد في كتابها “تأمل الذئب خارج غرفة المكياج”، دار الانتشار، بيروت، 2020، ص27
(4) مثال: انظر قصة “مساء صاخب” ليحيى سلام ضمن مجموعته القصصية “رماد اللوحة”، مرجع سابق، ص 38
(5) مثال: انظر قصة “مراكب مبحرة” لسعود البلوشي ضمن مجموعته القصصية “أصوات البحر” الصادرة عن بيت الغشام، 2017.
(6) قصة “الكابتن حمدان” لمازن حبيب ضمن مجموعته القصصية “الذاكرة ممتلئة تقريبا”، إصدارات وزارة التراث والثقافة، 2006، ص31
(7) القصة الفائزة بالمركز الأول في الملتقى الأدبي والفني الثاني والعشرين الذي أقيم في ولاية البريمي من ٢٠ وحتّى ٢٢ نوفمبر ٢٠١٦. ونشرته جريدة الوطن بتاريخ 27 نوفمبر 2016
(8) قصة “الأم” لبشاير حبراس صدرت ضمن مجموعتها القصصية “شبابيك زيانة”، كتاب نزوى، العدد 101، يناير 2020، ص13
(9) كتبه سليمان المعمري في التاسع والعشرين من يناير 2009 في اليوم التالي من مباراة المنتخب الوطني أمام الكويت التي أقيمت في الكويت ضمن التصفيات المؤهلة لنهائيات كأس آسيا في العام نفسه، وفاز فيها المنتخب العماني على المنتخب الكويتي.
(10) نص “الركلة” لمحمد سيف ضمن مجموعته القصصية “الصفرد يعود غريبا”، إصدارات النادي الثقافي، مسقط، 2012، ص15
(11) صدر مؤخرا كتاب آخر يوثق سيرة لاعب نادي الخابورة محمد بن علي القطيطي بعنوان “الركاض: حكاية كرة القدم في الخابورة”، من إصدارات مطبعة الخابورة الحديثة، عُمان، 2020
(12) نشرها محمود الرحبي في جريدة عمان بتاريخ 19 ديسمبر 2016، قبل أن تضمها مجموعته القصصية “لم يكن ضحكا فحسب” الصادرة عن دار فضاءات الأردنية في عام 2017
(13) نشرته جريدة الوطن في ملحق أشرعة بتاريخ 3 ديسمبر 2008
(14) شبابيك زيانة، مرجع سابق، ص 13
(15) نص “الفتاة التي عشقت كرة القدم” لمنى بنت حبراس السليمية، نشر في مجلة أوائل الرقمية في 20 أغسطس 2018
(16) محمد الحراصي: ذاكرة الأسئلة، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2021
(17) المرجع نفسه، ص12
(18) المرجع نفسه، ص13
(19) زاهر السالمي: حُراً راكضا بالكرة، مجلة قناص الإلكترونية؛ 21 يونيو 2022