كرة القدم حسن نجمي - نشيدُ كرةِ القدم

يمكن أن تكون مباراةٌ مَّا ممتعةً للعين حتى بدون تسجيل إصاباتٍ بالضرورة... ولا يمكن أن تكون المباراة ممتعةً للعين بدون أن يكون هناك أحدٌ مَّا خَارجَ الملعب لكي يُشَاهِدَها.
بِّيتَرْ هَانْدكَه... "عالم كرة القدم"
في كتابه "الرياضة والحضارة، العُنْفُ المُتَحكَّمُ فيه" الذي نُشِرَ له بالاشتراك مع مُريدِهِ إِيريكْ دونينغ، (باريس – 1986) يؤكد السوسيولوجي الكبير نُورْبِرتْ إِلْيَاسْ أن "خيال الإنسان هو ما يجعل من تحويل كرةٍ من جلْدٍ – بالقَدَم وَحْدَها – موضوعَ صراعٍ مُثيرٍ، مُتَحكَّمٍ فيه بين فريقَيْن". وظني أن سِحْر كرة القدم أساسًا ينبثق بالفعل من هذه المتعة السيكولوجية التي تخلقها تحديدًا المواجهة بين معسكرَيْن يتصارعان فوق مستطيل مُتْربٍ أو معشَوْشَب، ويسْعَى كلاهُمَا، أو أحدهما على الأقل، إِلى الانتصار، مع ما يستَتْبع ذلك من أَثَرٍ على نفسيات المشاهدين والمُنَاصِرِين. وربما تداعيات ذلك الصراع على مستوى الشُّعُوب التي تتلبَّسُ الحالة الكروية، فتصبح كُرَةُ جِلْدٍ صغيرةٌ عجماءُ آليةً من آلياتِ "الهُوياتِ القاتلة" !
أظن أنني بدأتُ خَوْضَ هذا الصراع في سِنِّ التاسعةِ أو العاشرة، والأكيد أنني لم أنجح في تحويله إِلى مُتْعَةٍ شخصية إلَّا بفضل هواية جَمْع صُوَر اللَّاعبين والفرق المغربية، ثم صُوَر المنتخبات الكروية العالمية المتصارعة في بطولة كأس العالم في المكسيك سنة 1970. والواقع أنني حين فتحتُ عَيْنَيَّ على هذه الهواية، كنْتُ أَصْغَرَ إِخوتي سنَّا، "آخر العنقود" كما يقال، وقد سَبقَني إلى ممارسة الكرة والتَّعَلُّق بها أخي الأكبر غير الشقيق (بُوشْعَيْب)، قلْب هجوم وهدَّاف فريقنا الرسمي المحلي، ثم أخي الشقيق (أحمد) الذي التحَقَ بالفريق ذاتِهِ، وأصبح أفضل وأَمْهَر لاعب في الفريق، إذ اخْتيرَ ليكون العميد، وظهرَتْ مهاراته بوضوح في توزيع الكرات، وفي المراوغات الناجحة الأنيقة، وفي تسجيل عدد وافر من الإِصابات، وفي عدم تضييع الفُرَص خصوصًا ضربات الجزاء بل وكان يُسَجِّلُ بالمقَصَّات، وأحيانًا كان يسجل من نقطة الزاوية.
وعن أخي الشقيق هذا (1955-2020) أخَذتُ هذه الهواية، فأحببتُ الفريق الذي كان من مُنَاصِرِيه، نادي الجيش الملكي في الرباط. وحتى الآن، لا أعرف لماذا أَحبَّ ذلك الفريق، ولا لماذا أحببتُه بدوري أَنا أيضًا. أُرجِّحُ فقط أن ذلك لأن الفريق كان عسكريًّا، وأيضًا لأن سِتَّةً من لاعبِيهِ بمن فيهم حارس المَرْمَى كانوا آنذاك لاعبين رسميين في المنتخب الوطني الذي تأهل عن جدارة واستحقاق إِلى نهائيات كأس العالم في المكسيك.
كان الحارس عَلَّالْ قَسُّو بالنسبة إِليَّ أسدًا يحرُس عَرينَ كُلٍّ من نادي الجيش والفريق الوطني، وكان هناك بالخصوص زملاءُ له من الفريق الذاهب لأول مرة إِلى كأس العالم : بَامُوس، عميد الفريق ومُوزِّع الكرات الماهر الذكي، والمهاجم الأَيْسَر، الغَزْوَاني موهوب، والمدافع الأيمن عبد الله باخا، والفَاضِلي، وعبد القادر، وكُرْدَاسَة... بل كان مدرب الجيش في وقتٍ مَّا، مدرِّبًا للمنتخب الوطني أيضًا. وكان مجردُ كَوْنِ فريقي المفضَّل "عسكريًّا" كافيًا للفَخْر الشخصي، ولإشباع نزعة الصراع النَّفْسي مع الآخرين ممن كانوا يناصرُون فُرُقًا أخرى، "مَدَنِيَّةً" على الأرجح.
لقد كان من الأَوْلى أن أناصر فريق الإقليم الذي انتسب إليه، النهضة السطاتية الذي حقَّقَ المفاجأة وفاز ببطولة المغرب ذلك الموسم (1970)، وكان أَوْلَى أيضًا أن أُفَضِّلَ فريقًا لامعًا من جهتنا، جهة الدار البيضاء، الرجاء أو الوداد، لكنني لم أفعل. ولا أعرف لماذا لم أَفعل ! رُبَّما لأن ذلك الانخراط المبكّر في هوايةٍ جَوْهَرُها الصراع، ومُعْجَمُها عسكريٌّ بامتياز (الاستراتيجية، التاكتيك، الهجوم، الدفاع، الخطة، المعسكر، التَّربُّص...)، كان يقتضي أن يتَسَلَّح المرءُ لهوايته منذ البداية بفريق عسكري !
في سنة 1969، وفي غمرة التحضيرات لمشاركة المغرب لأول مرة في كأسِ العالم، اكتشف الملك الراحل الحسن الثاني أن البلاد لا تتوفر على كلماتٍ لنشيدها الوطني، فنَظَّمَ مسابقةً على عَجَلٍ بين الشعراء وكُتَّابِ الكلمات، فَازَ بها الشَّاعِرُ التقليدي عَلِي الصقلي الحُسَيْني (1935-2018)، وتقريبًا قبل أن تبدأ. لقد كان مطلوبًا أن يُنْصِتَ الشاعر المُتَبَاري للقطعة الموسيقية الجاهزة مسبقًا (منذ 1952)، ويُرَكِّبَ عليها كَلامَهُ "الشِّعْري"، ففعل ذلك الشاعر مَوْلايْ عْلِي تقريبًا بروحٍ رياضية حظيت سريعًا بإعجاب الملك الذي سارع إلى إيقاف المباراة في بدايتها مكتفيًا بتغيير كلمةٍ واحدةٍ بكلمةٍ أخرى في نَصِّ النَّشيد، وبَقِيَ صديقي علي الصقلي يرفض أن يُفْصِحَ لي عَنْها، وإِنْ كُنتُ عَرَفْتُها لاحِقًا من صديقٍ مشترك. والحقَّ أقولُ – وهل لي الحق في ذلك ؟ - إن الوقتَ قد حَانَ لتغييرِ.. أو على الأقل لإِجراءِ تعديلٍ كافٍ على نصّ النشيد بما يتلاءم مع جَوْهَر التحولات العميقة التي تحققت في مغرب ما بعد رحيل الملك الحسن الثاني. ومن ثَمَّ فالنشيد الوطني المغربي، بصيغةٍ مَّا، مَدينٌ بالأساس للفريق الوطني لكرة القدم الذي تأهل آنذاك، وكانت شروط المشاركة تقتضي أن ترسل الفرق المتأهلة إلى الفيفا رايتها الوطنية والنشيد الوطني بِشقَّيْهِ، الموسيقي والشّعري. وكذلك كان.
ما زلتُ أَذْكُر تلك المشاركة المُدْهِشَة لفريقنا المغربي في المكسيك، وأَذكُر بالخصوص المَظْهَر المُشَرِّف لفريق كان يبدو "صغيرًا" و"مجهولًا" في خرائط كرة القدم العالمية أمام الآلة الكروية الألمانية، وتلك الإِصابة الرائعة للمهاجم المغربي (حُمَّانْ) في مَرْمَى الحارس مايِّيرْ في الدقيقة 21 من المقابلة حيث انتهى الشوط الأول بانتصار المغاربة، أمام اندهاش واستغراب الجميع.
يَوْمَها، كانت التلفزاتُ بالأبيض والأسود مجرَّد خَرْدَوَات في مسقط رأْسي. كانت الصورة تأتي وتمضي بمزاجها. وكان صَوْتُ المُعَلِّقُ الرياضي يتواصل بينما تكون الصورةُ قد اختفَتْ. وقد يختفي التعليق وتتواصل الصُّوَر راقصَةً. تقريبًا، كنا آنذاك نشاهد مقابلة إِلًّا رُبُع ؛ وما تَبقَّى كنا نُكْمِلُه برواياتنا الشفاهية المُتَبَادَلة. وطبعًا، كان لابد منْ حانوتِ حَلَّاقٍ في رأسِ الدَّرْب كي تكتمل الأخبار والتفاصيل الناقصة. بفضل ذلك، كنت قادرًا أن أتحدث النهار بكامله عن "أُسُود الأطلس" الذين عَطَّلُوا الآلة الألمانية قبل أن يستسلموا في الشوط الثاني بإِصابتَيْن مقابل إِصابة واحدة !
وإِن كانت كرة القدم مجرد ممارسة جَسَدية ذات طبيعة رياضية، فإن لها بُعْدًا اجتماعيًّا وثقافيًّا مُؤَكَّدًا، خصوصًا عندما نتأملها كتجربةِ نَظَرٍ، كفُرْجَة تقتضي حِسًّا مُعَيَّنًا وثقافة متمكنة تُحدِّد طبيعة الذات وموقفها من الصراع الذي تتابعه، أي مسافة ؟ أي تاريخ ؟ أي مقاربة لهذه اللعبة القائمة ككلِّ أنواع اللعب على المُنَافَسة التي تنظمها قوانين ومُحدِّدات وضوابط وأعراف، سواء داخل الملعب أو خارجه. ومن يقول كرة القدم، يقول أيضًا إِن المنافسة تتحول من المستطيل الأَخضر إِلى منافسة أوسع بين أنواعٍ من الثقافات تُحدِّد أنواعًا من النَّظَر والاقتراب أكثر أو أقل من أسلاك الكهرباء !
وأذكُر أنني كتبتُ سنة 1976، وأنا تلميذ في الإعدادي، مقالة فطرية بسيطة بعنوان "أدباء لَعبُوا الكرة" أشرتُ فيها – إنْ لم تَخُنِّي الذاكرة – إلى علاقة الكاتب الفرنسي ألبير كامي بالكرة، إِذ كان حارس مرمى فريق وهران الجزائري إبَّانَ المرحلة الكولونيالية، وكيف كان أديبنا العربي الكبير نجيب محفوظ شغوفًا بلعب الكرة كما تحدث عن ذلك بتفصيل إِلى صديقه رجاء النقاش. أما الآن فقد فَتَر تَعَلُّقي القديم بكرة القدم، وهَرِم شَغَفي الجميل الذي كان طفلًا لفتراتٍ طويلة. ولكنني لا أخفي المتعة التي أدركها كلما قرأتُ كتاباتٍ سرديةً أو شعريةً أو مقارباتٍ فكريةً حول كرة القدم.
أحببتُ حقًّا حديث ألبير كامي عن ذكرياته وصَوَرَه الفوتوغرافية المصاحبة حارسًا للمرمى، وما حكاه الأستاذ نجيب محفوظ، وبالخصوص الكتاب الفَذّ الذي أَلَّفَه الكاتب الكبير إِدْوَارْدُو غَالْيَانُو "كرة القدم : الظِّلُّ والضَّوْء" بتلك المَلَكَة المدهشة في الحكي، بأسلوب أنيق، بحرصٍ على التفاصيل واللمسات الصغيرة وفقراتِ النص القصيرة، ومَحْكياتٍ وبُّورْتريهاتٍ ترتقي بالتفصيل إِلى مستوى التأمل الفكري والثقافي والاجتماعي العميق، كما لو كان يريد أن يقدم من خلالها قصته الشخصية مع كرة القدم في شِبْهِ أنشودة جسدية تحتفي بالكرة ورقصاتها ورائحتها وإيماءاتها وأفقها.
ورغم أن بورخيس اشْتَهَر من ضمن ما اشتهر به باحتقاره لكرة القدم، فإن الكثيرين من كبار أُدَبَاء العَالَم، قديمًا وحديثًا، احْتَفَوْا بهذا السِّحْر الأسطوري الذي نعثر على إِشارات إِليه في الآداب الإنسانية حتى قبل أن يُعيدَ الإِنجليزُ "اكتشاف" و"تكييف" هذه اللعبة الساحرة، ويضعُوا لها قوانينَها الأولى في القرن التاسع عشر. ففي النشيد الثامن من الأُوديسَا لهُوميروس ثمة إِشارة كريمة إلى لعب الكرة، ولشكسبير جملة صغيرة عن كرة القدم في مسرحيته "الملك لِيرْ". كما تتعدد الإِشارات واللحظات الكروية الثمينة في كتابات رونسار، هنري مُونْتِرلان، مارسيل بّْرُوستْ، في "الزمن المستعاد"، رَايْنَر ماريا ريلكه، جان جِيرُودُو، فلاديمير نابوكوف، جورج أورويل، أُومْبِرطو إيكو، محمود درويش، رشيد بوجدرة، بيتر هاندكه وروايته الشهيرة "قلقُ حارس المرمى أثناء ضربة الجزاء"... وآخرين كُثْر.
واختصارًا، أحتاج إِلى حَيِّزٍ أَرْحَبَ للإِحاطة بذاكرتي وقراءاتي الكروية المتعددة والممتعة، وربما أحتاج إِلى "يَدِ اللَّه"، بتعبير اللَّاعب الكوني دييغو مارادونا، كي أكتب كُلَّ ما في رأْسي حول كرة القدم والكتابة. ولكنَّها يَدٌ محظورَةٌ، هُنَا على الأَقل في هذا الحَيِّز الصغير الذي يضيق عن أن يستوعب الشَّسَاعَة التي لكرة القدم في روحي وفي سيرورة حياتي التي تأرجَحَتْ كثيرًا كَكُرةٍ من جِلْدٍ وهَوَاءٍ بين الأَرجُل والأَحداثِ والمُصَادَفات حتى إِنني أقول بيني وبين نفسي : لكي أكتب بالفعل عن كرة القدم، لابد أن أكتُبَ حياتي !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى