عبدالرزاق المصباحي - المقامة والنبوءة الثقافية

يُنظر إلى المقامة، في الأغلب الأعم، بوصفها خطاباً بلاغياً ينماز بالاشتغال البارع على اللغة، بما يجعلها خطاباً ينافس مُتكلف الشعر في بيانه وبديعه، وقناة لتلقين الآداب واللغة باعتبارها الوظيفة الأولى التي أدتها مع بديع الزمان الهمذاني في نيسابور، ومنه كانت موضوعات الوعظ والشعر والنقد البلاغي وأوصاف الأسد والفرس والمدن طاغيةً على متنها، لكن المقامة، في ظني، تُضَمّن رؤيا ثقافية تقوم على تفكيك الشخصية العربية وتحاول تقييم سلوكها، فعيسى بن هشام والحارث بن همام راويا مقامات بديع الزمان الهمذاني والحريري يتجاوزان وظيفة الراوية الذي يحكي ما شاهده أو حكي له إلى الشهادة على عصرهما عبر اقتناص أهم تحولاته القيمية والسلوكية والفكرية، أما أبو الفتح الإسكندري وأبو زيد السروجي، فنموذجان للهامش الذي يستطيع بعض أفراده التحايل على الظروف القاسية والقاصمة ليظفروا بلقمة عيش حارة عن طريق استثمار اللسن والبراعة البلاغية والدهاء النافذ، والتي هي جميعاً أدوات للكدية التي لا تزال تُستعاد على نحو يوائم الواقع الحالي. لذا فليس غريباً، على سبيل التمثيل، أن نجد، ونحن نستعد للسفر عبر محطة طريقية لمدينة عملاقة كالدار البيضاء المغربية، نماذجَ محيّنة من أبي زيد السروجي وأبي الفتح الإسكندري تستسعف تقنيات الكُدية نفسها وتتزيا بالإكسسوارات الخادعة ذاتها التي تَسِمهما، أي أبا زيد وأبا الفتح. إن مشهداً درامياً من قبيل صعود رجل إلى الحافلة قبيل انطلاقها رفقة زوجه التي تحمل وليدها النائم في دعة، وشروع الرجل في سرد ماتع ومؤثر لقصة وصوله إلى الدارالبيضاء وسرقة نقوده التي يحتاجها للعودة إلى مسقط رأسه البعيد أو مرض ابنه المزمن الذي يتطلب علاجه مبلغاً كبيراً، ثم انفجاره باكياً وبشكل مؤثر على حين غرة من الركاب، مشهد؛ يبدو مألوفاً ومطّرداً لكن تكراريته لا تمنع من تأثيره الهادر الذي يجلب لصاحبه التعاطف الدائم والمجزي ماديّاً، لكون خطاب الشخص المكدي يقوم على التقنيات نفسها التي تميز بطل المقامات وهي مزاوجته الخلاّقة بين البلاغة الجميلة والأداء الدرامي الباهر، والمُكدون الجدد لم يطلعوا على مقامات الحريري أو الهمذاني، ولم يتعلموها من أبي زيد أو أبي الفتح، ولكن سلوكهم يدخل في نطاق المشترك الذي يميز الشخصية العربية في بعض جوانبها حين ترمي إلى تعطيل قوة العقل وتتفاعل، بشكل مبالغ فيه، مع من يعزف على وتر العاطفة والدين بفنيّة فريدة لا تأسن بسبب التكرار، لذا يركز هؤلاء المُكدون على اللعب على المُحْتَمل عبر خلق تماثل ممكن بين حال المكدي وحال سامعه (ضحيته)، وكل ذلك في ظل استحضار أشد الأحاديث والآيات القرآنية تأثيراً وقوة. ولقد قامت المقامة بنمذجة هذا السلوك عبر كثير من قصصها، لأن وعياً مبكراً تشكل عند الهمذاني والحريري يصل إلى درجة النبوءة مؤداه أن الشخصية العربية، في عمقها وامتدادها، تتأسس على الخدعة والكدية والتحايل باعتبارها وسائل لجمع الثروات السهلة أحياناً، وانتصاراً للهامش الذي يجعل من الهوان المصطنع وسيطاً للالتفاف على تجبر السلطة في أحايين أخرى.


- المجلة العربية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى