د. مصطفى رجب - سيدنا الشيخ شلبي ... و شمسه المشرقة

في مدرستنا الابتدائية ( مكتب الشيخ بِرَاهيم سابقا) كان سيدنا الشيخ شلبي رحمه الله يحرص في حصة الإنشاء أثناء تعليمنا اللغة العربية في أواسط الستينيات على أن نحفظ كثيرا مما نتعلم لنستثمره في قابل أيامنا ، وكان يصكُّ لنا جُمَلًا نحفظها لننتفع بها في صوغ موضوعات الإنشاء من مثل [ في يوم كانت شمسُه مشرقةً ، وسماؤه صافيةً ، ونسيمُه عليلا .....حصل كذا وكذا ] أو نختم التعبير عن لقاء الرئيس عبد الناصر رحمه الله بزملائه الملوك والرؤساء الذين يزورون مصر ( الجمهورية العربية المتحدة آنذاك ) ، وبخاصة الرؤساء : اليمني عبد الله السلال ، والجزائري هواري بومدين ، والتونسي : الحبيب بورقيبة ، واليمني الجنوبي : سالم رُبَيِّع علي بقولنا [ وفقهما الله وسدد خطاهما ]
وتراءى للشيخ شلبي ذات مرة أن يختبرنا فقال : توفيت أم زميل لك فاكتب له رسالة تعزية . فكتب زميلنا محمود يقول : [ في يوم كانت شمسه مشرقة ، وسماؤه صافية ، ونسيمه عليلا .، شيعنا جنازة أم زميلنا حسان التي صدمتها سيارة ف" فرفتتها " فقضت نحبها .... وفقهما الله وسدد خطاهما !! ]
ففعلت عصا الشيخ شلبي يومها ما فعلت !!!
وكان الشيخ شلبي يُعلمنا العَروض في السنة الخامسة الابتدائية ويقوم بتقطيع أبيات الأناشيد المقررة علينا بالطباشير على السبورة ومنها نشيد يقول:
أقسمتُ باسمك يا بلادي فاشهدي .... أقسمتُ أن أحمي حماكِ وأفتدي .
فكان يقول لنا كيف تكتبونها بالخط العروضي ؟ فيقوم أحد النابهين منا قفزًا إلى السبورة ويكتبها هكذا :
أقسمتُبِسْ / مِكِيابلا / ديفَشْهدي
/ه/ه//ه – مستفعلن... وهكذا
أما من لا يتجاوبون منا مع هذا العلم الغليظ ، الذي لا صلة له بمنهجنا ، فلم يكن الشيخ - للأمانة- يعاقبهم . وكان يكتفي بالسخرية منهم ويسميهم " الصوامع "
ولكن الشيخ شلبي كان لا يتساهل مطلقا في الإعراب فإذا سألك : أعرب " جاء أخي" كان عليك أن تقول : جاء : فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتح لا محل له من الإعراب ، و ( أخ) فاعلٌ مرفوعٌ بضمةٍ مقدَّرةٍ مَنَعَ من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة ، وهو مضاف ، و( الياء) من كلمة ( أخي) ضمير مبنيٌّ على السكون في محل جرّ مضاف إليه .. ولو نسيتَ كلمةً واحدة من كل هذه الكلمات قالتْ عصا سيدنا في رأسك ما قالت العربُ في الحيزبون !!
أما والدي رحمه الله فكان إذا سألني إعراب تينك الكلمتين أقول له : جاء : فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ ، وأخي فاعل مرفوع بضمة مقدرة والياء مضاف إليه ، فيتقبل مني هذا الإعراب ويرضاه . وقد يسألني ضاحكا : وكيف تُعربها لسيدك الشيخ شلبي؟ فأنشد له المعلقة السابقة !!
كان سيدنا الشيخ شلبي يحكي لنا كيف افتدى شيخ معهده (معهد فؤاد الأول الديني بأسيوط ) من الرصاص بجسده في بعض أحداث عنف شهدها المعهد أواخر الأربعينيات ، وكان يُرينا موضع الرصاصة التي سكنت رجله التي تلقى بها الرصاصة فأنقذ شيخ معهده . فكنا نعده بطلا مغوارا وننظر إليه بإكبار وإجلال .
وكان رحمه الله مُحِبًّا للنكتة ، بل كان من صًنَّاعها ، وربما أسرَّ لي ولزميليَّ في المقعد في الصف الأول من الفصل بنكتة ناعمة لا يستطيع أن يرويها للفصل كله !! ولا أستطيع أن أُقدِّر الآن أكان ذلك منه حياءً ، أم خوفا من أن يرويها عنه " الصوامع " فتهتز مكانته الاجتماعية في القرية ؟ .
وقد تخرج ممن كان الشيخ شلبي رحمه الله يسميهم " الصوامع " أجيالٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُا فمنهم من صار جَمَّالاً ، ومنهم من اقتنى ميكروباص، ومنهم من عمل مخبرا أو إطفائيا في البوليس ، ومنهم محمود الذي كتب نعي أم زميله مستفتحا إياه بالمصكوكات الشلبية ( في يوم كانت شمسه مشرقة وسماؤه صافية ....) فنالت منه عصا الشيخ ما نالت!!
وأما النابهون منا فمنهم من عمل مهندسا أو طبيبا أو معلما ، أو محاسبا ، ومنهم من عمل مثلي بالتدريس بالجامعة ثمانيا وثلاثين سنة ليتقاضى بعد تقاعده ثمن سبع كرنبات خضر وأخر يابسات !!!
و....
في يوم كانت شمسه مشرقة....
بعد أربعين عاما من تلك الأيام قابلت زميلنا محمودا فإذا هو قد ( وفقه الله وسدد خطاه )
و انصرف عن التعليم وأصبح رجل أعمال بارزًا يملك ما لم يكن عبد الناصر والسلال وبومدين وبورقيبة مجتمعين يملكون..

د. مصطفى رجب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى