اكتظت الروضة الحيدرية عند الغروب –حسب العادة- بالزوار، والمتعبدين. واكتظ أكثر الجناح المعروف بـ "الجامع" والذي أصبح خاصاً بالنساء، فلا يذكر إلا مضافاً إلى "النسوان". ويشتد زحام النساء في هذا الجامع بصورة خاصة. عند الباب المسمى "باب المراد"[1] وبين جموع النساء وحلقاتهن، جلست امرأة على عتبة الشيخوخة، ولكنها ما تزال ذات حيوية ونشاط. كانت تجيل نظراتها على باب الجامع، المغطاة بمرايا ذات الوان، وبأشكال هندسية رائعة، ربما كانت أحجار كريمة، وليس هذا بغريب. فهذه المعلقات الذهبية، والقناديل البلورية والفضية، وأواني الشموع، كلها أشياء غالية ونفيسة.
وفيما هي تجيل النظر وتتأمل، صاح المؤذن: الله أكبر. فسكنت الحركات، وانقطعت الأحاديث، وردد كثير من السامعين بعده –الله أكبر-، وتعالت أصوات المؤذنين، تتجاوب من كل جهة، في الصحن وفي أروقة الحرم. أما العجوز القروية، فقد أطلقتها حسرة، وآهة لفتة أنظار النسوة القريبات منها، وتوجهت إليها الأنظار.
في اُولاء النسوة كثير من الفضوليات. وهن لم يجئن إلى هنا بقصد زيارة أو عبادة، بل لقتل الوقت، والترفيه، واللقاء بأمثالهن، لذا هن يتنقلن من حلقة إلى أخرى. ومن جماعة إلى أخرى ولو على غير سابق معرفة. ويشتركن بكل حديث، ويعلقن على كل حكاية أو خبر، ويبحثن في كل موضوع، ويطلقن لألسنتهن العنان. لا يتحرجن في التعليق، ولا يتروين فيما يبدين من رأي أو تعليق. هن يناقشن بملء الحرية والصراحة، ولو أدى ذلك إلى نزاع أو صِدام وسباب وشتائم!
لاح التساؤل في عيون المتطفلات والفضوليات. وتساءلن: من تكون هذه القروية العجوز؟ ما هذه الحسرة؟ أهي حسرة مظلوم، أم محروم، أم هي حسرة المذنب الأثيم؟
أحدى المتطفلات أرسلت شهقة استغراب، وضحكة استهزاء وعجب: الله يا خاله غفار ذنوب، وستار العيوب، والدنيه غروب. شيلي ايدج للدَعَه، واستغفري الله، وانتِ باب المراد، دگيها وأطلبي، لو جنتِ محرومة، لو مظلومه، وما نگول عشك –عشق-! أنتِ انشاء الله من أهل الخير!
دمعت عينا الشيخة، وبدا وجهها شاحباً، وشبحت عيناها إلى العلاء. ثم أدارتها بسرعة نحو المتجمعات حولها. وابتسمت ابتسامة معبرة عن طيب قلبها، وسذاجة عواطفها. لكن أخريات من المتطفلات، تضاحكن وقالت إحداهن: اي خاله، شيلي ايدج للدَعَه، وَيَ هاليدعون، كلهم شابحين عيونهم للعينه ماتنام! أطلبي مِنَه التريديه، هَسه من لسانج لباب السِمه!.
وقالت أخرى: شمدرينه؟ ولن ذنب الخاله ماينغفر؟!
عجوز نجفية ردّت هؤلاء المتطفلات عن هذرهن، وقالت: آه منجن بنات هالوكِت ... ويا صلافتچن؟ وين بيا وكت. و ويّامن؟ وَيّ زايره، وغريبه، وما هي گدچن؟. ومع شهقة رفعت رأسها إلى العلاء: ربي ارحمنه، ولا تعاقبنه بذنوبنه!
أما الزائرة، فقد نظرت إلى المتجمعات وهي تبتسم ابتسامة الساخر من نفسه وقالت: الله يرحم الجميع يا بناتي، غرﮔانه بذنوبي، ولا لي مفر ولا مخلاص!.
وانسابت من عينيها الدموع، وهي تنشج نشيج الهائم المفجوع ... قالت العجوز النجفية: لا يختي. رحمة الله واسعة، الله غفور رحيم.
- وشديد العقاب؟
قالت هذا أحدى الفتيات، وهي تزوي حاجبيها!
رفعت القروية طرف خمارها تجفف به دموعها، وقالت بلهجة متحرق: أي والله، شديد العقاب، وذنبي ما ينلبس عليه ثوب، ماله غفران. وحگه لَشْهَرْ -أفضح- نفسي بكل مـﭼان. واتحمل عذاب الخزي بالدنيه گبل الآخرة، وتظل يَمَّه. ايعَذِب لو يغفر!
- لا، لا خيه. گومي، اذكري الله. صلي هسه الواجب، وتوبي بينج وبين الله. ومن تاب، تاب الله عيه!
توجهت للطواف بعد الصلاة. وفيما هي تطوف، شبحت عيناها بذهول، إذ رأت جموعاً غفيرة تعلقوا بأستار الضريح، رافعين أيديهم، شابحين أنظارهم إلى العلاء إلى الله. يبتهلون والدموع تنهمر من عيونهم غزيرة، يجأرون بالدعاء. يمسكون بحلقات الشباك، تَمسُّك الخائف الذليل، يُحَرك بعضهم رأسه حركة رتيبة ذات اليمين وذات الشمال، ولصوته نبرة المحزون المكروب، وهو يدمدم بكلمات لا يُفهم منها غير استجارة مذنب واستغاثة من عاقبة إثم عظيم.
قالت في نفسها: وها الناس كِلهَه تلوذ ببو حسين مثلي؟ ويحميه حمّاي الحِمَه؟
وغرقت في ذهولها حتى لم تعد تدري بشيء. ومدّت بصرها كمن ينظر إلى مدى بعيد. لا حت لها القرية بأكواخها المنتشرة، وألواح الشلب الخضراء الممتدة، وشجيرات الصفصاف المتسلسلة على ضفاف النهر، فتنعكس خضرتها الرائعة على مائه الرقراق، وهو يجري متمهلاً، مشية المُتعَب، يخترق القرية مستقيماً ثم يتقوس تدريجياً عند نهايتها.
فذعرت وأجفلت. وشعرت عند هذا انها ما تزال ممسكةً بمشبك الضريح الفضي، وأطلقتها زفرة حادة -آحِـ ....- ثم عادت إلى ذهولها. ولاحت في خيالها القرية من جديد، لاح لها شبح "بَدِع" وهو يختال بقده الأهيف، بعقاله المرعز، ويشماغه المجوت، وقد رمى طرفه الأيمن على رأسه –فوق العقال- وتَدَّلى -الشرباك- الذي يشد الخنجر فوق خاصرته. وزان وجهه شاربه الأسود فوق شفتيه اللمياوين، وحاجباه كقوسين على عينيه العسليتين الواسعتين ... راحت تستعرض وتتذكر كيف كان يذهلها حين تسمعه –يتنحنح- وكيف كانت تتبعه بنظراتها إذا مرّ، تظل عيناها تتابع مشيته حتى يختفي عن عينيها.
انبسطت أمام عينيها صفحة الماضي البعيد، يوم كانت شابةً، تتجسد فيها كل معالم الجمال، لكن يصاحبه كل نزوات الشباب وطيشه، وجرأته بكل مظاهرها. وتذكرت كيف اندفعت ظهيرة يوم، وهي تستريح تحت ظلال صفصافات كثيفة، على ضفاف النهر، وراء "بدع" وأمسكت بكتفيه، وأنفاسها تتسارع، حارة كأنفاس المحموم، لقد أوسعته بالقبل، ومرغت خديها على صدره، وشدّت نفسها إليه بعنف لكنه كان يتملص، وقد بدا وجهه صارماً. وطال التشبث حتى أنهار بين الأغراء بالقبل والعناق، والميل الذي كان يكمن منذ زمن بين جوانحه إليها. وكان ما كان.....!؟ ولعنة الله على الشيطان! فعادت تسحب أذيال الخزي والعار!
تصبب جبينها عرقاً من خزي ما تذكرت. لكنها ظلت مستمرة في ذهولها. وتذكرت ما همست لنفسها حين عادت إلى البيت "أدَبرّهَ. الشيطان ما مات". وظهرت بين نساء البيت أكثر مرحاً. كمن يحس بنشوةٍ من سرور بالغ.
ودار بين نساء البيت حديث، عن الأزواج والزواج، وتعرضت أحداهن لذكر ابن عمها "شمخي" الشاب الساذج، بل الأبله، فأوسعته ذماً وتجريحاً بلهجة سخر غاية في السخرية. فتصدت لتلك وردّتها بحماس. مما لفت نظر أمها إلى غرابة الأمر، وكيف هزّها الفرح فقالت:
- دِرداغة؟ عقلتِ! من ها الساعة آمري وتدللي!
وردّت على أمها: عجيبة؟ ابن عمي، والنعِم!
وكمن يفيق من حلم مخيف، ارتعشت، وسالت الدموع على خديها، ثم أجهشت ،وهي لا تملك أعصابها، بالبكاء، وانهارت قواها. فاستقرت على الأرض بجانب الضريح، وأسندت كتفها الأيسر عليه. وعادت إلى ذهولها، تسائل نفسها: يا ذنب يبو حسين اَلوذَن بيك منه؟ العار، لو الغدر؟! أحّ. لعنة الله على الشيطان. گلت أدَبرهَ. الشيطان ما مات!؟ إلا شلون دَبَرتهه؟ مسكين شمخي ... شلون راح نتلاگه يوم المحشر؟ عفيه عليّه مِن بِت -بنت-! خنگت زلمه! ويا براعتي ووكاحتي، شلون بعد ماخنگته نمت وياه طول بطول، وخذت عيني نوم، ولاﭽَن سويت شي؟!.
وانتصب أمام عينيها شبح أبنها "نايف" يحمل خنجره الملطخ بدم "بدع" وقد سقط صريعاً بنفس المكان الذي راودته فيه. ونايف منه، فبدع أبوه! وكأنما حملته ليشب فيكمل جريمة أمه. فبعد احدى عشرة سنة من زواجها من ابن عمها شمخي، شب هذا الصبي ونضج فبدا وكأنه ابن عشرين...
وعادت تسرد بقية حكايتها، يبدو أن في صدرها أمر مبيت، وإلا فلماذا صحبت ابنها معها اليوم وفي هذا الوقت بالذات -في هذا الوقت تقل المارة- جلست على ضفة النهر. ومرّ بدع ففزعت، وكأنما أحست لدغة حشرة سامة ... والتفتت إلى ابنها نايف: نايف يَبني. آنه أمك!
أنتفض نايف: آنه ابنج يمه، احجي، آنه بامرك حتى على الموت!
- تشوف يبني هالزِلمه. تراهُ تحرش بيه من أيام!
واندفع الصبي، وبسرعة خاطفة، خرّ بدع صريعاً يتخبط بدمه.
وثارت عشائر هذا ، وذاك، ودوت أصوات البنادق، وسالت دماء، وسقط عدد من رجال الطرفين ضحايا.
استعرضت أم نايف سيرتها. اعترفت أمام العجائز والشابات. كما يعترف المذنبون النصارى أمام القديس. وأذهل حديثها جميع المستمعات، فشرّق بهن الخيال وغرّب. أصابهن ذهول لا يوصف. أهكذا يكون المكر؟! ونظرن، فإذا بها تضطرب اضطراب الذبيح. قالت بعض النسوة اللواتي قدمن بعدما أنتهى كل شيء، متسائلات: ماذا حدث؟
أجاب أحد السادة من خدم الحضرة العلوية:
- مطلوبة نِذِر!
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي
كربلاء في 30/06/1963
الهامش
1- هذه الباب، أرسلها السلطان "مراد" العثماني -سلطان الأتراك-، كانت رائعة بنقوشها الهندية الرائعة. لكن النساء أعتبرن معنى –مراد- أي أنه باب تستجاب عنده الدعوات!
*- الناشر محمد علي الشبيبي
وفيما هي تجيل النظر وتتأمل، صاح المؤذن: الله أكبر. فسكنت الحركات، وانقطعت الأحاديث، وردد كثير من السامعين بعده –الله أكبر-، وتعالت أصوات المؤذنين، تتجاوب من كل جهة، في الصحن وفي أروقة الحرم. أما العجوز القروية، فقد أطلقتها حسرة، وآهة لفتة أنظار النسوة القريبات منها، وتوجهت إليها الأنظار.
في اُولاء النسوة كثير من الفضوليات. وهن لم يجئن إلى هنا بقصد زيارة أو عبادة، بل لقتل الوقت، والترفيه، واللقاء بأمثالهن، لذا هن يتنقلن من حلقة إلى أخرى. ومن جماعة إلى أخرى ولو على غير سابق معرفة. ويشتركن بكل حديث، ويعلقن على كل حكاية أو خبر، ويبحثن في كل موضوع، ويطلقن لألسنتهن العنان. لا يتحرجن في التعليق، ولا يتروين فيما يبدين من رأي أو تعليق. هن يناقشن بملء الحرية والصراحة، ولو أدى ذلك إلى نزاع أو صِدام وسباب وشتائم!
لاح التساؤل في عيون المتطفلات والفضوليات. وتساءلن: من تكون هذه القروية العجوز؟ ما هذه الحسرة؟ أهي حسرة مظلوم، أم محروم، أم هي حسرة المذنب الأثيم؟
أحدى المتطفلات أرسلت شهقة استغراب، وضحكة استهزاء وعجب: الله يا خاله غفار ذنوب، وستار العيوب، والدنيه غروب. شيلي ايدج للدَعَه، واستغفري الله، وانتِ باب المراد، دگيها وأطلبي، لو جنتِ محرومة، لو مظلومه، وما نگول عشك –عشق-! أنتِ انشاء الله من أهل الخير!
دمعت عينا الشيخة، وبدا وجهها شاحباً، وشبحت عيناها إلى العلاء. ثم أدارتها بسرعة نحو المتجمعات حولها. وابتسمت ابتسامة معبرة عن طيب قلبها، وسذاجة عواطفها. لكن أخريات من المتطفلات، تضاحكن وقالت إحداهن: اي خاله، شيلي ايدج للدَعَه، وَيَ هاليدعون، كلهم شابحين عيونهم للعينه ماتنام! أطلبي مِنَه التريديه، هَسه من لسانج لباب السِمه!.
وقالت أخرى: شمدرينه؟ ولن ذنب الخاله ماينغفر؟!
عجوز نجفية ردّت هؤلاء المتطفلات عن هذرهن، وقالت: آه منجن بنات هالوكِت ... ويا صلافتچن؟ وين بيا وكت. و ويّامن؟ وَيّ زايره، وغريبه، وما هي گدچن؟. ومع شهقة رفعت رأسها إلى العلاء: ربي ارحمنه، ولا تعاقبنه بذنوبنه!
أما الزائرة، فقد نظرت إلى المتجمعات وهي تبتسم ابتسامة الساخر من نفسه وقالت: الله يرحم الجميع يا بناتي، غرﮔانه بذنوبي، ولا لي مفر ولا مخلاص!.
وانسابت من عينيها الدموع، وهي تنشج نشيج الهائم المفجوع ... قالت العجوز النجفية: لا يختي. رحمة الله واسعة، الله غفور رحيم.
- وشديد العقاب؟
قالت هذا أحدى الفتيات، وهي تزوي حاجبيها!
رفعت القروية طرف خمارها تجفف به دموعها، وقالت بلهجة متحرق: أي والله، شديد العقاب، وذنبي ما ينلبس عليه ثوب، ماله غفران. وحگه لَشْهَرْ -أفضح- نفسي بكل مـﭼان. واتحمل عذاب الخزي بالدنيه گبل الآخرة، وتظل يَمَّه. ايعَذِب لو يغفر!
- لا، لا خيه. گومي، اذكري الله. صلي هسه الواجب، وتوبي بينج وبين الله. ومن تاب، تاب الله عيه!
توجهت للطواف بعد الصلاة. وفيما هي تطوف، شبحت عيناها بذهول، إذ رأت جموعاً غفيرة تعلقوا بأستار الضريح، رافعين أيديهم، شابحين أنظارهم إلى العلاء إلى الله. يبتهلون والدموع تنهمر من عيونهم غزيرة، يجأرون بالدعاء. يمسكون بحلقات الشباك، تَمسُّك الخائف الذليل، يُحَرك بعضهم رأسه حركة رتيبة ذات اليمين وذات الشمال، ولصوته نبرة المحزون المكروب، وهو يدمدم بكلمات لا يُفهم منها غير استجارة مذنب واستغاثة من عاقبة إثم عظيم.
قالت في نفسها: وها الناس كِلهَه تلوذ ببو حسين مثلي؟ ويحميه حمّاي الحِمَه؟
وغرقت في ذهولها حتى لم تعد تدري بشيء. ومدّت بصرها كمن ينظر إلى مدى بعيد. لا حت لها القرية بأكواخها المنتشرة، وألواح الشلب الخضراء الممتدة، وشجيرات الصفصاف المتسلسلة على ضفاف النهر، فتنعكس خضرتها الرائعة على مائه الرقراق، وهو يجري متمهلاً، مشية المُتعَب، يخترق القرية مستقيماً ثم يتقوس تدريجياً عند نهايتها.
فذعرت وأجفلت. وشعرت عند هذا انها ما تزال ممسكةً بمشبك الضريح الفضي، وأطلقتها زفرة حادة -آحِـ ....- ثم عادت إلى ذهولها. ولاحت في خيالها القرية من جديد، لاح لها شبح "بَدِع" وهو يختال بقده الأهيف، بعقاله المرعز، ويشماغه المجوت، وقد رمى طرفه الأيمن على رأسه –فوق العقال- وتَدَّلى -الشرباك- الذي يشد الخنجر فوق خاصرته. وزان وجهه شاربه الأسود فوق شفتيه اللمياوين، وحاجباه كقوسين على عينيه العسليتين الواسعتين ... راحت تستعرض وتتذكر كيف كان يذهلها حين تسمعه –يتنحنح- وكيف كانت تتبعه بنظراتها إذا مرّ، تظل عيناها تتابع مشيته حتى يختفي عن عينيها.
انبسطت أمام عينيها صفحة الماضي البعيد، يوم كانت شابةً، تتجسد فيها كل معالم الجمال، لكن يصاحبه كل نزوات الشباب وطيشه، وجرأته بكل مظاهرها. وتذكرت كيف اندفعت ظهيرة يوم، وهي تستريح تحت ظلال صفصافات كثيفة، على ضفاف النهر، وراء "بدع" وأمسكت بكتفيه، وأنفاسها تتسارع، حارة كأنفاس المحموم، لقد أوسعته بالقبل، ومرغت خديها على صدره، وشدّت نفسها إليه بعنف لكنه كان يتملص، وقد بدا وجهه صارماً. وطال التشبث حتى أنهار بين الأغراء بالقبل والعناق، والميل الذي كان يكمن منذ زمن بين جوانحه إليها. وكان ما كان.....!؟ ولعنة الله على الشيطان! فعادت تسحب أذيال الخزي والعار!
تصبب جبينها عرقاً من خزي ما تذكرت. لكنها ظلت مستمرة في ذهولها. وتذكرت ما همست لنفسها حين عادت إلى البيت "أدَبرّهَ. الشيطان ما مات". وظهرت بين نساء البيت أكثر مرحاً. كمن يحس بنشوةٍ من سرور بالغ.
ودار بين نساء البيت حديث، عن الأزواج والزواج، وتعرضت أحداهن لذكر ابن عمها "شمخي" الشاب الساذج، بل الأبله، فأوسعته ذماً وتجريحاً بلهجة سخر غاية في السخرية. فتصدت لتلك وردّتها بحماس. مما لفت نظر أمها إلى غرابة الأمر، وكيف هزّها الفرح فقالت:
- دِرداغة؟ عقلتِ! من ها الساعة آمري وتدللي!
وردّت على أمها: عجيبة؟ ابن عمي، والنعِم!
وكمن يفيق من حلم مخيف، ارتعشت، وسالت الدموع على خديها، ثم أجهشت ،وهي لا تملك أعصابها، بالبكاء، وانهارت قواها. فاستقرت على الأرض بجانب الضريح، وأسندت كتفها الأيسر عليه. وعادت إلى ذهولها، تسائل نفسها: يا ذنب يبو حسين اَلوذَن بيك منه؟ العار، لو الغدر؟! أحّ. لعنة الله على الشيطان. گلت أدَبرهَ. الشيطان ما مات!؟ إلا شلون دَبَرتهه؟ مسكين شمخي ... شلون راح نتلاگه يوم المحشر؟ عفيه عليّه مِن بِت -بنت-! خنگت زلمه! ويا براعتي ووكاحتي، شلون بعد ماخنگته نمت وياه طول بطول، وخذت عيني نوم، ولاﭽَن سويت شي؟!.
وانتصب أمام عينيها شبح أبنها "نايف" يحمل خنجره الملطخ بدم "بدع" وقد سقط صريعاً بنفس المكان الذي راودته فيه. ونايف منه، فبدع أبوه! وكأنما حملته ليشب فيكمل جريمة أمه. فبعد احدى عشرة سنة من زواجها من ابن عمها شمخي، شب هذا الصبي ونضج فبدا وكأنه ابن عشرين...
وعادت تسرد بقية حكايتها، يبدو أن في صدرها أمر مبيت، وإلا فلماذا صحبت ابنها معها اليوم وفي هذا الوقت بالذات -في هذا الوقت تقل المارة- جلست على ضفة النهر. ومرّ بدع ففزعت، وكأنما أحست لدغة حشرة سامة ... والتفتت إلى ابنها نايف: نايف يَبني. آنه أمك!
أنتفض نايف: آنه ابنج يمه، احجي، آنه بامرك حتى على الموت!
- تشوف يبني هالزِلمه. تراهُ تحرش بيه من أيام!
واندفع الصبي، وبسرعة خاطفة، خرّ بدع صريعاً يتخبط بدمه.
وثارت عشائر هذا ، وذاك، ودوت أصوات البنادق، وسالت دماء، وسقط عدد من رجال الطرفين ضحايا.
استعرضت أم نايف سيرتها. اعترفت أمام العجائز والشابات. كما يعترف المذنبون النصارى أمام القديس. وأذهل حديثها جميع المستمعات، فشرّق بهن الخيال وغرّب. أصابهن ذهول لا يوصف. أهكذا يكون المكر؟! ونظرن، فإذا بها تضطرب اضطراب الذبيح. قالت بعض النسوة اللواتي قدمن بعدما أنتهى كل شيء، متسائلات: ماذا حدث؟
أجاب أحد السادة من خدم الحضرة العلوية:
- مطلوبة نِذِر!
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي
كربلاء في 30/06/1963
الهامش
1- هذه الباب، أرسلها السلطان "مراد" العثماني -سلطان الأتراك-، كانت رائعة بنقوشها الهندية الرائعة. لكن النساء أعتبرن معنى –مراد- أي أنه باب تستجاب عنده الدعوات!
*- الناشر محمد علي الشبيبي