هبة الله أحمد - التِّرْسَةُ..

لم تدرك أن نسمات الصباح الأولى ستكون بتلك البرودة، وأن رذاذ البحر المتطاير سيصيب عباءتها السوداء بهذا التَّخَشُّب. أَحْكَمَتْ "نعيمة" أو "نُعُومة"؛-كما يناديها أهلها وأصدقاؤها- شالها الأخضر حول وجهها النحيل الخمري، وأخذت تنبش الأرض بخطوات مُسْرعة؛ مثل "كَتْكُوت" مذعور؛ أضاع الطريق من أمه! لم تحاول أن تُفَنِّد أسباب الارتعاش، ولا دَقَّات قلبها المذعورة؛ في طريقها من بيتها في "السَّيَالَةِ" حتى "حلقة السمك" في "الْأَنْفُوشِي".
أتخاف أن يراها أحد زملائها في المدرسة"؛ أو إحدى تلميذاتها؟ أم خافتْ من لوم جارتها العجوز "أم علي رومية"؛ لو علمتْ أنها ستنفذ ما أَسَرَّتْهُ لها من يومين؟! أم أن الارتجاف نابعٌ من خوفها من ضياع مسعاها في إرضاء "أحمد" خطيبها؟ "أحمد".. ما زالت كلماته في مقابلتهما الأخيرة تَرِنُّ في أذنيها؛ وهو يشيح ببصره بعيدًا عنها؛ يرسل لها بين الحين والآخر نظرة ضيق؛ وهو يدخن سيجارته بشراهة مَنْ يعتقد أن التَّبْغَ يحمل خلاصه:
- أخرج مَعَاكِ ازَّاي كِدَه يا نعِيمَة؟ إِنْتِ مش شايفة نَفْسك؟ بَقِيتِ شبه عود القصب الممصوص. وشك بقى مصفوط خالص يا نعيمة؛ غير اللَّجْلَجَة اللي بتمسِكك
- ما هو يا "أحمدْ"؛ أنْتَ كنت زعلان؛ عشان أنا تخينة، ولمَّا خَسيت مش عاجبك!
- هو يا كده يا كده.. اعملي اللي يعجبك؛ أنتِ دماغك مريحالكِ، وأنا مش فاضي.
نزلت حافية القلب؛ دامعة العينين؛ لشقة جارتها السيدة العجوز الخبيرة؛ صديقة المرحومة أمها، وخالتها أم "أحمد" خطيبها؛ التي صارت زوجة أبيها وحماتها في آن واحد.
لم تعرف غير "أحمد" طيلة حياتها، وقد وُهِبَا لبعضهما من صغرهما، ودعَّم هذا الوعدَ زواجُ أبيها بعد موت أمها عنها، وعن أخيها الصغير؛ من خالتها "أمه" بعد موت زوجها هي الأخرى.. أحَبَّته وَاتخذته حبيبًا وصاحبًا؛ أخًا وسندًا. أحبت طيفه، وقمح خطاه، ودخان تبغه.
دخلت دامعة شقة "أم علي رومية".. تلك السيدة التي شارفت على السبعين؛ ذات الوجه الأحمر المليح جدا؛ و الصوت الرَّنان، والسِّنَّةِ الذهبية التي ترفض أن تستبدلها بأخرى؛ تشبه الأسنان الطبيعية، لها من الأبناء ستة؛ أكبرهم تاجر أقمشة في "الزَّنْقَةِ"()؛ اسمه: "علي"، وهو سبب كنيتها، وأطلق عليها الجيران "أم علي رومية"؛ لِحَمَارِ وجهها، وضخامة جسدها، وخيلائها؛ فكانت تشبه "الدِّيك الرُّومي"!
أَجْلَسَتْها، وقدمتْ لها كوبًا من "العِنَّاب"، وسألَتْها: احكي يا موكوسة؛ حصل إيه المرة دي؟
أخبرتها "نعيمة" بحوارها مع "أحمد" وبإهاناته التي تحفظها عن ظهر حب، والتي لم تكن الأولى؛ فهو دائم الانتقاد لها بعد خطبتهم الرسمية بفترة قصيرة؛ لا يُفَوِّت فرصةً تمر دون أن ينتقدها؛ أو يَتَصَيَّد لها الأخطاء؛ صابًّا انفعاله عليها؛ مع أنه الشاب الخلوق النَّبيل الهادئ، دائم الابتسام في وجه الجميع.
- ما بيحبكيش يا نَعُومَة، وممش رايدك يا بنتي. اللي بيحب حد ياضنايا، بيحبه زي ما هو كده بعَبَلُه وعَبَطُه.
بيقول لك: حبيبك يمضغ لك الزلط، وعدوك يتمنى لك الغلط. أنتِ ماسكة فيه ليه؟
- بحبه يا خالتي، متربيين سوا، وماعرفتش غيره. ساكن معانا في الشقة. لو سيبته؛ الناس هتاكل وشِّي. خَالتي ووأبويا ممكن يتطلقوا فيها.
- خلاص ما تشكيش يا روح خالتك! وَاسْتحملي ضَرب الشِّبْشِب على راسك.. أنْتِ متعلمة، ومعاكِ شهادة، وبتشتغلي، وست البنات، لكن نقول إيه: هبلة و موكوسة! يا بت: اعملي لك كرامة.
- يوووووووووووووه، خلاص يا ولية، قولي لي: أتخن تاني ازاي، ووشِّي يحمر شوية.. أخدت فيتامينات، ورُحت للدكتور تغذية؛ مافيش فايدة، وكل مدى؛ باخس زيادة، و"أحمد" يبص لي ويدور ووشه عني، ودلوقت بطل يبص خالص..
قالت "أم على": التِّرْسَة
- نعم؟
لم تفهم "نعيمة"
أم علي: دم "التِّرْسَة"؛ يا نعومة! تُروحي "الْحَلْقَة" عند واحد هنبعتك عنده، بس بدري، يدبح التِّرسَة وتاخدي كوباية دم منها؛ وهو لسه سخن، وتشربيها مرة واحدة! الدموية هتَرْجع ترد في وشك، وَنِفْسكْ تتفتح، وتاكلي وترجعي تبقي بطة زي الأول.
- أحييييييييييييه! إنتِ عاوْزَانِي أشرب دم؛ يا خالتي؟!
- الْغَاوِي؛يا عين خالتك ينقط بطاقيته، وبعدين أنتِ طَافْحَة المُر مش هَتَطْفَحِي الدَّم!
شتمتْ بصوت مكتوم "أم علي رومية"؛ وشتمت نفسها أكثر؛ حين لفحتها موجة أخرى من الصقيع؛ فأسرعتِ الخطى.. فقد قاربت الساعة على السادسة والنصف؛ وقد أخبرتها "أم علي رومية" أن "سمير الروبي"؛ سيذبح "التِّرْسَةَ" عند السابعة تمامًا، ويجب أن تكون هناك قبل ذلك؛ لأن فائدة الدم تكمن في شربه ساخنًا.
وصلتْ ورأتْ تلك المخلوقة المسكينة ممدَّدَةً على طاولة كبيرة؛ بالكاد اتسعت لحجمها، ورأتْ أناسًا كثيرين؛ متحلقين بالقرب منها، وفي يد كل منهم كوبٌ؛ ليأخذ نصيبه مثلها تمامًا.
تُذْبَحُ "التِّرْسَةُ" سِرًّا؛ لأن ذبحها مُجَرَّمٌ؛ نظرًا لكونها مهددة بالانقراض.
اقتربت من "سمير الروبي"، وأخبرته؛ من هي ومن بعثها؛ فأخبرهَا أن تنتظر قليلًا.
رمت نظرة لعين "التِّرْسَةِ"، ورأت بها مسحة حزن، وخيبة، تشبه ما بها، وخُيِّلَ لها أن أحلامها المَوْءودة تتراقص رقصتها الأخيرة على صدفتها.
اقتربت السكِّين، ونحرت الرأس بسرعة! سُكِبَ الدم في إناء ضخم، وامتدت يد الجميع إليه؛ وهي بينهم.. ملأتْ كوبها هي الأخرى؛ فجرعت منه جرعة كبيرة.
كيف تحولتْ إلى مصاصة دماء؟! أملت أن تلقى به سر الخلود في قلب من تحب؟!
(اللي بيحب حد بيحبه؛ بعَبَله كده زي ما هو. مش يُقعد يفَنِّط فِيه)
رَنَّت كلمات أم "علي" في أذنها؛ فأصابها الطنين، وتقلص البطن وهمتْ بالتَّقَيُّؤ
فتذكرت كم تحب "أحمد" بعبله كده زي ماهو!
فتجرعت مرة واحدة ما بقي في الكوب من دم!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى