د. علي زين العابدين الحسيني - قراءة شخصية عن أحمد الزيات

لا أندرَ أن أعلل شدة إعجابي بالأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات ومدرسته الأدبية، هذا الإعجاب الذي جعلني أكرر النظر في كلّ مقالاته، وأهتم غاية الاهتمام برسالته الزياتية ورواد مدرسته، وقد وجّه اللوم إليّ مراراً بسبب انشغالي المتكرر بهذه الحقبة الزمنية الفريدة وأربابها، وتأويل ذلك أنّ هذا التعلق قد سرى إليّ من أستاذنا الملائكي "محمد رجب البيومي"، حيث كان دائم الاستشهاد بأستاذه "أحمد حسن الزيات" أدباً وإبداعاً، وخلقاً وعلماً، فجذب تلاميذه منذ عرفوه إلى "الرسالة الزياتية". نشأتُ منذ تعرفت على أستاذنا "البيومي" على إجلال "أحمد الزيات" وإكباره، وقد ألزمني البيومي بقراءة ورد يومي من مجلة "الرسالة" كان له الأثر البالغ في تكويني الثقافي.
والحق أنّ اتصال محمد رجب البيومي بأحمد الزيات من ريق عمره كان توفيقاً من الله إلى كمال النضج الأدبيّ والفكريّ، وحسن الاستفادة علماً وسلوكاً. ويكاد يكون أحمد حسن الزيات واسطة العقد بين أدباء عصره، فقد تلقى وأخذ عن الشيخ سيد بن علي المرصفي والسيد مصطفى المنفلوطي، ثم كان محمد رجب البيومي ووديع فلسطين من تلاميذه، وفي أستاذنا رجب البيومي لين الزيات ورفقه وسماحته وحكمته مع مخالفه في الرأي! وأنا أرجو الله أن تسري عدوى اللين والرفق وتقبل الآخر التي كانت يتصف بها أحمد حسن الزيات إلى جميع كُتّاب العصر!
وفي أسلوب الزيات الكتابي هدوء ووقار، وتعليل واستقصاء، ومنطق واضح، ورأي قوي، وطمأنينة وراحة بال، وذكاء فهم، وصفاء ذوق، وغزارة مادة، كوّن نفسه من بلاغة الأزهريين وثقافة الغرب، علاوة على أسلوبه المنمق الأنيق، فيضع الكلمة بعد الكلمة والجملة بعد الجملة بعناية فائقة، ويؤدي المعنى العام باقتصاد مع المحافظة على الصورة الإبداعية في غالب كتاباته.
ليس من السهل أن نجد في الأدب كاتباً مرموقاً ذا فنون أصيلة وثقافة معاصرة أوفر من ملكة الزيات وعلومه!
لم تكن نظرة الأدباء للزيات على أنّه فردٌ عاديّ، بل كانوا ينظرون له على أنه مؤسس مدرسة أدبية أوجدت كُتّاباً وخلقت أدباء، فلها مدرسوها وروادها وخريجوها ومحبوها وأنصارها، ولمدرسته الفريدة ذلك الأثر البالغ في توجيه الأجيال إلى قضايا العروبة والثقافة الإسلامية والاعتزاز بالعربية وتراثها إلى وقتنا الحاضر، ومما يستشهد به في هذا الصدد قولة أستاذنا وديع فلسطين الأخيرة عنه: "الزيات لا يعوض، ومجلة الرسالة تاريخٌ أدبيّ لا مثيل له، ولو عاش الزيات في العصر العباسي لكان سيد الأدباء بأسلوبه وأخلاقه".
ويبرز الأستاذ "عباس خضر" قيمته الحقيقية في مقاله "كلمات كان يصححها الزيات"، ويحدد معالم منهجه، وأصول عمله في قوله: "أحمد حسن الزيات -صاحب مجلة "الرسالة" القديمة ورئيس تحريرها- كان أستاذ جيلنا لا بكتابته فقط، بل كذلك بمجلته التي رضع لبنها الأدباء والمثقفون في شتى أنحاء الوطن العربي. كانت جامعة عربية قبل أن تنشأ جامعة الدول العربية، بل كانت أكثر فعالية وأبلغ تأثيراً، فلم تكن قد أدركتها السياسة بعد بعجرها وبجرها".
لا تزال كتابات الأستاذ "أحمد حسن الزيات" قوية حية تبعث في النفس أثارة من المتعة، وقوة في التفكير، ودقة في النظر، وتأصيلًا في الرؤية، متماشية مع أحداثنا المعاصرة، كأنّه كتبها لأبناء جيلنا، ومما تَميز به النابغةُ الزيات عن غيره أنّه كان يُحدث النّاس بقلمه كما يحدثهم بلسانه.
أحببت الزيات وأردت التمتع بمقالاته وأفكاره، وصممت أن أنتزع من كل ما كتبه ما أستطيعه من فوائد ونوادر، ولم أقنع بقراءة واحدة لكتاباته، أشك في عدم الإحاطة بجميع محاسنه من خلال تلك القراءة، الأمر يتطلب عدة قراءات واعية لأفكاره، وقد رأيت ألفاظه فيما بعد تجري على لساني عن غير قصد، واكتشفت أن الانشغال بالكبار أولى للمرء من تضييع أوقاته في كتابات هزيلة، لا يحسن المرء بعدها أن يرتب معها قلمه، لكنّ أناساً لا يستهويهم هذا الانشغال!
وجميل أن يكون لدى شخص واحد هذه الكثرة من المقالات المختلفة، والأجمل أنك لا تفتقر أبداً إلى موضوع كتبَ فيه؛ لأنك تحصل في كتابته ما يغنيك عن أي تساؤل يدور في ذهنك، ولم تستطع أي كتابة معاصرة أن تقضي على هذا الشعور المصاحب لقراءة مقالاته النفيسة، ولا أخفيك أنه إذا استجدت حادثة مجتمعية فزعت إلى "الرسالة الزياتية" لأجد فيها جواباً شافياً عن مشاكلنا المعاصرة، وهذا يؤكد لي أنّ أدب محترفي الكتابة واسعي الثقافة هو من أدب الأمم الباقية، وأما الأدب الذي يعتمد في إنتاجه على الهواة أو قليلي المعرفة فهو أدبٌ هزيلٌ يحكم على نفسه بالموت في الحال، أو في المآل.
وللزيات جهدٌ عظيمٌ وتاريخ باهر في الحياة الأدبية المعاصرة، فمجلته "الرسالة" إطلالةٌ حية على أربابِ الحضارة وجيلِ الثقافة، وله فضلٌ كبيرٌ على أدباء عصره أيضًا، فقد كانت رسالته الزياتية بداية ميلاد لكثير من الأدباء، وبداية تأليف كتب أدبية حافلة جمعت فيما بعد من مقالاتها، ولم يكن الزيات يقتصر على تصحيح الأخطاء الواقعة في مقالات بعض كُتّاب مجلة "الرسالة" مع أنه يستغرق من أجل ذلك وقتاً طويلًا، بل كان يقوم أيضاً بتقويم أساليب الأدباء، قال تلميذه النابغة أستاذنا الأكبر محمد رجب البيومي في كتابه "النهضة الإسلامية"، ج٥، ص١٨٨: "أقول ذلك اعتماداً على ما رأيتُ من عناية الأستاذ أحمد حسن الزيات بتقويم أساليب الكبار من العلماء من أمثال ساطع الحصري، والأب انستاس الكرملي، وإسماعيل أحمد أدهم، وغيرهم حين يكبو بهم القلم في أخطاء تعبيرية تهبط المقال، والأب انستاس لغويّ كبير، ولكن اللغة شيء، وصياغة الأسلوب المطرد شيء آخر".
لقد اختفى هذا المجد الأدبي وخلف من بعدهم خلفٌ أضاعوه! إنهم يحاولون أن يقدموا شيئاً لم يخلق الإبداع له!
والجهلُ بالعلماء والأدباء وعدم الالتفات لهم صفةٌ قديمةٌ، ولقد اشتكى أحمد حسن الزيات نفسه سنة ١٩٣٨م من ذلك، فكتب تلك الكلمات في إحدى مقالاته: "وا ضيعتاه، أبعد ثلاثين عاماً قضيتها في الأدب أكتب في كلّ يوم مقالاً، وألقي في كلّ أسبوع محاضرة، وأخرج في كلّ سنة كتاباً، أجد في المتعلمات بالقاهرة مَن تسأل: أمن الشام أنا أم من مصر؟!".
وإذا كان البعض قد يجد في وقتنا الحاضر عدم الحاجة الماسة إلى ذكر هؤلاء الكبار والتنويه بأفضالهم في الكتابات المعاصرة فإنّ عليهم أنّ يذكروا أن هؤلاء العظماء قد أهدوا لنا طريقاً سلكناه، ومهدوا لكثير من الإبداعات التي جاءت بعدهم، وأن علينا واجباً نحوهم لا نستطيع أن نتخلى عنه، فهم رواد النهضة الأدبية الحديثة، وغيرهم مهما بلغ من الإتقان والإبداع فلن يبلغ عشر مقدار ما أنجزوه!



د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري
مجلة "كل العرب" بفرنسا، عدد: يناير، ٢٠٢٣م، كل الشكر لأسرة التحرير الموقرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى