د. عبدالجبار العلمي - رسالة إلى الأديب القاص المبدع إدريس الخوري في العالم الآخر

بسم الله الرحمن الرحيم
استفتاحاً باسمه ، واستنجاحاً ببركته، والحمد لله المبتدي بالنعم ، .. خالق الخلق ومبديه ، ومبقيهِ ما شاء ومفنيه.( ) وبعد ،
أحب أن أقول لك ، بادئ ذي بدء، إنه ليس من باب اللياقة أن أناديك في رسالتي هاته بلقب
" بادريس " الذي كان يحلو لأصدقائك المقربين أن ينادوك به تحبباً وتقرباً وإعزازاً، فليس بين الأصحاب كلفة ، وإنما انبساط وأُلْفة.
عرفتك من خلال صورك التي كانت تنشر مع مقالاتك الأولى في جريدة " العلم " التي بدأت عملك الصحفي بها. كنت تبدو لي شاباً وديعاً ، حليق اللحية ، شعر الرأس قصير ، حلاقة تقليدية عادية ، شأن حلاقة جيلنا في الستينيات.
وعرفتك شاباً ناضجاً بلحية كثة سوداء فاحمة غير مشذبة ، وشارب عريض يحاذي طرفاه الأيمن والأيسر جانبي اللحية ، و"كَادومة " على شكل مثلث صغير تحت الشفتين ، وشعر رأس أشعث قد أرسل بشيء من الإهمال ، مغطياً الأذنين. وذلك في المرحلة التي برزتْ فيها ظاهرة الهيبيز Hippies في السبعينيات بعد ظهورها في الغرب في الستينيات باعتبارها حركة تمرد على المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي. لست أدري بالنسبة إليك هل الأمر كان مجرد تقليد للموجة السائدة ، أم موقفأ لا يخلو من التمرد وإهمال الذات في عهد كانت أوضاعه لا تسر ؟
ثم عرفتك كذلك في مرحلة الكهولة بلحية خفيفة بيضاء بياض الثلج ، وعلى رأسك برنيطة سوداء، وكنت آنذاك قد أصدرت متنا قصصياً غزيراً ، وغدوت كاتباً مشهوراً من أبرز كتاب القصة العربية القصيرة في المغرب إلى جانب محمد زفزاف ومحمد شكري وعز الدين التازي وأحمد المديني والأمين الخمليشي ومحمد أنقار ومصطفى يعلى.
وكانت أولى قصصك " حزن في الرأس وفي القلب " التي أصدرتها سنة 1973 بمقدمة رصينة للناقد المغربي إبراهيم الخطيب.
أرأيت لماذا وجدتُ حرجاً في ندائك بما ينادونك به الخاصة من أصدقائك؟ إنني أعرفك وأقدر موهبتك ومواقفك الشجاعة ، لكن من بعيد . مرة واحدة، وكانت مصادفة ، تشرفت فيها بركوبك سيارتي R12 بالرباط، وذلك في بداية سنوات الثمانين حيث أوصلتك إلى المكان الذي كنت تقصده. كم سعدتُ أنا ورفاقي بقبولك مصاحبتنا، لكي نقول ـ بكل اعتزازـ لأصحابنا المهتمين بمجال الكتابة والإبداع ، بأن صاحب " البدايات " و" ظلال " و"الأيام والليالي" و" فضاءات " ، والبروتريهات الصحفية الجميلة التي كنت تكتبها لأحبابك من الكتاب، كان بصحبتنا. أذكر أنك جلستَ في المقعد الخلفي إلى جانب أحد رفاقنا. دار حديث قصير بيننا، وقلنا لك إننا نعرفك جميعاً، وإننا طلبة نتابع دراستنا بالسلك الثالث ـ شعبة الأدب الحديث بكلية الآداب بالرباط. لم تكن المسافة طويلة ، وسرعان ما نزلتَ إلى مقصِدك.
أذكر ، أخانا إدريس الذي أنت في علياء العالم الآخر بعيداً عن هذه الفانية التي يغمرها النفاق والزيف والخبث والجبن ، أن مجلة الأقلام العراقية قد أجرت معك حواراً حول الأدب والثقافة وأوضاعهما في المشرق والمغرب ، فكانت ردودك تتسم بالصراحة والموضوعية ، فأعطيت لكل موضوع حقه. فقد أشدت بالنقد المغربي والنقاد المغاربة ، ولتسمح لي أخي إدريس أن أورد ما قلته بالنص " إن محمداً برادة وإبراهيم الخطيب ونجيب العوفي وعبدالقادر الشاوي وإدريس الناقوري، يمتلكون أدوات نقدية تستفيد بدرجات متفاوتة من الإنجازات النقدية المعاصرة ، ويُقْرأ بها النتاجُ الأدبي المغربي. ويدخل هذا الإنجاز في تفاعل الثقافات وتلاقيها عبر مستويات الفهم والتمثيل إن لم أقل الإضافة." ( ) وعن أبرز المعوقات التي تواجه الأديب المغربي ، أجبت الجواب الشافي الوافي الذي يخلو من المجاملة وتزييف الحقائق كالعهد بك. وأنا أخبرك في هذه الرسالة ، وأرجو أن لا أعكِّر صفوَك وهدوءَ عالمك ، خاصة إذا كنت في صحبة صفيك " الكاتب الكبير " محمد زفزاف ، أن تلك المعوقات التي كانت تواجه الأديب المغربي في مجال طبع الكتاب ونشره وتوزيعه التي كانت هماً يؤرقك ، ما زالت قائمة رغم مرور أربعة عقود من تاريخ ذلك الحوار الصريح. فدور النشر وإن كثرت ، فقد كثر معها الجشع المادي ، والمطابع الكائنة ذات طابع تجاري ، هذا فضلاً عن معضلة الكاتب الكبيرة المتمثلة في عملية التوزيع. ودعني أيها الراحل البعيد ، أعرب لك عن إعجابي بصراحتك وموقفك الرصين من (اتحاد كتاب المغرب ) الذي انخرطت فيه سنة 1968 ، ففي حين أشدت إشادة صادقة بأنشطته المتنوعة التي نظمها الاتحاد حول الرواية والقصة القصيرة خاصة في سنوات الثمانين ، وجهتَ نقداً لاذعاً إلى بعض الأعضاء الذين يتخذون الانتماء إلى هذه الجمعية الثقافية العتيدة وسيلة لتحقيق أغراض شخصية أو زعامة مفتعلة ( ص : 187 )
وغني عن البيان قيمة أعمالك القصصية فنياً ودلالياً ، لكن اسمح لي أن أقول لك : إن البورتريه الصحفي أو البروفيل الذي كنت تكتبه ، كان من أجمل الكتابات التي كنا نقرؤها ، ونجد فيها حقا (لذة النص ) حسب رولان بارت. خاصة حين يكون البورتريه عن أحبابك الذين تكن لهم حباً جماً ، وتقديراً عميقاً. وسأذكر لك اثنين من أروع وأعذب وأصدق البورتريهات التي قرأتها وكأنني أمضغ قطعة شيكولاتة من النوع اللذيذ المساغ :
ـ " محمد زفزاف الكاتب الذي يظهر ويختفي " ( )
ـ " حسن المنيعي : رجل في مدينة " ( )
ما أعذب وأصدق ما قلته في حق أستاذي وأستاذ الأجيال رائد النقد المسرحي في المغرب الدكتور حسن المنيعي رفيقك في عليائكم الطاهرة! منتهى الرقة والعذوبة والصدق والمحبة والحنان.
وأخيراً ، أتساءل : هل كان الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد محقاً في بيتيه :
كرِيمٌ يُرَوّي نَفْسَهُ في حياتهِ = سَتَعْلَمُ إنْ مُتْنا غداً أيُّنا الصَّدِي
ألا أيُّهذا الزَّاجِري أَحْضُرَ الوَغَى = وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذاتِ ،هَلْ أَنْتَ مُخْلِدي ؟


الهوامش :
1 ـ من رسالة ابن القارح ، رسالة الغفران لأبي العلاء المعري ، تحقيق وشرح : الدكتورة عائشة عبدالرحمن
( بنت الشاطئ ) ، ط. 4 ، دار المعارف بمصر ، 1963 ، ص : 21 .
2 ـ مجلة الأقلام ، عدد 10 ، أكتوبر 1983 ، ص : 136 .
3 ـ مجلة آفاق ، عدد : 61 و 62 ، 1 يناير 1999 ، 239 .
4 ـ مجلة آفاق ، رقم 63 ـ 64 ، 1 يناير 2000 ، ص : 339 .



* من كتاب "رسائل إلى با ادريس الخوري "
(حين نحتاج لتواصل جديد بين الذات والآخر)
تأليف مجموعة من الكتاب
تنسيق الروائية ليلى مهيدرة والقاص نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى