محمود الريماوي - معه حق السيد جيم

عادةُ حليمة

وقد أخفضت صوت التلفزيون لدرجة يحار السامع معها من أين يصدر الصوت الشجي المنخفض. وقيل لها: ما هذا؟ .. هل نحن في مدرسة ؟! ارفعي الصوت من فضلك.
فتمنعت وترددت وغمغمت..
قيل لها: ارفعيه وإلا جعلنا كل جهاز موبايل بين أيدينا يصدح بغناء نشاز.
سألتهم: ألن تقولوا عادت حليمة إلى عادتها القديمة؟
لا .. لن نقول. وهو على كل حال مجرد مَثَل. وسواء قلناه أو أحجمنا عن قوله فلن يؤخر ذلك، أو يقدّم في الأمر شيئًا.
تبسمت حليمة مصادِقةً على صحة ما قاله أفضل الزبائن وهو مدير المدرسة المتقاعد (المهموم الذي يعالج همومها بمجاملات فصيحة).. تبسمت برضى ورفعت صوت التلفزيون، وعادت الذبذبات الشجية لصوت عبدالحليم وموسيقى أغانيه تملأ فضاء المقهى، وتشحنه بالطرب والشجن، لكن حليمة المفرطة في الحساسية في هذه الأيام الشتوية، تمنت في سرّها لو أن أبويها أطلقا عليها قبل سبعة وخمسين عاماً اسماً آخر غير اسمها هذا القديم. وتساءلت: لماذا اسم حليم "حلو يجنن"، أما اسمي أنا: حليمة فلا يحبّه أحد؟.

طموح

وقعت نملة في حب فيل.
لكثرة ما التقطت بقايا حبوب من على جذعه وساقيه وأذنيه، ومن كثرة ما أقامت بأمان هنا وهناك على جُرمه المهيب، فقد ألِفَت إحدى النمال واحداً من الفيلة ثم تعلّقت به، ولم تعد تفارقه إلا عند الضرورة الموجبة. وقد فاتحته ذات يوم بحبّها الذي يملك عليها جوارحها، لكن أذنيه الوارفتين لم تسمعا شيئاً، وخرطومه الطويل بالكاد تحرّك لبوحها. ولم يثنها انغلاقُه عنها من دوام التّولّه به.
فلما فاتحت النملة إحدى صويحباتها بأمر حبّها فقد وبّختها هذه قائلة: أنت مجنونة، أنْ تحُبّي فيلاً كأنْ تُحبّ امرأة جبلاً. ولم يثنها التوبيخ عما هي فيه، واكتفت النملة العاشقة بأن غمغمت بخفر: لستُ أنا العمياء.. بل الحب هو الأعمى يا صاحبتي.
وفي طريقها اليومي إلى الفيل المعشوق صادفت النملة ديكاً قشيباً. اقترب منها الديك، وانحنى برقبته الطويلة نحوها قائلاً: يسْهُل أن ألتقطك مع الحبوب عن الأرض وأبتلعك، لكني شعرت بشفقة ثم بإعجاب ثم.. لماذا الكذب: شعرت بمودّة خاصة نحوك. الدجاجات من حوله تصوّرن أن ديكهن قد جُنّ فأخذ يتحدث مع التراب. تكّرر اللقاء مع الديك، وظلت النملة تسمع منه العبارة نفسها إنما بنغمات مختلفة وبتموجات جديدة لرقبته. بينما ظلّ الفيل يملأ مخيلتها ويُلهب مشاعرها. حتى استبد الغضب بالديك ذات يوم، وقال لها ساخطاً: رضينا بالغُلب، والغُلب لم يرضَ بنا. ما سرّ عنادك وصدودك عني يا نملتي المبجلة ؟. النملة التي لا تفارقها صورة الفيل ردّت قائلة: أجيبك شرط أن لا تزعل. فأجاب: لم أفقد عقلي بعد، كي أزعل من نملة شقراء تائهة. هيّا تكلمي. فأجابت: مع أنك بهيّ الطلعة قشيب المنظر طيّب القلب، لكنك لست فتى أحلامي. وبصراحة أنت لم تملأ عيني. هكذا ؟ّ سألها الديك بصوت مخنوق لكنه مسموع. لماذا لم أملأ عينك وأنت بالكاد لك عين تبصرين بها؟. أجابته على التو ومثل تلميذة شاطرة تحفظ درسها عن ظاهر قلب: لم تملأ عيني لأنك صغير.. ربما تكون كبيراً بين الدجاجات، لكنك صغير مقارنة بمن يستهويني.
سمعها الديك وكاد يقع على جنبه من هول المفاجأة، ثم من الضحك المكتوم، وأخذ يدور حول نفسه غير مُصدّق ما سمعه، أما الدجاجات من حول الديك فقد تيقّن هذه المرّة أنه قد جُنّ وانتهى أمره، فيما واصلت النملة غير آبهة بشيء شقّ طريقها نحو من استوطن قلبها.

عين

عين رجل متقاعد، مُقبل على الحياة بطريقته.
تعبُر رأسه في أي وقت وفي أية رقعة أفكار طموحة ومشاريع بهيجة، ويقوم على تطبيق بعضها، مثل السفر الفجائي أو اقتناء قط أو الاتصال بأربعة أو خمسة أصدقاء قدامى، ويظل في الوقت ذاته محتفظاً بجدّيته التي تخالطها كآبة ظاهرة.
إنه مُقبل على هيئة مُدبِر..
فلما تلقّى اتهاماً من صديقه القديم فاء، بأنه ينظر إلى النصف الفارغ من الكأس، فقد أقرّ بذلك غير مُنكر، قائلاً بصوت أعلى من طبقة صوته المعهودة: نعم لا تفوتني رؤية النصف الفارغ، إني أنظر حقاً للنصف الفارغ من الكأس ..
ولكن كي أملأه يا صاحِ. كي أسارع إلى ملء الكأس إلى آخره يا صاحِ..أملأهُ إلى آخره، إلى آخره.. هل تفهم؟.
صديقه فاء يسمع مبهوتاً، ويتراجع من مكانه خشية أن يتسرب خيط ثخين من الكأس الذي يفيض إلى حافة الطاولة، ثم إلى بنطاله.

جيم

كلما طرأ أمرٌ حَسن على حياة جيم، كلما تجدد في نفسه الشعور بالتشاؤم.
يحدث ذلك حين ينال ترقية في عمله، صحيح أنه يبتهج ويختال لهنيهات، لكنه سرعان ما يغتمّ، وذلك لثقته أن غلاء المعيشة سوف يبتلع قريباً جداً الزيادة على راتبه، وللأسف فإن توقّعه يُصيب دائماً.
ويحدث هذا كلما أثنى زميل أو صديق على صحته (علماً بأنه يستحق الثناء عليها، فقامته معتدلة وبشرته نضرة ولديه ابتسامة ناصعة .. حقاً إنها مُعلّبة لكنها ابتسامة مشرقة)، المهم أن الثناء على صحته يُذكّره بوجوب إجراء فحص طبي دوري، وهو قلما يُجريه خشية اكتشاف لعنة ما، شبه متأكد منها.
وقد فاز مؤخراً السيد جيم، وهو موظف خمسيني، بأول جائزة مالية في حياته (يؤكد لنفسه أنها ستكون الأخيرة) بقيمة تزيد قليلاً عن عشرين ألف دولار. الجائزة منحه إياها (بالقرعة) البنك الذي يتعامل معه.
سارع إلى تسديد 12 ألف دولار للبنك من أصل ديْن متبقّ عليه يبلغ 18 ألف دولار.
ثم باع سيارته "القديمة" بستة الآف دولار، واشترى سيارة أحدث بمبلغ 14 ألف دولار.
وأخذ جيم بعدئذ يُمضي أوقاته ساهماً، محاججاً أصدقاءه القلّة الذين غبطوه على الجائزة، بأن شيئاً لم يتغير على وضعه. وأن شيئاً "جوهرياً" لم يحدث ولم يطرأ على حياته.
.. فقد كان يمتلك سيارة، وما زال.
وكان مَديناً للبنك، وما زال.
...بين مواهب قليلة يمتلكها البورجوازي الصغير جيم، موهبة التشاؤم. وسواء احتُسب هذا التشاؤم فلسفياً أم محض ارتكاس نفسي أم مجرد انحراف مزاجي، فالثابت أنها موهبة لا تفارقه، ولا يتخلى عنها..
معه حق، فلن يكون السيد جيم هو نفسه السيد جيم لو تخلى عن موهبته هذه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى